المقاييس الحقيقية للنجاح

11 دقيقة

عندما كنت أعمل لدى شركة خدمات مالية كبرى منذ 12 عاماً، طلب مني أحد كبار المدراء أن أستلم مشروعاً لأستطيع فهم ربحية الشركة بصورة أفضل. وكنت حينها أعمل في قسم الأسهم الذي كان يجني أرباحاً من أجور وعمولات أعمال تخديم مدراء الاستثمار، ويسعى لزيادة الأرباح إلى الحد الأقصى عن طريق تقديم أبحاث عالية الجودة والتداول المتجاوب (responsive trading) والعروض العامة الأولية. وعلى الرغم من أنّ لدينا مئات الزبائن، لكن أهمّهم كانت شركة كبرى لصندوق تحوط، إذ كنا نرسل باحثينا على الدوام إليها من أجل العمل مع محلليها ومدراء أقسامها، كما خصصنا لها رأس مال لضمان سير تداولاتها بسهولة، إلى جانب تخصيص حصة تليق بأهميتها عند توزيع حصص الأوراق المالية المطروحة للاكتتاب العام. ويمكن القول أننا كنا ملتزمين بإرضاء الشركة الضخمة دائماً.

وكان فهم ربحية القسم من كل زبون جزءاً من مهمتي. ولأجل ذلك قمنا بتقدير كلفة الخدمات التي قدمناها لكل واحد من كبار زبائننا. وكانت النتائج صادمة وغير متوقعة إطلاقاً. فقد كانت أرباحنا من أكبر زبائننا هي الأقل. بينما كانت أرباحنا من الزبائن المتوسطين الذين لم يتطلبوا أيّ موارد ملموسة أكبر من أرباحنا الناتجة عن تلك الشركة الضخمة التي سعينا لإرضائها.

ما الذي حصل؟ لقد ارتكبنا أكثر خطأ شائع في عالم الأعمال، إذ أخطأنا القياس. فالإحصائيات التي اعتمدنا عليها لتقييم أدائنا، وهي العائدات، كانت منفصلة عن هدف ربحيتنا العام. وبالنتيجة كانت استراتيجيتنا وقرارات تخصيص مواردنا غير داعمة لذلك الهدف. وسيبين هذا المقال كيف يخترق هذا الخطأ الأعمال التجارية، ولربما كانت شركتك ضمنها، ليقود إلى قرارات خاطئة يضعف الأداء معها. ومن ثمّ سيشرح كيفية اختيار أفضل الاحصائيات لأهدافك التجارية.

تجاهل الرسائل الواردة في كتاب "مانيبول" (Moneyball)

يُعتبر كتاب "مانيبول" (Moneyball) الأفضل مبيعاً للكاتب مايكل لويس، والذي يصف كيف اختارت شركة أوكلاند أثليتكس (Oakland Athletics) أفضل الإحصائيات لجمع أفضل فريق لكرة القاعدة (البيسبول) ليكون فريقاً رابحاً بكلفة قليلة. ونُشر هذا الكتاب منذ حوالي عقد من الزمن، وتمت دراسة آثاره على الأعمال التجارية بعمق. ومع ذلك لا تزال الإحصائيات غير المناسبة تُستخدم في الأعمال التجارية حتى اليوم.

قبل استخدام الشركة للأساليب التي وصفها لويس في كتابه، كان تجميع فريق كرة القاعدة يعتمد على آراء مكتشفي المواهب، الذين كانوا يقيّمون اللاعبين بصورة أساسيّة حسب قدراتهم على الجري والرّمي والتسديد والضّرب بقوة. حيث قضى هؤلاء المكتشفين معظم حياتهم في هذه اللعبة، إلى أن نشأ لديهم حسّ غريزي عن إمكانيات اللاعب ومواهبه، وهذا الحسّ هو أكثر ما اعتمدت عليه الإحصائيات. لكنهم بذلك غالباً ما كانوا يعجزون عن رؤية لاعبين ذوي فعالية كبيرة لأن مظاهرهم لم تكن توحي بامتلاكهم الموهبة والإمكانات المطلوبة. فالمظهر لا يكون له أي علاقة بالإحصائيات التي لها الأهمية الفعلية في التنبّؤ بالأداء على نحو موثوق.

