لا تجمع النظم الصحية المعلومات عن العوامل الاجتماعية المحددة للصحة بصورة منهجية، رغم التأثير الكبير الذي تمارسه هذه العوامل على صحة الفرد والسكان، بما فيها الظروف التي يولد فيها الأفراد والأماكن التي يترعرعون فيها وينمون ويشيخون. لكن اتباع نهج ينطوي على دفع التعويضات إلى مقدمي الرعاية الصحية بناءً على جودة نتائج المرضى المتعلقة بالتكلفة، بمعنى آخر: القيمة، بدلاً من حجم الخدمات التي يقدمونها، أي: رسوم الخدمة، قد جعل هذه النظم الصحية تركز على الحفاظ على صحة المرضى وعلاج الأمراض على حد سواء. وقاد هذا التحول مقدمي الرعاية الصحية إلى الاستثمار في استراتيجيات إدارة صحة السكان، وهو ما يتطلب منهم فهم السكان المحليين بشكل أفضل وتحديد احتياجاتهم غير الملباة.
ويكمن التحدي في قلة المعلومات المتعلقة بالعوامل الاجتماعية المحددة للصحة، والتي يجمعها الأطباء من المرضى، ويدرجونها في سجلاتهم الطبية الإلكترونية. ورغم إبداء 83% من أطباء الأسرة موافقتهم على توصية معهد الطب لعام 2014 التي تنطوي على جمع المعلومات الاجتماعية والديموغرافية والنفسية والسلوكية من المرضى، وإدراجها ضمن سجلاتهم الطبية الإلكترونية، صرح 20% فقط من هؤلاء الأطباء أنهم يمتلكون الوقت الكافي للقيام بذلك. ولكن ظهرت اليوم وسائل بديلة لجمع مثل هذه المعلومات، متمثّلة في الهواتف الذكية، وصفقات بطاقات الائتمان، ووسائل التواصل الاجتماعي.
الهواتف الذكية. يُقدّر "مركز بيو للأبحاث" (The Pew Research Center) أن أكثر من ثلاثة أرباع الأميركيين يمتلكون هواتف ذكية اليوم. وينطوي أحد الأمثلة حول كيفية استخدام هذه الأجهزة لجمع المعلومات المتعلقة بالعوامل الاجتماعية المحددة للصحة على تطبيقات الهاتف المحمول التي توفرها الأنظمة الصحية، والتي تتيح للمرضى حجز المواعيد أو الاتصال بمزودي الخدمات الطبية بسهولة. إذ يُمكن لهذه التطبيقات أيضاً الوصول إلى المعلومات المتعلقة بمواقع المرضى التي يمكن ربطها بقواعد بيانات غنية، مثل تطبيق "فورسكوير" (Foursquare) المخصص لتحديد الأماكن المحلية، أو الخرائط الحرارية على مستوى المدينة التي تحدد المناطق التي تمتاز بارتفاع معدلات الجرائم والعنف المنزلي بهدف فهم نظرة المرضى لأحيائهم. على سبيل المثال، توفر الطعام الطازج في متاجر البقالة المحلية والقدرة على ممارسة الرياضة بأمان خارج المنزل. وقد أسفر هذا النوع من مشاركة المواقع الجغرافية في سياقات البحوث عن رؤى ثاقبة مذهلة.
في إحدى الدراسات المثيرة للاهتمام حول الإقلاع عن التدخين وانتكاس المرضى وعودتهم إلى التدخين مجدداً، قورنت بيانات مواقع المرضى، إلى جانب إبلاغهم الذاتي عن مستويات رغبتهم في التدخين مع قاعدة بيانات جغرافية خاصة بمنافذ بيع السجائر، بغرض إثبات أن مرور الأفراد بالقرب من منافذ بيع السجائر بالتجزئة يومياً يرتبط بشكل كبير بزلات التدخين التي يتعرض لها المرضى، حتى عندما تكون رغبتهم في التدخين منخفضة. وكشفت هذه المقاييس الكمية الآنية حول تفاعلات الأفراد مع بيئتهم المحلية عن آثارٍ جديدة على السلوكيات الصحية التي قد لا تكون جليّة للمريض نفسه. ولا تزال بيانات المواقع الجغرافية هذه قيد التطوير حالياً، ويُجرى اختبارها في مجالات البحوث، ولكن قد تُستخدم يوماً ما بهدف توعية المرضى حول هذه المحفزات، ولتشجيعهم على مقاومة الإغراءات غير الصحية.
