يركز معظم قادة الشركات على المستقبل أكثر مما يركزون على الماضي. فبما أن القطاعات والصناعات والاقتصادات تتغير بسرعة شديدة، فإن التنفيذيين يعتقدون أن وظيفتهم تتمثل في تبنّي الأفكار المزعزعة والابتكار، وإحداث التحول في مؤسساتهم، وارتياد آفاق جديدة واستكشافها، بغية كسر جمود الوضع الراهن. ويشجّع خبراءُ الإدارة وجهاتِ النظر هذه، وغالباً ما يتجاهلون الماضي معتبرين أنه يقف عائقاً في سبيل الابتكار. غير أن عقوداً من الأبحاث التي شملت شركات في جميع أنحاء العالم أثبتت لنا أن تاريخ الشركة يمكن أن يكون مورداً استراتيجياً ومحفزاً. فإذا ما عومل على أنه مرجع للأفكار والأفعال، فإنه يمكن أن يقود رحلة الشركة إلى الأمام بطريقة تضمن الاستمرارية وتعطي أصحاب المصلحة المختلفين إحساساً بالهوية، والفخر، وتجعل المسؤولين يشعرون أنهم أوصياء على الإرث. ويمكن للمؤسسات التي تفهم هذه المنافع أن تنظر إلى الوراء، وتراجع تاريخها وتقدّره حق قدره حتى في معرض سعيها الحثيث للانطلاق نحو المستقبل بعيداً عن ذلك الماضي.
وكما يبين سيرك يبيما، أستاذ الدراسات المؤسسية في جامعة فريجي أمستردام، فإن الانغماس في التاريخ لا يعني النظر إلى ماضي الشركة من زاوية الحنين البحت، واعتباره ماضياً وردياً مشرقاً بعيداً عن الأعين. كما أن ذلك لا يعني أيضاً تبنّي موقف تجاوزي من الأفكار والممارسات المؤسسية التقليدية بوصفها أشياء عفا عليها الزمن. وإنما يجب على المرء تحدّي نفسه والتنقل بين وجهتي النظر معاً. فعندما تعترفون بماضي شركتكم المعقد وتتأملون تناقضاته، ستكونون قادرين على ابتداع طريقة تفكير أنقى وأدق تراعي التفاصيل وتكشف النقاب عن الفرص التي تسمح لكم بالاستفادة من الماضي لدفع الشركة إلى الأمام.
عندما أشرح هذه الفكرة للرؤساء التنفيذيين وفرقهم، غالباً ما أتطرق إلى "سانكوفا" الطائر الأسطوري المعروف في الثقافة الشعبية الغانية الذي يُصوَّر عادة ورأسه مفتول نحو الخلف لضمان حصوله على بيضة ثمينة، في حين يُبقي ساقيه ممدودتين إلى الأمام. في الحقيقة، يمكن ترجمة كلمة "سانكوفا" (التي تردنا من قبيلة آكان) على أنها تعني "العودة إلى الماضي لاستحضار ما هو مفيد".
درستُ شركات مختلفة – من "كارلسبيرغ" (Carlsberg) إلى "ليغو" و"بولر" (Bühler) و"جونسون آند جونسون" – التي كانت قد تبنّت نهجاً مشابهاً، حيث عملت على التعمق في دراسة الأخلاقيات والروحية التي قامت على أساسها في الأصل، واستفادت من تلك المعرفة في صياغة رسالة وقيم تناسب العصر الحديث وجعلت الموظفين، والزبائن، والشركاء الاستراتيجيين، والمستثمرين يتحلقون حولها. ففي أحسن الأحوال، تمكنت من خلق إحساس بالقداسة أسهم في جمع أصحاب المصلحة معاً ليسعوا باتجاه مستقبل مفعم بالطموح ليشكّلوا "مجتمعاً أخلاقياً"، كما يسمّيه عالم الاجتماع إيميل دوركايم. لقد اكتشفت هذه الشركات منارة تساعدها على الانعتاق من قيود الممارسات الراسخة، واختطاط مسار جديد، تحديداً في أوقات الأزمات.