وعند مناقشة الجولات الرابحة، اعتاد مدراء فرق كرة القاعدة التركيز على رقم أساسي، وهو معدل الضرب بالمضرب لدى الفريق. ولكن بعد إجراء التحليلات الإحصائية المناسبة أدرك المكتب التنفيذي في شركة أوكلاند أثليتكس أنّ قدرة اللاعبين في الوصول إلى القاعدة كان مؤشراً أفضل لعدد الجولات الرابحة. أضف إلى ذلك، كانت النسبة المئوية لوصول اللاعبين إلى القاعدة أقل من قيمتها الفعلية مقارنة بالقدرات الأُخرى التي يهتم بها مكتشفو المواهب. لذلك قامت الشركة بالبحث عن لاعبين يملكون نسباً عالية من تحقيق الوصول إلى القاعدة ولم يعيروا الكثير من الاهتمام لمعدلات الضرب باستخدام المضرب، كما لم يعتمدوا على حدسهم. وبهذا استطاع الفريق ضمّ لاعبين رابحين دون تكلفة مرهقة.

ويبني العديد من المدراء التجاريين الذين يسعون لإنشاء قيمة من أجل حاملي الأسهم اختياراتهم للإحصاءات على الحدس. وتسمّى المقاييس التي تستخدمها الشركات في أغلب الأوقات لقياس النتائج وإدارتها وإعلانها عادة "مؤشرات الأداء الرئيسية"، وتشمل مقاييس مالية كنمو المبيعات ونمو الأرباح للسهم الواحد، بالإضافة إلى المقاييس غير المالية كالوفاء وجودة المنتج. ولكن ارتباطها بهدف إنشاء القيمة ضعيف كما سنرى. ويستمر معظم المدراء بالاعتماد كثيراً على اختيارات غير مناسبة للإحصائيات، كما في حالة اختيار معدل الضرب بالمضرب لتوقع عدد الجولات الرابحة. إذ يمكن اعتبارهم مثل مكتشفي المواهب المخضرمين في كرة القاعدة، لديهم الحسّ الغريزي بشأن أكثر المقاييس ارتباطاً بتجارتهم ولكنهم لا يُدركون أنّ حدسهم هذا يمكن أن يكون مشوباً، وأنّ القرارات التي يتخذونها تتأثر بتحيزاتهم الإدراكية. حيث تعرّفت على ثلاثة من هذه التحيزات خلال عملي في الشركة والتدريس والبحوث التي قمت بها عنها. ويبدو أنّ هذه التحيزات ترتبط بما نتحدث عنه في هذا المقال، وهي انحياز الثقة الزائدة، وموجّه التوافر وانحياز الوضع الراهن.

الثقة الزائدة

غالباً ما تكون ثقة الإنسان العميقة بحكمه وقدراته متعارضة مع الواقع. فمعظم الناس مثلاً ينظرون إلى أنفسهم على أنهم سائقون أفضل من متوسط السائق العادي. وهذا الميل نحو الثقة الزائدة يمتد فعلياً إلى الأعمال. لنأخذ مثلاً الحالة التي تحدّث عنها ديفيد لاركر وبريان تايان من جامعة ستانفورد، والتي تتحدث عن مدراء سلسلة مطاعم للوجبات السريعة، فبعد إدراكهم أنّ إرضاء الزبائن محرّك ضروري للربحية، اعتقدوا أنّ انخفاض معدل دوران الموظفين يساعد على إرضاء الزبائن، وقال أحد المدراء: "نحن نعلم أنّ هذا هو المحرّك الرئيسي فحسب". أي أنه مجرد حدس لديهم. وبناء على ثقتهم بحدسهم ركّز المدراء على تخفيض دوران الموظفين كطريقة لزيادة رضا الزبائن، الذي يفترض أنه سيؤدي إلى زيادة ربحية الشركة. ولكن عندما وردت بيانات معدلات دوران الموظفين، تفاجأ المدراء بأنهم كانوا مُخطئين. فكانت قيم الربحية مرتفعة جداً في بعض مطاعمهم ذات معدلات الدوران المرتفعة. بينما كانت ربحيات المطاعم ذات معدلات الدوران المنخفضة ضئيلة جداً.

