ملخص: يستلزم النجاح في حقبة ما بعد الجائحة أن يتحلى القادة بمهارات وقدرات جديدة، وأن يبرعوا في شريحة واسعة من السمات المتناقضة فما هي المفارقات الست للقيادة؟ أولاً: يجب أن يكون القادة منفِّذين استراتيجيين يوازنون بين الرؤى النظرية والقدرة على تنفيذها على أرض الواقع. ثانياً: يجب أن يكونوا أبطالاً متواضعين يُبدون استعدادهم التام لاتخاذ قرارات جريئة بالتوازي مع الحرص على الاستماع للآخرين بكل جوارحهم والإصرار على تحقيق الشمول. ثالثاً: يجب أن يراعوا الأبعاد الإنسانية وأن يكونوا بارعين في الأدوات التكنولوجية، بحيث يعتمدون استخدام التكنولوجيا الحديثة في مؤسساتهم ويحرصون في الوقت ذاته على فهم موظفيهم والاهتمام بهم. رابعاً: يجب أن يكونوا مبتكرين بالمفهوم التقليدي، بحيث يحافظون على رسالة شركاتهم وغرضها بالتوازي مع تحفيز الابتكار إلى أقصى الحدود. خامساً: يجب أن يكونوا سياسيين على درجة عالية من النزاهة، بحيث يُبدون استعدادهم التام لتقديم بعض التنازلات والحصول على الدعم وتشكيل التحالفات بالتوازي مع التحلي بأعلى مستويات النزاهة. سادساً وأخيراً: يجب أن يراعوا الظروف المحلية ويفكروا في الوقت ذاته بعقلية عالمية، بحيث يوسعون نطاق انتشارهم بالتوازي مع البحث عن الرؤى المميزة لعملائهم.
أدت الجائحة إلى تسريع اتجاه بدأ يتكشف على مدى العقد الماضي. ولأن العالم أصبح أكثر تعقيداً وإقبالاً على التحوّل الرقمي، فقد اتسع نطاق القرارات التي يتعين على القادة اتخاذها، بداية من التفكير الاستراتيجيّ في الوضع العام، مروراً بالتنفيذ المدروس بعناية، وصولاً إلى وضع خرائط طريق التكنولوجيا وتحسين مهارات الموظفين وإدماجهم. كما اتسع نطاق معايير صناعة القرار في ظل التركيز المتزايد على اعتبارات أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة، بالإضافة إلى توقعات الربح المحددة بدقة. وقد شهد العام الماضي أحداثاً استثنائية اضطرت القادة إلى اتخاذ قرارات لم يسبق لهم أن تعرضوا لها من قبل، وكان عليهم أن يتخذوها على وجه السرعة.
ويستلزم النجاح في هذه الحقبة الجديدة لخلق قيمة مضافة أن يتحلى القادة بمهارات وقدرات جديدة. وقد أثبت بحثنا المتعمق للكثير من الشركات التي غيّرت جلدها وهيأت نفسها للنجاح في هذا العالم الجديد، ومن أمثلتها شركة "مايكروسوفت" ومركز "كليفلاند كلينك" الطبي وشركة "فيليبس"، أن قادة هذه الشركات سعوا إلى أن يكونوا بارعين في شريحة واسعة من السمات المتناقضة بدلاً من الاكتفاء بالاعتماد على نقاط قوتهم. لقد تعلموا كيفية العمل مع الآخرين ممن يمتلكون خلفيات ثقافية مختلفة ويتبعون طرقاً مختلفة في التفكير، وشدّدوا على ضرورة التعاون المشترك لتسيير شؤون شركاتهم على الرغم من كل اختلافاتهم. (إذا كنت مهتماً بالمشاركة في استقصاء القدرات القيادية، فيمكنك الحصول على مزيد من التفاصيل في نهاية هذه المقالة).
وتتواءم السمات التي اعتبرها القادة الذين التقيناهم أكثر السمات أهمية في هذه الحقبة الجديدة إلى حدٍّ بعيد مع المفارقات الست للقيادة الموضحة في كتاب بلير شيبرد الأخير "10 سنوات حتى منتصف الليل" (Ten Years to Midnight).
