تنفق المؤسسات مليارات الدولارات كل عام على تطوير القدرات القيادية. غير أن الأبحاث أثبتت أن كثيراً من هذه البرامج يبدو أنها لا تُجدي نفعاً — فهي تخفق في مساعدة الأفراد على تطوير ألوان مهارات القيادة الديناميكية والتآزرية والتي تعد ضرورية لأعمال العصر الحالي.
وفي سياقات البحث والتدريس والاستشارات التي قدمناها والتي تتعلق بتطوير القدرات القيادية، ألهمنا النجاح الذي أحرزه شكل محدد: ألا وهو رحلات المغامرة في البرية، حيث يطوّر الناس قدراتهم القيادية ويصقلونها بينما يتصدون هم وفريقهم للتحديات الشخصية والمادية التي ينطوي عليها الارتحال في البرية وخوض غمارها. وبإجبار الناس على العمل بشكل تعاوني، وتطوير مهارات جديدة، وإحكام السيطرة على قراراتهم ونتائجهم، يمكن أن تساعد البيئة القاسية على الكشف عن جوانب أساسية من القيادة وتفاعل أعضاء الفريق التي ربما كانت قد أُغفلت في البيئة "العادية".
في تجربتنا الخاصة التي قُدنا فيها هذه الرحلات، بما في ذلك دورة رحلة تطوير القدرات القيادية المقدمة إلى طلاب ماجستير إدارة الأعمال (دورة لعشرة أيام إما للتجديف قبالة سواحل دولة بيليز، وإما للترحال بحقيبة الظهر بين جبال النرويج)، اكتشفنا أنهم يحققون العديد من أهداف تطوير القدرات القيادية الحديثة بفعالية. وتساعد هذه الرحلات المشاركين فيها على اكتساب القدرة على التعاطي مع التحديات المعقدة، واتخاذ قرارات استراتيجية في مواقف غامضة وملتبسة، والتعاون والتعلم مع فريقهم - وهي تحديداً الخصال المنشودة في القيادات التنظيمية الحديثة. وهي تساعد أيضاً على غرس التأقلم والقدرة على التحمل.
وبينما تُستخدم الرحلات الخلوية وأنشطة القيادة في سياق المغامرة في العديد من المؤسسات (بما في ذلك في وكالة ناسا لأبحاث الفضاء، حيث يتم تدريب فِرق رواد الفضاء وغرس الثقة فيها)، فإننا ندرك بطبيعة الحال أنها تتطلب زمناً مديداً وموارد وترحال وقدرة جسمانية كبيرة قد لا تكون متيسرة لجميع القادة والشركات. ومع ذلك، فإننا نؤمن بأن هناك على الأقل أربع خصائص لتلك الرحلات يمكن تطويعها وتطبيقها لتحسين أنواع عديدة أخرى من التدريب على مهارات القيادة والبرامج التطويرية:
التجربة المعقدة غير المألوفة. تضع الرحلة الخلوية الناس بطبيعة الحال في بيئات غير مألوفة تقتضي منهم تبني مهارات وسبل جديدة للتواصل كي يتحقق لهم النجاح. فوصول المرء إلى جزيرة نائية ليس فيها أي استقبال لشبكات الهواتف الجوالة، وتزويده بخيمة وموقد ومجداف زورق صغير ليس بروتين يوم العمل الطبيعي للسواد الأعظم من الناس. فهو يجبرهم على تبني أنماط جديدة للفعل، ويفتح الباب على مصراعيه أمام عادات وأساليب عمل جديدة.
وهذا الطابع الجديد يميط اللثام عن الفرص التي تتاح للناس للإقدام والمبادرة بسبل جديدة، ويكشف عن قدرات وسلوكيات غير مُستغلة يمكنها تعزيز قدراتهم القيادية. وحتى بالنسبة للمغامرين ذوي الخبرة، يجبر الغموض الكامن في الرحلة (على سبيل المثال، التعامل مع الظروف المناخية غير المتوقعة، وغير ذلك من الظروف) الناس على بذل قصارى جهدهم بينما يعملون مع فريقهم.
ومن سوء الطالع أننا نرى كثيراً من الاتجاهات المعاكسة في جهود تطوير قدرات قيادية "في بيئات داخلية" تقليدية. على سبيل المثال، قد تتضمن دورة التدريب التقليدية على مهارات القيادة محاضرة عن الأفكار العامة للقيادة، ممزوجة بملاحظات أو تدريبات على ما يُحسن المرء إنجازه وما يسيء فعله في منصبه الراهن. وعلى الرغم من أن هذه الهياكل ثرية بالمعلومات، فهي تغفل فرصة التوسع إلى ما وراء ما يجيد المرء إنجازه بالفعل، وفرصة صقل مهاراته القيادية تأهيلاً له للتعامل مع بيئات جديدة. والتركيز على المبادئ العامة أو التفكر في السلوكيات السابقة ببساطة لا يتيح الفرصة ذاتها للكشف عن إمكانات جديدة غير مستغلة، أو تعلم كيفية الاستجابة في البيئات غير المألوفة والغامضة التي يجوز أن يواجهها المرء في المستقبل.