ولم تكتشف الشركة أنّ دوران مدراء المطاعم، وليس دوران كلّ الموظفين، هو ما شكل فرقاً في الربحية إلا باستخدام الإحصائيات الصحيحة لمجموعة العوامل التي يمكن أن تحرّك رضا الزبائن. ما دفع بالشركة إلى تحويل تركيزها نحو الاحتفاظ بالمدراء، وهذه الخطة أدت في النهاية إلى زيادة رضا الزبائن ورفع الأرباح.

غالباً ما تكون ثقة الناس العميقة في أحكامهم وقدراتهم متعارضة مع الواقع.

التوافر

يُعتبر موجّه التوافر استراتيجية نستخدمها لتقييم سبب أو احتمالية وقوع حدث ما على أساس مدى سهولة تبادر الحالات المماثلة إلى أذهاننا، أي مدى "توافرها". وإحدى آثار هذه الاستراتيجية هو ميلنا إلى إعطاء أهمية أكبر مما ينبغي لمعلومات مرّت بنا مؤخراً، وهو أمر يتكرر بكثرة ولعله أول ما يتبادر إلى ذهننا لسبب ما. مثلاً، يظن المدراء عموماً أنّ أرباح السهم الواحد أهمّ مقياس لإنشاء القيمة، وذلك يعود بنسبة كبيرة إلى الأمثلة الواضحة عن شركات ارتفعت أسهمها بعد ارتفاع أرباح السهم الواحد فيها بصورة فاقت التوقعات أو شركات انخفضت أسهمها بصورة مفاجئة بعد فشلها في تحقيق أرباح جيدة للسهم الواحد. وبالنسبة للعديد من المدراء، يبدو نمو العائدات سبباً قوياً لارتفاع أسعار الأسهم، لأن هناك ما يبدو لهم كأدلّة كثيرة على ذلك. ولكن كما سنرى لاحقاً، توجّه التوافر غالباً ما يؤدي إلى حدس خاطئ.

الوضع الراهن

يفضل المدراء التنفيذيون (مثل غالبية الناس) البقاء على نفس المسار وعدم مواجهة المخاطر المرافقة للتغيير. فانحياز الوضع الراهن يُعتبر جزئياً نتيجة لميلنا الموثّق جيداً نحو تجنب خسارة حتى لو كان بإمكاننا تحقيق ربح كبير. وأحد النتائج التجارية لانحياز الوضع الراهن أنه وعلى الرغم من تغيّر محرّكات الأداء الدائم، فإنّ المدراء غالباً ما يرفضون ترك المقاييس المستخدمة واستخدام مقاييس أُخرى مناسبة أكثر. فلنأخذ على سبيل المثال شركة تعمل على اشتراكات الزبائن، كمزود خدمات الهاتف اللاسلكي، فعندما تكون شركة جديدة في السوق يمكن اعتبار أهم مقياس للأداء بالنسبة لها هو نسبة اكتساب زبائن جدد. ولكن بمرور الوقت ينبغي عليها تحويل تركيزها عن زيادة الزبائن وتوجيهه أكثر نحو تقديم خدمات أفضل لزبائنها الحاليين عن طريق إضافة خدمة ما أو الحد من خسارة الزبائن. إلا أنّ جاذبية الوضع الراهن يمكنها تثبيط إجراء تحويل كهذا فينتهي الأمر بالمدراء عند إدارة شركاتهم عن طريق الاستمرار باستخدام الإحصائيات القديمة.