صفقات بطاقات الائتمان. تُعتبر بطاقات الائتمان منجماً آخر للمعلومات التي يمكن أن تساعد في استكمال سجلات المرضى الطبية. على سبيل المثال، أُجريت دراسة مولتها مؤسسة "بيل ومليندا غيتس فونديشن" ومنظمة الأمم المتحدة حول الحالة الاقتصادية والاجتماعية والصحية للمرأة في البلدان النامية. إذ دُمجت سجلات بطاقات الائتمان مع سجلات مكالمات الأفراد الهاتفية، بهدف تحديد أنماط الحياة في سلوكيات الأفراد الاجتماعية والاقتصادية. وأسفر التحليل عن ست مجموعات من أنماط الحياة المتمايزة من ناحية أساليب الإنفاق والعمر والتنقل والشبكات الاجتماعية. ويمثّل هذا النوع من التجميع للبيانات أهمية كبيرة، نظراً إلى قيام الأنظمة الصحية بتكييف برامج المجتمع والتوعية للمرضى على نحو متزايد.
لا تحتوي بيانات بطاقة الائتمان على التفاصيل اللازمة لتوليد الرؤى الثاقبة، وإنما نحصل على هذه الرؤى من العناصر الفعلية التي تُشكّل فاتورة ما من متجر البقالة. إذ تُمكّننا هذه التفاصيل الدقيقة في فهم ما إذا كان المرضى يقومون بملء بيانات وصفاتهم الطبية، أو يشترون السجائر، أو يطلبون السلَطات. وترسل الآن بعض محلات البقالة الرقمية مثل "إنستاكارت" و "بيبود" (Peapod)، وتجار التجزئة مثل "سي في إس" (CVS) و"وولغرينز" (Walgreens) وأكشاك الدفع مثل "سكوير" (Square) الإيصالات المفصلة للمستهلكين عبر البريد الإلكتروني، بعد الحصول على موافقتهم. وابتكرت إحدى المجموعات في شركة "كورنيل تيك" (Cornell Tech) أدوات برمجية تتفحص هذه الإيصالات وتحلل المشتريات وتقارنها بالأهداف الغذائية الشخصية للمريض، وهو جهد بحثي ذو إمكانات تجارية. ولا تجمع مثل هذه الأساليب المعلومات حول العوامل الاجتماعية المحددة للصحة فحسب، بل ترفع مستوى وعي المرضى حول العلاقة بين السلوكيات الصحية والصحة نفسها.
وسائل التوصل الاجتماعي. تُعد الاستفادة من رغبة الأفراد في الإفصاح عن تفاصيلهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي من بين الأساليب الناشئة في الجهود الرامية إلى جمع المعلومات حول العوامل الاجتماعية المحددة للصحة. وتُستخدم هذه المعلومات بهدف الوصول إلى الفئات السكانية التي يصعب الوصول إليها عادة، ألا وهي فئة الشباب من الذكور والإناث، والأفراد ذوي الدخل المنخفض. وتمثل الميزات الجديدة على مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة خطوة تمهيدية لاستخدام هذه الوسيلة، بهدف جمع المزيد من البيانات حول العوامل الاجتماعية المحددة للصحة، مثل ميزة فيسبوك التي تُتيح للأفراد الإبلاغ عن سلامتهم في أثناء الكوارث الطبيعية. ويمكن للأنظمة الصحية التي تُشرك المرضى عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن تحصل على إجابات عن الأسئلة التي تتعلق بانعدام الأمن الغذائي، وحالة التوظيف، والنشاط البدني، وما إلى ذلك. في الواقع، تشير الأبحاث الجديدة إلى أن العديد من مستخدمي فيسبوك وتويتر البالغين على استعداد لمشاركة بيانات وسائل التواصل الاجتماعي وبياناتهم الطبية وربطها ببيانات السجلات الطبية الإلكترونية لأغراض بحثية.