المنفِّذ الاستراتيجي
يجب على القادة الذين ينشدون النجاح في بيئة الأعمال المعقدة وسريعة الإيقاع في أيامنا هذه أن يتعرّفوا بوضوح تام على ملامح العالم الجديد ومكانة شركاتهم المتوقعة في هذا العالم. ويستلزم تحقيق هذا المطلب وجود قادة يفكرون بطرق استراتيجية للغاية ويمتلكون خيالاً واسعاً، بحيث لا يترددون في الرجوع خطوة للخلف يوماً بعد آخر لمعرفة أحدث الاتجاهات العالمية وفهم كيفية خلق قيمة مضافة في المستقبل بطرق تختلف عن تلك المتبعة اليوم وتعزيز مكانة الشركة.
لكن القدرة على التفكير بطرق استراتيجية لا تكفي وحدها. إذ يجب أن يكون القادة على القدر نفسه من المهارة على المستوى التنفيذي. يجب أن يتحملوا مسؤولية تحوّل الشركة بالصورة اللازمة لتلبية متطلبات المستقبل. يجب أن يكونوا قادرين على ترجمة الاستراتيجية إلى خطوات تنفيذية محددة ومتابعة التنفيذ حتى النهاية. ويجب أن يكونوا قادرين على اتخاذ قرارات تشغيلية سريعة تسهم في تمهيد الطريق نحو المستقبل.
قد يتطلب النموذج الرقمي لخلق القيمة مهارات تنفيذية أقوى من تلك التي كانت مطلوبة في الماضي، من نواحٍ عدة، نظراً لوجود الكثير مما يجب فعله لتوسيع حدود الممكن.
البطل المتواضع
يستدعي العصر الرقمي وجود قادة أبطال، أي أشخاص مستعدين لاتخاذ قرارات جريئة (مثل التخلي عن مراكز تجارية معينة أو استحداث مراكز جديدة) في الأوقات المشوبة بالغموض.
ويجب أن يتحلى القادة في الوقت نفسه بالتواضع الذي يؤهلهم للإقرار بجهلهم ببعض الجوانب وعدم التحرّج في الاستعانة بأشخاص يمتلكون مهارات وخلفيات وقدرات مختلفة تماماً. يجب أن يكونوا على أتم استعداد للتعلم من الآخرين، حتى وإن كانوا أقل منهم خبرة في شغل المناصب القيادية ولكنهم يمتلكون رؤى أكثر فاعلية. يجب أن يحرصوا على تحقيق الشمول وأن يكونوا مستمعين رائعين، ليس فقط لفهم التقنيات التكنولوجية الجديدة، ولكن أيضاً لفهم الطرق الجديدة لتنفيذ أشياء مختلفة عما فعلوه من قبل.
مراعاة الأبعاد الإنسانية والبراعة في التكنولوجيا
ربما كان بإمكان القادة في الماضي تفويض رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات أو الرئيس التنفيذي للتحول الرقمي بالتعامل مع التحديات التكنولوجية للشركة، ولكن هذا النهج لم يعد يصلح الآن. إذ يجب أن يفهم كل قائد أثر التكنولوجيا على الشركة وكيفية تحقق هذا الأثر لأن التكنولوجيا باتت تشكل عنصراً أساسياً في كل ما تفعله الشركة تقريباً، كالابتكار أو إدارة المنتجات أو العمليات أو المبيعات أو خدمة العملاء أو الماليات أو غيرها من المجالات.
وفي الوقت نفسه يجب أن يفهم القادة مرؤوسيهم أيضاً ويهتموا بهم. يجب أن يفهموا كيفية تأثير التكنولوجيا على حياة الإنسان، ويقدموا يد العون لموظفيهم لمساعدتهم على التكيف مع التغييرات العديدة التي ستتسبب بها التكنولوجيا واعتمادها. وهذا يعني إشراك العنصر البشري في اتخاذ القرارات ذات الصلة، مع مراعاة أعلى درجات التعاطف والمصداقية، ومساعدتهم على التكيف مع التغييرات والمشاركة في تحمُّل مسؤولية التحوّل.
المبتكر التقليدي
ربما لم تكن أهداف الشركة وقيمها تحتل الأهمية نفسها التي تشكلها اليوم في عالم يمر بتغيرات متلاحقة وزعزعة متعددة.
ويسهم وضوح الهدف والقيم في خضم هذه المرحلة المشوبة بالغموض في توجيه المؤسسات خلال مسيرتها لخلق القيمة والفائدة للمستهلك. وفيما يحاول القادة وضع تصور جديد لمكانة شركاتهم في هذا العالم، فإنهم مطالبون أيضاً بتوخي الوضوح بهوية شركاتهم والتمسك بها. يجب أن يكونوا واضحين بشأن أسباب وجود مؤسساتهم في المقام الأول، أي غرضها وقيمها، لتوجيهها خلال رحلتها لخلق قيمة مميزة بطريقة تُراعي إشراك الآخرين في تحديد نظام العمل وتحترم التحوّلات المستقبلية.