أخذ السبب والنتيجة بعين الاعتبار

لتحديد الإحصائيات الأنسب عليك طرح سؤالين أساسيين، أولهما: ما هدفك؟ ففي الرياضة يكون الهدف هو الفوز في المباريات، وفي التجارة يكون الهدف عادة زيادة قيمة حاملي الأسهم. أما السؤال الثاني: ما هي العوامل التي ستساعدك على تحقيق ذاك الهدف؟ إذا كان هدفك هو زيادة قيمة حاملي الأسهم فما هي النشاطات التي ستؤدي إلى هذه النتيجة؟

إذن، هدفك الذي تسعى إليه هو الإحصائيات التي تكشف السبب والنتيجة على نحو موثوق، ولها صفتين مميزتين، أولاهما، الثبات: فتوضح أنّ نتيجة فعل معين في وقت ما ستكون مماثلة لنتيجة نفس الفعل في وقت آخر. والثانية، قدرتها على التنبّؤ: أي أنّ هناك علاقة سببية بين الفعل الذي تقيسه الإحصائية والنتيجة المرجوّة.

فالإحصائيات التي تقيّم النشاطات التي تتطلب المهارة هي إحصاءات ثابتة. مثلاً، إذا قمت بقياس أداء عدّاء متمرّس عند قيامه بالركض لمسافة 100 متر خلال يومين متتاليين، ستتوقع أن ترى أزمنة متماثلة. حيث تعكس الإحصائيات الثابتة الأداء الذي يستطيع الأفراد أو المؤسسات التحكّم به على نحو موثوق عن طريق تطبيق المهارة، وبالتالي فهي تُظهر العلاقات السببية.

كما أنّ التّمييز بين المهارة والحظّ أمر هامّ جداً. فلنفكر بتطبيق الثبات على سلسلة من الأحداث. في أحد طرفي السلسلة تكون النتيجة التي نقوم بقياسها ناتجة عن المهارة الخالصة، كما هو حال العدّاء المتمرّس، وتُعتبر ثابتة دائماً. وعلى الطرف الآخر تكون النتيجة ناتجة عن الحظّ، ولذلك يكون الثبات قليل. فعندما تقوم بتدوير عجلة الروليت، تكون النتائج عشوائيّة، وما يحصل في الدورة الأولى لا يعطي أيّ دليل عمّا سيحصل في الدورة التالية.

ولكي تكون الإحصائيات مفيدة يجب أيضاً أن تتمكن من التنبّؤ بالنتائج التي تسعى إليها. فلنتذكر شركة أوكلاند أثليتكس التي أدركت أنّ إمكانية التنبؤ بقابلية تسجيل اللاعب جولات رابحة عن طريق النسبة المئوية لوصوله إلى القاعدة هي نسبة أكبر من معدّل الضّرب بالمضرب.  فالنسبة المئوية لوصول اللاعب إلى القاعدة تربط بصورة أكيدة السبب - الذي هو القدرة على الوصول إلى القاعدة - بنتيجتها، والتي هي الجولات الرابحة. كما أنها ثابتة أكثر من معدل الضرب بالمضرب لأنها تشمل عوامل أكثر، وأحد هذه العوامل: القدرة على الوصول لمرحلة المشي، والتي بدورها تعكس المهارة. ولذلك يمكننا الخلاص إلى القول أنّ النسبة المئوية للوصول إلى القاعدة لدى الفريق هي الوسيلة الأفضل للتنبّؤ بأداء الفريق الهجومي.

يبدو كل هذا منطقياً، أليس كذلك؟ ولكن الشركات تعتمد عادة على إحصائيات غير ثابتة وليست تنبؤيّة. ولأن هذه المقاييس المستخدمة على نطاق واسع لا تكشف عن السبب والنتيجة، فإنها لا تؤثر كثيراً على الاستراتيجية أو حتى على الهدف الأوسع المتمثل في كسب عائد كاف على الاستثمار.