وبالمثل، كثيراً ما نرى "معسكرات" قيادة فرق العمل تضع الناس في بيئة مألوفة وشبيهة بأعمالهم اليومية (على سبيل المثال، إحدى قاعات الاجتماعات). ونتيجة لذلك، لا تتمخض تلك الفعاليات سوى عن رؤى جديدة أو تطورات محدودة نسبياً، وذلك ببساطة لأن الناس ينتكسون إلى عاداتهم وأنماط تفاعلاتهم المغروسة داخلهم. إن الرحلة تجبر الجميع بطبيعة الحال على التكيف مع موقف جديد، غير أن جهود التطوير في البيئات المغلقة يمكن أن تستفيد من هذا المبدأ بالانتقال إلى بيئة جديدة تقل فيها أهمية البنى الهرمية الموجودة (على سبيل المثال، شيء بسيط بساطة تمرين لعبة "غرفة الهروب"). إن التجربة الجديدة تجبر الناس على التحلل من عاداتهم، وتكشف عن جيوب المعرفة والرؤى الثاقبة والإمكانات التي ربما كانت خفية.
الإعداد الهادف. قليلون جداً يبادرون إلى المشاركة في رحلة خلوية في البرية دون أداء بعض الواجبات التأهيلية - وأعني التأهب الجسماني واللوجستي والذهني للتحدي الماثل أمامهم - ووضع الأهداف. وبعد ذلك، يتطلب الشروع في الرحلة درجة عالية من التعمد والقصد والتركيز، تُجبر الناس على الانفصام (حرفياً ومجازياً) عن بيئة عملهم اليومي. وهذا الإعداد والقصد يمكنهم من الانخراط بتمعن أكثر في تجربتهم، واستخلاص رؤى ثاقبة غير متوقعة فعلاً بخصوص القيادة والسلوك، تتعلق بقيادتهم وسلوكهم وقيادة وسلوك الآخرين أيضاً.
على سبيل المثال، لدينا رجال ونساء كُثر في دورات رحلاتنا من العسكريين المخضرمين، أي أناس تتوقع أن يألفوا قيادة فريق في بيئة نائية وقاسية، وبالتالي ربما يتولون القيادة بشكل بديهي. ومع ذلك، ففي ظل الفرصة المتاحة لأن يتحروا القصد ويفكروا في الأهداف التطويرية التي يرصدونها للرحلة، غالباً ما يسعى هؤلاء الطلاب إلى استغلالها كفرصة للانسحاب والتعلم من قيادة الآخرين كي يفهموا كيفية نقل قيادتهم العسكرية إلى العالم المؤسسي فهماً أفضل.
ولا تتقيد مزايا الإعداد ووضع أهداف تطويرية بالتأكيد ببيئة الرحلة، وإنما في كثير من الأحيان ما تشجع البيئة النائية على هذا الإعداد بسبل لا تشجعها جهود تطوير القدرات القيادية التقليدية بقدر أكبر. وفي كثير من الأحيان تُعدّ برامج تطوير القدرات القيادية أعباء غير مرغوب فيها على روزنامة المرء، فيُرجأ أي إعداد وتجهيز للحظة الأخيرة. ومن الشائع أيضاً أن يظل الناس على اتصال بشبكة الإنترنت أثناء دوراتهم التدريبية، فيردون على رسائل البريد الإلكتروني أو يتفقدون الأمور مع زملائهم على حساب المشاركة بالكامل في تطورهم. وفي بيئات إعداد فريق العمل، يمكن أن تتحول المعسكرات و"المواقع الخارجية" بسرعة إلى منتديات للشكاوى أو تركز على النقاشات الفنية ونقاشات تحسين العمليات، بدلاً من الأهداف التطويرية للأفراد.
الملاحظات المستمرة المتعددة المصادر. خلال دورات رحلاتنا، يتلقى الطلاب كمية كبيرة من الملاحظات على قيادتهم وأدائهم. ويُقدّم عمل الرحلة ذاتها ملاحظات ممتازة، حيث يؤول المآل بالفريق إلى المكان المقرر له على الخريطة (أو لا يؤول به إلى ذاك المكان)، وتبقى الخيمة جافة (أو لا)، ويغادر الجميع المعسكر في الموعد المحدد صباح اليوم التالي (أو ينتظرهم عشاء في الظلام). ولدينا أيضاً اجتماعات إحاطة مسائية جماعية، وشركاء مكرسون لملاحظات الأقران يقدمون لكل شخص تأملات وملاحظات ومشورات أثناء الرحلة.