ويحتاج القادة في الوقت نفسه إلى الابتكار وتجريب أشياء جديدة بشكل أسرع من أي وقت مضى. فهم بحاجة إلى الشجاعة لتقبل الفشل والسماح للآخرين بالمحاولة والفشل أيضاً. لكن يجب ألا يكون كل هذا التجريب والابتكار منفلتاً، بل يجب أن يتم داخل حدود معينة بما يتفق مع غرض الشركة.
سياسي على درجة عالية من النزاهة
تُعد القدرة على حشد الدعم والتفاوض وتشكيل التحالفات والشراكات والتغلب على الرفض قدرة قيادية أساسية في بيئة عمل تحتّم على الشركات والمؤسسات والأفراد التعاون المشترك لخلق قيمة مضافة.
يجب أن يُبدي القادة استعدادهم لتقديم بعض التنازلات، ويتحلوا بالمرونة اللازمة لتعديل نهجهم والرجوع خطوة إلى الوراء حتى يتمكنوا من التقدم خطوتين إلى الأمام. غير أن هذه الطريقة في العمل لن تحقق النجاح المطلوب إلا إذا أرسى القادة أسس الثقة والنزاهة باعتبارها حجر الأساس لكافة سلوكياتهم. ولن يتحقق التعاون مع الآخرين بصورة فاعلة في بيئة العمل ما لم تثق الأطراف المعنية ببعضها. فلن يُبدي العملاء استعدادهم لمشاركة رؤاهم المميزة والإسهام في بيئة العمل إلا إذا وثقوا في الحفاظ على سرية بياناتهم وكيفية التعامل معها.
وهنا تشكل النزاهة مفتاح السر في إدارة الشركات للرقابة التنظيمية على نحو متزايد. إذ تعتبر النزاهة والثقة من أهم الشروط الأساسية في الاقتصاد القائم على البيانات. ولا يمكن أن تُستمد هذه القيم من أجهزة الكمبيوتر، فهي تتطلب أن يتخذ القادة البشر خيارات مدروسة بعناية تحتكم إلى أفعالهم وأقوالهم.
مراعاة الظروف المحلية والتفكير في الوقت ذاته بعقلية عالمية
لقد تسببت التكنولوجيا في إلغاء الكثير من الحدود والمسافات، بعد أن بات من السهل الآن الوصول إلى العملاء على الجانب الآخر من الكرة الأرضية والتعاون مع أشخاص يقطنون مناطق بعيدة.
ويمكن القول إن الشركات العاملة في العصر الرقمي قد اضطرت مرغمة إلى التفكير بعقلية عالمية، حتى إذا كان الهدف من ذلك التعرّف على الرؤى والوصول إلى المواهب لتلبية الاحتياجات المحلية. ويستلزم تحقيق هذا المطلب وجود قادة يفكرون بعقلية عالمية وينخرطون في المحيط العالمي ويطّلعون على الأفكار المستجدة ويقبلون العمل مع أشخاص من مختلف أنحاء العالم.
وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون القادة في العصر الرقمي أيضاً على دراية تامة بمواقف وتفضيلات العملاء والمجتمعات المحلية والبيئات التي يعملون فيها والاستجابة لها، حيث يتوقع العملاء والشركاء والمؤسسات أن تستجيب الشركات لاحتياجاتهم الخاصة، ويتعين على القادة بالتأكيد تبني عقلية واعية بالظروف المحلية.
وفي حين أن هذه قائمة المفارقات الست للقيادة ليست جامعة مانعة بحال من الأحوال، إلا أننا نعتقد أنها توفر دليلاً مبدئياً جيداً للتعامل مع الحقبة التي تنتظرنا. إذ يتطلب العصر الرقمي وضخامة التحوّل المطلوب أن يستفيد القادة من نقاط قوتهم وأن يوسعوا مداركهم لإدارة هذا العالم المعقد الذي نعيش فيه. ونحن نؤمن بأن القادة الذين يمتلكون التواضع والشجاعة والالتزام لإعادة ابتكار أنفسهم سيصبحون أبطال العصر الرقمي.