فلنفكر بما يلي: تسعى غالبية الشركات إلى رفع قيمة أسهمها للحدّ الأقصى على المدى الطويل. وهذا يعني من الناحية العملية أنّ كل دولار واحد تستثمره الشركة يجب أن يجني قيمة تزيد عن قيمة  دولار واحد كربح. فأي إحصائية يجب على المدراء استخدامها لتقودهم إلى إنشاء هذه القيمة؟، وكما لاحظنا آنفاً، فإنّ أرباح السّهم الواحد هي المقياس الأكثر شيوعاً. إذ يبين استطلاع للرأي أجرته شركة فريدريك دبليو كوك آند كومباني (Frederic W. Cook & Company) بشأن التعويض التنفيذي (Executive Compensation) أنّ مقياس أرباح السهم الواحد هو أكثر مقياس شائع لأداء الشركة، ومُستخدم في حوالي نصف الشركات. وخلص الباحثون في كلية الاقتصاد ضمن جامعة ستانفورد إلى النتيجة ذاتها. كما بيّن استطلاع لآراء 400 مدير مالي أجراه جون غراهام وكامبل هارفي وشيفا راجغوبال أنّ حوالي ثلثي الشركات وضعت أرباح السهم الواحد على رأس أهمّ مقاييس أداء العمل التي أعلنوا عنها لأشخاص من خارج الشركة. إضافة إلى أنّ عائدات المبيعات ونموها أيضاً كانا بين أهمّ المقاييس لتقييم الأداء والإعلان عنه لجهات خارجية.

ولكن هل سيُنشئ نمو ربح السهم الواحد فعلياً قيمة لحاملي الأسهم؟ لا، ليس بالضرورة. إذ يمكن لنمو العائدات وإنشاء القيمة أن يتوافقا، لكن يمكن أيضاً زيادة أرباح السّهم الواحد وتدمير القيمة في نفس الوقت. فنموّ أرباح السّهم الواحد يكون مفيداً لشركة تجني عائدات مرتفعة لرأس المال المُستثمر، وتكون أرباح السهم الواحد حيادية بالنسبة لشركة تجني عائدات مساوية لكلفة رأس المال وسيئة نسبة لشركات عائداتها أقل من كلفة رأس المال. وبالرغم من ذلك، فإنّ الكثير من الشركات تبذل جهداً لتحقيق نمو في أرباح السهم الواحد حتى لو كانت مساوية لتكاليف إنشاء القيمة. ونتج عن استطلاع الرأي الذي قام به غراهام وزملاؤه أنّ غالبية الشركات كانت تنوي التضحية بالعمليات التجارية طويلة الأمد في سبيل تحقيق أرباح آنيّة. وتُبيّن لنا البحوث النظرية والتجريبيّة أنّ العلاقة السببية بين نموّ أرباح السهم الواحد وإنشاء القيمة هي علاقة ضعيفة في أفضل حالاتها. كما أظهرت أبحاث مماثلة أنّ علاقة نموّ المبيعات بإنشاء قيمة حاملي الأسهم هي أيضاً علاقة غير مستقرة.