عند دراستي للناجحين من القادة والشركات في إنجاز هذه المهمة، حددت أربع خطوات بوسع غيرهم من القادة والشركات الأخرى اتّباعها لفعل الشيء ذاته في مؤسساتهم. تكمن الخطوة الأولى في إجراء مراجعة تاريخية شاملة، واستخراج العناصر التي يجب تسليط الضوء عليها من الماضي وبلورتها على شكل غاية وقيم، مع العمل في الوقت ذاته على تحديد الأشياء التي لا يجب الاحتفاظ بها أو تكرارها. أما الخطوة الثانية فتتمثل في ترجمة ذلك الماضي إلى أفعال تركز على المستقبل باستعمال الغاية بوصفها مصدر إلهام للاستراتيجيات، والسياسات، والقرارات التشغيلية التي تظل أمينة لجوهر الشركة لكنها تهيئها في الوقت ذاته للنجاح مستقبلاً. وتتجلى الخطوة الثالثة في حشد موارد المؤسسة لدعم هذه الجهود من خلال توضيح أدوار كل شخص في المحافظة على تاريخ المؤسسة وإرثها أو تغييرهما. وتُعنى الخطوة الرابعة بالحفاظ على ديمومة هذا التقدم المحرز من خلال الاستمرار في إعادة تفحّص صلة الشركة بماضيها، وإعادة تفسير هذه العلاقة على الدوام، وتعميقها عند الضرورة.
إذا ما أراد القادة الاسترشاد بالماضي لشق طريقهم نحو المستقبل، فيجب عليهم التنقيب في ماضي الشركة السحيق لتكوين فهم عميق للطريقة التي خرجت بها إلى حيّز الوجود وسبب ظهورها في المقام الأول.
اكشفوا النقاب عن الجوانب الثمينة في الماضي
إذا ما أراد القادة الاسترشاد بالماضي لشق طريقهم نحو المستقبل، فيجب عليهم التنقيب في ماضي الشركة السحيق لتكوين فهم عميق للطريقة التي خرجت بها إلى حيّز الوجود، وسبب ظهورها في المقام الأول. وكما تشير مايكن شولتز المتخصصة بالنظريات المؤسسية في كلية كوبنهاغن للأعمال وزملاؤها، فإن عملية التنقيب هذه يمكن أن تشمل عمليات فرعية متنوعة، مثل اكتشاف العناصر الأساسية للماضي، والتأكيد عليها أو تفسيرها في السياق الجديد للحاضر، واستعادتها بوصفها عناصر "أصيلة" يمكن للشركة استعمالها. والهدف هو فهم جوهر المؤسسة أو "روحها" بأفضل الأشكال الممكنة – أي ليس فقط فهم المثل العليا التي قامت عليها المؤسسة، وطموحاتها وغايتها التي جعلت أصحاب المصلحة المختلفين ينبضون بالحيوية والنشاط، وإنما أيضاً القيم التي مثّلت منهلاً لطريقة التفكير الأولية، والمبادئ التي شكّلت المحفز الأساسي لعملية اتخاذ القرارات اليومية. ويُعدّ العديد من كبريات شركات اليوم وأكثرها شهرة فتياً جداً، لذلك فإن عملية التنقيب في التاريخ بالنسبة لها لن تكون مهمة شاقة. أما بالنسبة للشركات التي تعود جذورها الضاربة إلى أواسط القرن العشرين أو أبكر فإن على قادتها الحفر عميقاً.
لمدة عامين خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، شمّر يورغن فيغ كنودستروب الذي كان وقتها الرئيس التنفيذي لمجموعة "ليغو" عن ساعديه، وغاص في أرشيف الشركة التي كان عمرها آنذاك 70 عاماً، ودرس حياة مؤسسها أولي كيرك كريستنسن، واجتمع بعدد من الموظفين الذين كانوا يعملون لدى الشركة منذ فترة طويلة. ساعدته هذه الجهود على تكوين فهم أفضل لرسالة "ليغو" المبكرة والمتمثلة في مساعدة الأطفال على الانخراط في "اللعب الجيد" الذي سيساعدهم على التعلم والنمو فكرياً. كما انصبّ تركيزه تحديداً على مبدأ كان قد نجح في توجيه عمليات الشركة في مراحلها الأولى، لكنه أصبح في السنوات اللاحقة يشجع على الميل غير المثمر باتجاه البحث عن الكمال عبر اللجوء إلى الهندسة المفرطة، وكان هذا المبدأ هو: "الأفضل فقط هو الجيد بما يكفي". أدرك كنودستروب أن الغاية المتمثلة في تنشيط النمو لدى الأطفال عبر اللعب قد بقيت. لكن التفكير وفق مبدأ "الأفضل فقط" يجب أن يتغيّر باتجاه السعي الدائم إلى التفوق والتميز، أي الانتقال من التركيز الزائد والمضر على التفاصيل نحو نظرة أكثر شمولية للأداء رفيع المستوى الذي سيحقق المنفعة القصوى للمستخدمين النهائيين لمنتجات "ليغو". قاد هذا العمل إلى انقلاب كبير في الشركة التي ارتفعت إيراداتها وأرباحها الصافية بأكثر من الضعف بين 2010 و2019، في حين تمكنت من ترسيخ موقعها بوصفها واحدة من أشهر العلامات التجارية العالمية.