بالتأكيد، قد تخلق العديد من القضايا العملية عقبات أمام تطبيق هذه الأساليب. وتتمثّل إحدى هذه العقبات في الخصوصية. لذلك، سيتعين إجراء المزيد من البحوث بهدف التأكد من ارتياح المرضى أثناء تطبيق هذه الأفكار الجديدة، مثل منح الأطباء إمكانية الوصول إلى تواريخ مشترياتهم أو مواقعهم. ومن المهم أيضاً ألا تُستخدم المعلومات، التي تُجمع عبر هذه الآليات الجديدة، كوسيلة عقابية، بل يجب أن تُستخدم بهدف الحصول على مشورة الأطباء ودعم المرضى في جهودهم الرامية إلى متابعة السلوكيات الصحية. إذ من غير المحتمل أن يشارك المرضى بيانات بطاقاتهم الائتمانية أو بيانات حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي إذا وجدوا رابطاً بين المعلومات التي تُجمع والردود العقابية، مثل رفض التغطية التأمينية أو زيادة الدفعات التشاركية.
وتكمن العقبة الأخرى في الحصول على موافقة عدد كبير من المرضى على المشاركة في برامج جمع المعلومات هذه. ويتمثّل أحد الجهود الجديرة بالذكر في مستشفى "باركلاند" (Parkland) في دالاس، والتي دمجت البيانات حول استخدام المرضى لمخازن الطعام، وملاجئ المشردين، والخدمات الاجتماعية الأخرى مع سجلاتهم الطبية. ووجدت أن المرضى كانوا أكثر استعداداً للمشاركة في قاعدة بيانات رقمية عندما يطلب منهم شركاءهم في المجتمع المشاركة، بدلاً من طلب الأطباء لهم في غرفة الطوارئ. لكن ثمة أحداث تبعث على الإحباط، تسببت مخاوف الخصوصية المتعلقة بسياسات إدارة ترامب التي تربط استخدام الخدمات الاجتماعية مع الوضع القانوني في مطالبة العديد من المهاجرين غير الشرعيين بمحو بياناتهم من أنظمة تكنولوجيا المعلومات الخاصة بالخدمات الاجتماعية.
أخيراً، قد يكون من الصعب الحصول على دعم من الأطباء الذين قد يعانون بالفعل من فيض المعلومات. ولتجاوز هذه العقبة، يجب تحويل البيانات إلى ملخصات ذكية مدعمة بصور واضحة، وأهداف قابلة للتنفيذ. إضافة إلى هذا، يجب على العيادات أن تستثمر في موظفي الدعم، وفي الخدمات التي تساعد المرضى المعرضين للخطر. على سبيل المثال، يُمكن تجهيز العيادات بشبكات للتواصل مع الموارد المجتمعية مثل برامج الإسكان، ومراكز التدريب على العمل، وبرامج المكملات الغذائية. وسيكون لهذه الاستثمارات دور كبير في ضمان قبول الأطباء أن يشرفوا على البيانات الإضافية حول العوامل الاجتماعية المحددة للصحة.
ومع تطبيق هذه الأساليب، ستكون أنظمة الرعاية الصحية قادرة على الاستفادة من التقنيات الرقمية لتحديد الاحتياجات والتدخلات اللازمة بهدف إنشاء مجتمعات أكثر صحة.