وبالتأكيد، تستعين الشركات بمقاييس الأداء غير المالي، كجودة المنتج وأمان مكان العمل ووفاء الزبائن ورضا الموظفين ومدى رغبة الزبون بالترويج للمنتج. وأقتبس من المقال الذي كتبه الأستاذان كريستوفر إتنر وديفيد لاركر في مجلة هارفارد بزنس ريفيو عام 2003: "أجرت معظم الشركات محاولات صغيرة للتعرف على مجالات الأداء غير المالي التي يمكن لها أن تدعم استراتيجيتهم المختارة. ولكنها لم تتمكن من إيجاد رابط السبب والنتيجة بين التحسينات في هذه المجالات غير المالية ولا في تحسينات تدفق السيولة والفائدة وسعر السهم". فقد كان استطلاع الرأي الذي قام به الكاتبان على 157 شركة يبين أنّ 23% فقط من هذه الشركات قامت بتطبيق النموذج بصورة موسعة لتحديد الأسباب والنتائج التي كانوا يقومون بقياسها. وتبيّن الدراسات أنّ 70% على الأقل من الشركات التي أُجري عليها البحث لم تأخذ ثبات المقياس غير الماليّ ولا قيمته التنبؤية بعين الاعتبار. وبعد حوالي العقد من الزمن، لا تزال معظم الشركات عاجزة عن ربط السبب والنتيجة في خيارات الإحصائيات غير المالية لديهم.

ولكن، ليست كل الأخبار هنا سيئة. فقد وجد إتنر ولاركر أنّ الشركات التي اهتمّت بقياس عامل غير مالي وتأكيد وجود تأثير حقيقي له جنت أرباحاً على حقوق المساهمين تفوق أرباح الشركات التي لم تتبع تلك الخطوات بما يعادل مرة ونصف. وفي حين أنّ سلسلة مطاعم الوجبات السريعة حسّنت أداءها بتحديد مقياسها الرئيسي المتمثل بتدوير مدراء المطاعم وليس تدوير كل الموظفين، نجد أنه لدى الشركات التي تُحسن الربط بين المقاييس غير المالية وإنشاء القيمة فرصاً أكبر في تحسين نتائجها.

تتيح الشركات التي تربط المقاييس غير المالية وخلق القيمة فرصة أفضل لتحسين النتائج.

اختيار الإحصائيات

فيما يلي، سأعرض إجراءات اختيار المقاييس التي تساعد على عملية فهم وتتبع وإدارة علاقة السبب والنتيجة التي تحدد أداء شركتك. وسأقوم بشرح العملية بطريقة مبسّطة عن طريق عرض مثال عن بنك تجزئة بناء على تحليلات 115 بنكاً قام بها الأستاذ في جامعة ميشيغان فينكي ناغار والأستاذ في جامعة ستانفورد مادهاف راجان. ولتترك الآن تلك المقاييس التي تستخدمها حالياً في شركتك أو تلك التي ينصحك بها المحللون أو موظفو البنوك في "وول ستريت" جانباً. ولنبدأ صفحة جديدة ونعمل وفق الخطوات الأربع التالية بالترتيب:

1- حدد هدف إدارتك

الهدف الواضح أمر أساسي لنجاح الشركة لأنه يقود عملية تخصيص رأس المال. إذ يُعتبر إنشاء قيمة اقتصادية هدف منطقي للإدارة في شركة تعمل ضمن نظام السوق الحرّ. ويمكن للشركات اختيار أهداف مختلفة كمضاعفة عمر الشركة، ولكن لنفترض أنّ هدف بنك التجزئة هو إنشاء قيمة اقتصادية.

2- طوّر نظرية السبب والنتيجة لتقييم المحركات المفترضة للأهداف

تُعتبر المحركات الاقتصادية لإنشاء القيمة الأكثر شيوعاً هي: المبيعات، التكاليف، والاستثمارات. حيث تتنوع المحركات الاقتصادية الأكثر دقة بين الشركات، ويمكن أن تشمل نمو العائدات ونمو تدفق السّيولة وعائدات رأس المال المُستثمر.

وبشكل طبيعي، لا تستطيع المقاييس المالية تسجيل جميع نشاطات إنشاء القيمة. كما أنك ستكون بحاجة إلى تقييم المقاييس غير المالية كوفاء الزبائن ورضاهم وجودة المنتج، وتحديد ما إذا كان بإمكان هذه المقاييس الارتباط مباشرة بالمقاييس المالية التي تؤدي في النهاية إلى إنشاء القيمة. وكما شرحت سابقاً، الرّابط بين إنشاء القيمة والمقاييس المالية وغير المالية كالتي تحدثنا عنها هو رابط متنوّع ويجب أن يتمّ تقييمه في كل حالة على حدة.