إن ممارسة تقديم الملاحظات المستمرة هذه تخلق عادة النقاش المفتوح داخل الفريق، وتكفل تقييمات صادقة للنحو الذي يجرب به الناس قيادة فرد ما بسبل إيجابية وسلبية. وهذه التفاعلات المستمرة تولّد أيضاً إحساساً بالضعف والثقة في الجماعة، يخلق بدوره صداقة متينة واعتماداً يستمر لفترة طويلة بعد انتهاء الرحلة. لقد لاحظنا حقاً أن طلاب ماجستير إدارة الأعمال بدوام جزئي لدينا استمروا في استغلال رفاق رحلاتهم كـ "أدوات افتراضية لسبر الأفكار"، ومصادر للملاحظات عند عودتهم إلى حياتهم العملية اليومية، على الرغم من وجودهم في مؤسسات مختلفة أو في بقاع متباينة من الدولة.
ومرة أخرى نؤكد على أن مزايا الملاحظات المستمرة المدروسة ليست حكراً على بيئة الرحلة، لكن غني عن القول أن كثيراً من الملاحظات في المؤسسات تكون شحيحة جداً وتُقدّم بعد فوات الأوان، وأكثرها يفتقر إلى الفعالية. وتميل تدخلات تطوير القدرات القيادية أيضاً إلى إظهار حالات متفرقة من الملاحظات كل أسبوع أو كل شهر، أو ملاحظات إجمالية (كما في تقييم 360 درجة) ترسم الخطوط العريضة لسلوك القائد، بعيداً عن توقيت ومكان ممارسة سلوكه، ويمكن معالجتها.
تحديات متكررة. يستفيد تطوير القدرات القيادية في البرية أيضاً من الطبيعة التكرارية للحياة في الخلاء. فكل يوم من أيام الرحلة يختلف في بعض الأوجه، غير أنه يدور في مدار مجموعة مألوفة من التحديات (على سبيل المثال، حزم الأمتعة والتنقل وتفكيك الخيام استعداداً للرحيل، إلخ). وهذا التكرار، عند الجمع بينه وبين الملاحظات المستمرة المذكورة آنفاً، يعطي الأفراد فرصة بالفعل لتنفيذ سلوكيات جديدة بعد تلقي الملاحظات، ما يساعد على غلق حلقة التطوير بواسطة اختبار تصرفات جديدة على الفور وقياس الفارق في النتيجة.
على سبيل المثال، إننا نرى طلاباً يعانون الأمرين إذ ينجزون مهمة معينة (كالتعاون فيما بينهم لإعداد وجبة على مواقد المعسكر)، ويرفعون تقريراً بالتحديات التي ظهرت ثم يصحون اليوم التالي وإذا بفرصة فورية تسنح لهم لتنفيذ الدروس المستفادة عندما يحين وقت الطهي مجدداً. وعلى الرغم من أن التحسن قد لا يكون فورياً دائماً، تساعد الفرص المتكررة الطلاب على التعلم، وتعينهم على دمج سلوكيات مختلفة في الزمن الحقيقي أثناء الدورة، ما يساعدهم على العودة بهذه السلوكيات إلى عملهم.
في أذهاننا، يعتبر عنصر التكرار هذا واحداً من الفرص الكبرى المهدرة للعديد من برامج تطوير القدرات القيادية أو جهود تدريب الفِرق. وكثيراً ما تكون برامج القيادة أو تمارين بناء الفرق "اجتماعات وحيدة"، وحتى عندما تُستخلص المعلومات منها ويتدبرها المشاركون فيها، نجد أن القصد منها ببساطة هو الرجوع بالدروس المستفادة وتنفيذها في مكان العمل. ولكن، بدون فرصة ممارسة وضع هذه الرؤى الثاقبة موضع التنفيذ على الفور، من الممكن أن تضيع التغييرات الإيجابية أو السلوكيات المنشودة.
وتسمح هذه الفجوة بنسيان المعلومات الجديدة وتلاشي الرؤى الثاقبة وتراجع العزيمة ووقوع الخلط والارتباك. وانطلاقاً من اليقين بأن نقل السلوك القيادي من بيئة تدريبية إلى مكان العمل (حيث ما برحت النظم والهياكل قائمة على الطريقة "العتيقة" لإنجاز الأمور) يعد بالفعل معركة شاقة، فمن الممكن أن يساعد منح القدرة على الممارسة الفورية لتطبيق السلوكيات أو الاستراتيجيات الجديدة هؤلاء الأفراد على نقل تلك الأفكار إلى العمل بفعالية أكبر.
إن البرية التي لا تعبأ بالتقنية أو الطلبات المتصارعة أو سياسات المكاتب تفكك العديد من جوانب القيادة والتفاعل بين أعضاء الفريق وصولاً إلى جوهرها. ومع ذلك، فإننا نعتقد أن هذه العناصر الأربعة للرحلات الخلوية يمكن أن تسلط الضوء على كيفية الارتقاء بجهود تطوير القدرات القيادية وتطوير الفرق في أي بيئة. وعلى الرغم من أننا سننتهز أي فرصة دائماً وأبداً للخروج بتطوير القدرات القيادية من المكتب إلى البرية، فإن الإقرار بهذه المبادئ وتطبيقها على جميع أنشطة تطوير القدرات القيادية ربما كان وسيلة لجلب العناصر الخارجية إلى الداخل، وتوسعة نطاق نمو القيادة في المؤسسات.