وكانت شركة "كارلسبيرغ" التي تأسست عام 1847 قد انطلقت في رحلة مشابهة خلال تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثانية، حيث تحوّل شعار يعود إلى بداياتها ومأخوذ من اللغة اللاتينية هو "شغف دائم" إلى اسم لخط جديد لإنتاج المشروبات ومصدر إلهام له، حيث استُعمِلت بعض المواد المأخوذة من أرشيف الشركة لصنعه. ولاحقاً، أصبحت هذه العبارة اللاتينية أساساً لهوية الشركة، حيث أشار بعض التنفيذيين إليها بوصفها الغاية التي تسير الشركة بهديها. وفي بيان صادر عن الشركة عام 2010، وردت الجملة التالية: "لا نكل ولا نمل أبداً، وإنما نحن في تعطّش دائم إلى الأفضل... نتحلى بما يكفي من الشجاعة لكي نتجرأ ونحاول ونجازف ونرتقي دائماً إلى العلى. لا نتوقف عند التحضير المتأني لمنتجاتنا، وإنما نعمل على التهيؤ المتأني لمستقبل أعظم". وكما هو حال "سانكوفا"، فإن هذا البيان يلتفت نحو الماضي، ويرنو إلى المستقبل. وعلاوة على ما سبق، فإنه يجمع صراحة بين التوق إلى الماضي (الحنين) مع إدراك الحاجة إلى الابتكار الأصيل، والمجازفة في سبيل إحراز التقدم (تبنّي موقف يتجاوز الماضي). ومنذ سنة 2010 تلك، تمكّنت كارلسبيرغ من تحقيق مبيعات قوية وتقديم أداء قوي للغاية.
استعملوه كقوة دافعة للأفعال التي تتمحور حول المستقبل
بعد انتهائكم من إجراء مراجعة دقيقة ومتأنية لكل ما له علاقة بالماضي لتحديد ما يجب تبنّيه وما يجب تحاشيه، تتمثل الخطوة التالية في ترجمة طريقة التفكير تلك إلى أفعال عملية من خلال تحديد المجالات التي يمكن لشركتكم أن تستفيد فيها من تاريخها وأن تبني عليه للتوسع في تلك المجالات بطريقة استراتيجية، وكذلك المجالات الأخرى التي يمكنها أن تشق لنفسها فيها طريقاً آخر مختلفاً عن الماضي ليقودها إلى تحقيق الأرباح. وفي معرض بذل القادة لهذه الجهود، يجب عليهم إعطاء الأولوية للصدق والشفافية. ويجب عليهم الاحتفاء بما هو جيد والتعاون في سبيله، والاعتراف بما هو سيء والإعراض عنه، عوضاً عن الاكتفاء بمحاولة دفنه. وبهذه الطريقة، سيكون بمقدور القادة مساعدة شركاتهم على الانضمام إلى مصاف المؤسسات.
ليست هناك توجيهات وافية لترجمة عملية التنقيب في التاريخ التي أنجزتموها إلى فعل يركّز على المستقبل. بل يصبح أفضل ما في الماضي مصدراً للإلهام والتوجيه، أي بوصلة وليس خارطة طريق. فإذا ما أراد القادة النجاح في إنجاز هذه المهمة، فإنهم يجب أن يسعوا إلى فهم النية التجارية المتضمنة في الغاية الأصلية للشركة، وكيف تُرجِمت إلى منطق استعمله المؤسسون والموظفون الأوائل في وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات. وبعدها يجب عليهم اتّباع المنطق ذاته.
يقول كنودستروب، على سبيل المثال، إنه سعى إلى العودة إلى جذور "ليغو" باستعمال "تفسير معاصر" قد يفترق عن التقاليد في التفاصيل المحددة والجزئيات. وقد أوكل إلى مجموعة تسمّى "كونسيبت لاب" (Concept Lab) مهمة صنع منتجات جديدة تماماً تتصف كما يقول أحد التنفيذيين في "ليغو" بأنها "ليغو بكل وضوح، ولكن لم يسبق لأحد أن رآها من قبل". وركزت مجموعة ثانية على وضع نماذج تجارية جديدة كما استندت إلى أفكار مستوحاة من أحد المعجبين لإنشاء خط منتجات " ليغو المعمارية"، وهي نماذج لمعالم مشهورة مثل تاج محل، والمسلة الفضائية في سياتل، التي تُسوّق للكبار وليس للأطفال.
في بعض الحالات، قد يلجأ القادة إلى النأي بأنفسهم عن أجزاء كبيرة من ماضي مؤسساتهم. فعندما تولى دارا خوسروشاهي في عام 2017 منصب الرئيس التنفيذي لشركة "أوبر" التي عصفت بها الفضائح، أراد إبعاد الشركة عن ثقافة العدوانية والتجاوزات التي كان قد روّج لها المؤسس المثير للجدل ترافيس كالانيك والتي كانت تقوم على الصورة النمطية للشخص شديد الذكورية الذي يعمل في وادي السيليكون. صاغ خوسروشاهي قيماً جديدة، من بينها "نحن نفعل الشيء الصائب ونقطة على السطر". ولكي يفي بهذا الوعد، اتخذ عدداً من الإجراءات من أجل تحسين تدابير السلامة الخاصة بالركاب والسائقين، وأنهى العمل بالتحكيم الإجباري في حالات الزعم بوجود تحرّش واستعان بناشطة بارزة في حملة #أنا_أيضاً (#MeToo) كاستشارية في الشركة.
في الوقت ذاته، لم يسع إلى القضاء على الأخلاقيات السائدة في "أوبر" والمتمثلة في المنافسة المحتدمة والاستعداد للتشكيك في جميع المعايير المطبقة، بل سعى إلى تسخيرها والاستفادة منها بطرق أكثر إيجابية. فرسالة "أوبر" الحالية، على سبيل المثال، ما تزال تتحدث عن الجرأة والإقدام، والتحلي بعدم الصبر تجاه الوضع الراهن. لكنها تربط هذه الخصال بغاية سامية. وهي تصف الموظفين على أنهم "أشخاص بارعون في أداء المهام المطلوبة منهم" لأنهم من "النوع الذي لا يدّخر جهداً لتنفيذ رسالتنا الهادفة إلى مساعدة الناس على الانتقال إلى أي مكان والحصول على أي شيء، وبلوغ غاياتهم بكل استحقاق".
رغم استمرار عملية التحول الحاصلة في ثقافة الشركة، إلا أن "أوبر" شهدت تحسينات في التنوع في أوساط الموظفين، حيث ارتفع عدد النساء اللواتي يشغلن مناصب قيادية بأكثر من 11% بين 2017 و2021. وقالت الشركة في تقريرها الصادر عام 2022 بعنوان "الموظفون والثقافة" إن 80% من الموظفين يقولون إنهم "يعتقدون أن قيمهم الشخصية متوافقة مع قيم "أوبر" وثقافتها".
رصّوا صفوف أبناء مجتمعكم
يميل الزعماء السياسيون عادة إلى العودة إلى الماضي والاستئناس به من أجل كسب ود الجماهير التي يخاطبونها، واستمالتها بهدف دعم رؤية جديدة أفضل، إذ يبيّن هؤلاء القادة دور الجماهير في الاستمرار في العمل بموجب التقاليد الأخلاقية للمجتمع، وكذلك دورها الحاسم في إحداث نقلة نوعية في هذه التقاليد. وأظهرت أبحاثي أن بوسع التنفيذيين في الشركات أيضاً وعلى المنوال ذاته التسويق للطموحات والخطط الحالية المعاصرة بوصفها استمراراً لسعي مجتمعي مشترك لتجسيد المثل العليا التي رغب مؤسسو الشركة ببلوغها. فعلى أيديهم يصبح الماضي منهلاً للأصالة التي تطبع الجهود الحالية والمستقبلية للشركة في عملية يطلق عليها بعض الباحثين اسم "التأصيل التاريخي لعمل المؤسسة".
فعندما انطلقت "ليغو" في رحلة تهدف إلى إدخال تغييرات على استراتيجيتها ونظام عملها، أنشأت متحفاً في بلدة مؤسسها عرضت فيه كيف تطورت منتجات "ليغو" مع مرور الوقت، في خطوة تهدف إلى عرض تاريخ الشركة، وغايتها المتواصلة، وقيمها بشكل ملموس أمام أعين جميع أصحاب المصلحة المعنيين بها. كما لجأت شركات أخرى إلى استحضار شيء من التقاليد ومزجه بتفكير تقدمي عبر إعادة هيكلة المنتجات التي تعتبر أيقونية أو تجسّد المبادئ التأسيسية، مثل إعادة تصميم شركة "فولكس فاجن" لسيارتها "بيتل" (أو الخنفساء)، وإعادة طرح قائمة الطعام الكلاسيكية في "ماكدونالدز" من جديد. وعندما تطلقون عملية تحوّل مع الاحتفاء في الوقت ذاته بتاريخ المؤسسة، فإنكم لا تكتفون بذلك باتخاذ خطوة استباقية ضد الأشخاص التقليديين المعترضين الذين يقاومون التغيير، وإنما تمنحون أيضاً أصحاب المصلحة الذين يتطلعون إلى المستقبل ويتبنّون التغيير إحساساً بالسياق والعوائق. وفي النهاية، يبدأ جميع المعنيين بالشعور بأنهم على صلة بالماضي والمستقبل على حد سواء، وسيكونون حريصين على المضي قُدماً في حمل الإرث ولكن بطريقة مسؤولة.
بوسع الرؤساء التنفيذيين تحديداً الاستفادة من مواقعهم ومناصبهم لإنجاز هذه المهمة. فخلال السنة الأولى التي أمضاها ساتيا ناديلا على رأس الهرم في مايكروسوفت، قال إن الشركة المتخصصة بالبرمجيات يجب أن "تعيد تخيّل الكثير مما أنجزناه في الماضي ليتناسب مع الأجهزة المحمولة وعالم يعطي الأولوية للحوسبة السحابية، وأن تفعل أشياء جديدة"، مع تصوير هذا الابتكار على أنه إعادة اكتشاف "روح مايكروسوفت أو جوهرها الفريد من نوعه الذي يستند إلى الإيمان بأن التكنولوجيا قادرة على إيجاد الفرص للناس لكي يعبّروا عن أحلامهم ويحققوها". تمكن ناديلا بهذه الطريقة من حشد دعم الموظفين لاستراتيجية جديدة، وجعلهم يشعرون أنهم كانوا جزءاً من شيء يتصف بالسمو. وخلال الفترة الممتدة بين 2014 و2022، حلّقت إيرادات مايكروسوفت من 87 مليار دولار إلى 198 مليار دولار، في حين صعدت قيمتها السوقية مما يقرب من 296 مليار دولار إلى حدود ترليوني دولار تقريباً.
ابقوا على تواصل
الإبقاء على صلة بالماضي بطريقة تكون مصدر إلهام للفعل، وتحافظ على الإحساس بالإرث هو مهمة مستمرة. كما تتطلب الأحداث الجديدة والسياق الدائم التغير إجراء مراجعات دورية لتاريخ المؤسسة، والقادة البارعون هم من يتعاملون مع هذه المراجعات بوصفها فرصاً لإطلاق حوارات متجددة مع العمل في الوقت ذاته على تحسين غايات الشركة وقيمها، وقيادة رحلة الشركة إلى الأمام.
عندما كانت شركة الأغذية ومعدات التنقل السويسرية ذات الملكية الخاصة "بولر" (Bühler) على وشك الاحتفال بمرور 150 عاماً على إنشائها في 2010، طلب رئيس مجلس إدارتها أورس بولر من رئيسها التنفيذي كالفن غرايدر التخلي عن النظرة المفعمة بالحنين إلى الماضي، والتركيز عوضاً عن ذلك على تأمل القرن ونصف القرن التالي في حياة الشركة. امتثل غرايدر وفريقه لهذا الطلب، لكنهم لم ينسوا قيم "بولر" الأساسية وأهدافها التجارية في معرض تخطيطهم للمستقبل. قادت تلك العملية الشركة إلى تبنّي غاية جديدة هي "الابتكار من أجل عالم أفضل"، مع التأكيد على الاستدامة البيئية، حتى مع الاستمرار في التركيز على أمرين أساسيين لطالما ركزت عليهما طوال تاريخها ألا وهما تحقيق المنافع التجارية والاجتماعية. وخلال العقد الذي تلا تلك الفترة، حدّثت "بولر" طرق إنتاجها، وتبنّت هدفاً يتجلى في مساعدة عملائها على التقليل من استهلاكهم للمياه والطاقة وتخفيض نفاياتهم بمقدار 50%، ودفعت أصحاب المصلحة الآخرين في القطاع باتجاه الابتكار القائم على الرفق بالبيئة من خلال مؤتمرات "أيام التعارف" التي كانت تقيمها وطالبت خلالها الشركات العاملة في ذلك القطاع بالعمل سوياً من أجل إحراز التقدم.
شركة "جونسون آند جونسون" المتخصصة بالمستحضرات الصيدلانية هي مؤسسة أخرى دأبت على إعادة النظر في عقيدتها التي تأسست عليها والقائمة على إعطاء الأولوية للعميل على الدوام، كطريقة لضمان ألا يكون ذلك الشعار فارغاً من أي مضمون، وإنما أن يكون مبدأ تسير الشركة بهديه في كل ما تُقْدِم عليه من أفعال وفي جميع الأوقات. وخلال جلسات رسمية عقدت في سبعينيات القرن الماضي، استكشف القادة هذه العقيدة، وكيّفوها، وأعادوا التأكيد على الالتزام بها، ما ساعد "جونسون آند جونسون" على التجاوب السريع والحاسم عندما لجأ شخص إلى تلويث علب مسكّن الآلام "تايلينول" بمادة السيانيد، ما أدى إلى وفاة سبعة أشخاص في عام 1982. سحبت "جونسون آند جونسون" على الفور 31 مليون عبوة من الأسواق، لتخفّض بذلك أرباحها على المدى القصير، لكنها بذلك عززت سمعتها كشركة تعطي الأولوية للعملاء.
ولكن في وقت لاحق، خفّ اهتمام الشركة بالمبادئ والقيم التأسيسية، وشهد عقد التسعينيات تراجعاً في الأداء. دفع ذلك الوضع الرئيس التنفيذي للشركة أليكس غورسكي (الذي يشغل الآن منصب رئيس مجلس الإدارة التنفيذي) إلى العودة مجدداً إلى العقيدة الأساسية، وتحدّيها، وتحديثها لضمان استمرارية صلتها بالواقع. وفي عام 2013، احتفت الشركة بالذكرى السبعين لإطلاق تلك العقيدة عبر عقد اجتماع ضم أعضاء مجلس إدارتها ورؤساء الأقسام التجارية فيها لمراجعة رسالة "جونسون آند جونسون" وقيمها وإخضاعها للتقييم. وبعد مرور أربع سنوات، تكونت مجموعات مركزة من الموظفين الذين أصبح لهم رأيهم المسموع فتقدّموا بمجموعة من الاقتراحات لإدخال تحديثات إضافية. ونتيجة لهذه الجهود، أبقت الشركة بصورة أساسية هذه العقيدة على حالها دون المس بها، لكنها عدلتها للتشديد على مواضيع مثل التنوع، والاضطلاع في رسالة صحية عالمية أوسع نطاقاً.
وتعليقاً على هذا الأمر، يقول غورسكي "إن تفاعل الشركات المتواصل مع ماضيها، وترجمته على أرض الواقع بأسلوب جديد هما فقط الكفيلان بإبقائها مواكبة للعصر وذات طابع أبدي".
ربما من المغري تجاهل الماضي عند الانطلاق في عملية التحول أو الشروع في النمو، إلا أن الشركات ستحقق نجاحاً أكبر إذا ما نظرت إلى تاريخها بوصفه طريقة تدفعها إلى المضي قُدُماً إلى الأمام بهدي من غاية سامية. ويجب عليها أن تستمد الإلهام، والإرشاد والتوجيه، والطاقة من هذا الماضي، وأن تخضعه في الوقت ذاته للتقييم النقدي لكي تحدد أين تبني عليه وأين تتجاوزه باتجاه الإبداع والابتكار.
تحلّق شركاتنا في سماء المجد عندما تتبنّى نظرة إلى إرثها السابق بطريقة تُلهِم الجميع لكي يشد واحدهم أزر الآخر سعياً لتحقيق هدف جليل. وإذا أردنا تحقيق هذه الغاية، فلا بد من أن نربط الحاضر بالمستقبل، بحيث نعمل على تحقيق أحدث طموحاتنا، شريطة أن نظل على صلة بكل ما هو جيد في تراث مؤسستنا وروحها. دعونا جميعاً ننهل من الحكمة العميقة التي ينقلها لنا طائر "سانكوفا" الأسطوري.