في مثالنا، يبدأ البنك بنظرية أنّ رضا الزبون يُحرّك استخدام خدمات البنك، وهذا الاستخدام هو المحرك الرئيسي للقيمة. إذ تربط هذه النظرية بين محرك مالي وآخر غير مالي. ثم يقوم البنك بعد ذلك بالقياس التحليلي للعلاقات المشتركة لمعرفة ما إذا كانت النظرية صحيحة، إضافة إلى تحديد ما إذا كان الزبون الذي يشعر بالرضا يستخدم المزيد من الخدمات فعلياً، ما سيؤدي إلى تحقيق نموّ العائدات النقديّة والعائدات المغرية على الأصول في البنك، وكلاهما مؤشرات لخلق القيمة. والآن بعد الإقرار بأنّ رضا الزبائن مرتبط بصورة ثابتة وتنبؤية بعائدات الأصول، على البنك معرفة ما هي نشاطات الموظفين التي تحرّك الرّضا.

3- تعرّف على النشاطات المحدّدة التي يمكن للموظفين القيام بها للمساعدة في تحقيق هدف الإدارة

يمكن القول أنّ هدف الإدارة عبارة عن الربط بين هدفك والمقاييس التي يستطيع الموظفين التحكّم بها عن طريق تطبيق المهارات. فالعلاقة بين هذه النشاطات والهدف يجب أن تكون ثابتة وتنبّؤية.

أقرّ البنك في الخطوة السابقة أنّ رضا الزبائن يحرّك القيمة (فهو تنبؤي). وعلى البنك الآن إيجاد محرّكات موثوقة لرضا الزبائن. إذ يُبيّن التحليل الإحصائي أنّ النّسب التي يتقاضاها الزبائن على قروضهم وسرعة إجراءات القرض وانخفاض معدل التداول في الصرّافات (low teller turnover) كلها عوامل تؤثر في رضا الزبائن. وهذه العوامل ثابتة لأن الموظفين والإدارة هم من يتحكمون بها. ويمكن للبنك الاستفادة من هذه المعلومة على سبيل المثال من أجل ضمان سير عمليات المراجعة والاعتماد بسرعة وفعالية.

4- قيّم إحصائياتك

وأخيراً، عليك أن تقوم بتقييم دوري للمقاييس التي تستخدمها من أجل ربط نشاطات الموظفين بهدف الإدارة. فمحركات القيمة تتغير مع مرور الوقت، وينبغي أن تتغير إحصائياتك كذلك. مثلاً، تتغير ديموغرافية قاعدة زبائن بنك التجزئة، فيصبح البنك بذلك مجبراً على إعادة النّظر في محرّكات رضا الزبائن. وبما أنّ قاعدة الزبائن تُصبح مؤلفة من أشخاص أعمارهم أصغر وعلى دراية أكبر بالتقنيات الرقمية، يُصبح معدل التداول في الصرّافات أقلّ أهمية وتُصبح واجهة البنك التفاعلية وخدمة الزبائن على الإنترنت أكثر أهمية. واليوم، يمكن للشركات الوصول إلى بحر متزايد من الإحصائيات التي يمكنها تحسين أداءها، ولكن الإداريين لازالوا يتشبّثون بالطرق القديمة التي غالباً ما تكون ناقصة لاختيار المقاييس.

كان بإمكان الشركات في السابق تدبّر أمرها عن طريق الاستعانة بالحدس وتجاهل الإحصائيات المناسبة لأن ذلك كان حال الجميع. أما اليوم فاستخدام الإحصائيات المناسبة أمر ضروري للمنافسة. وباختصار، التعرّف على الإحصائيات المناسبة واستغلالها قبل أن يقوم المنافسون بذلك سيكون مفتاح الأسبقية في الربح.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي