المشاعر التي تؤدي لأزمة منتصف العمر المهني وكيفية تجاوزها

10 دقيقة
منتصف الأربعينيات
سايمون شنايدر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: تشير الأبحاث إلى أن كثيراً من الناس يتملكهم السخط على وظائفهم في منتصف الأربعينيات من أعمارهم، حتى الذين لديهم وظائف يُحسدون عليها؛ قد يندمون على خياراتهم السابقة، أو يعانون رتابة وظائفهم. لكن كيران سيتيا يعتقد أن مبادئ تخصصه -الفلسفة- يمكن أن تفيد، ويقول إنه يمكن تخفيف الحزن على فوات خيار معين من خلال الاهتمام بالأشخاص الذين نعتز بهم والأنشطة التي نحبها، والتي ما كنا لنحصل عليها لولا وظائفنا. يشير كيران إلى أننا نُمضي كثيراً من أوقات العمل في حل المشكلات وتلبية الاحتياجات، لذلك ينبغي أن نمارس بعض الأنشطة التي تُدخل السرور على النفس (سواء داخل العمل أو خارجه)، ويقترح أن نقلل التركيز على المشروعات ونركز أكثر على العمليات، ونتبنى عقلية تقدِّر الحاضر بدلاً من العقلية التي تترقب القادم.

منذ ثمانية أعوام تقريباً وجدت نفسي أحيا حياة رتيبة، فأنا أستاذ جامعي مخضرم بإحدى الجامعات الموقرة وحصلت على وظيفة أحلامي؛ نجحت في اجتياز مرحلة الدراسات العليا ثم عقبة النشر الأكاديمي الشاقة الضرورية لظهوري، وتغلبت على ضغوط السعي في طلب التثبيت الوظيفي والترقي، لديّ زوجة وطفل وبيت خاضع للرهن العقاري. كنت أحب عملي، ومع ذلك فقد بدأ شعوري بأني سأكرر العمل نفسه أسبوعاً بعد أسبوع وعاماً بعد عام يثقل روحي. كنت أنهي كتابة البحث وأنشره لأبدأ بكتابة بحث جديد، وكنت أدرِّس الطلاب فيتخرجون ويغادرون الجامعة ليأتي طلاب جدد، كنت أرى حياتي المهنية ممتدة أمامي وكأنها نفق لا نهاية له؛ كنت أعاني “أزمة منتصف العمر المهني”.

لكن سرعان ما اكتشفت أنني لست الوحيد، فحين أخبرت أصدقائي عن حالي حاولوا التخفيف عني ببعض المزاح ولكنهم أيضاً ردوا عليّ بقصص مشابهة عن الاحتراق الوظيفي والرتابة والندم في خضم ما بدت حياة ناجحة. ربما سمعت أنت أيضاً قصصاً مشابهة من الموجهين والأقران، أو ربما تمر بهذه الأزمة نفسها. يُثبِت كثير من الأبحاث الأخيرة أن مرحلة منتصف العمر هي، في المتوسط، المرحلة الأصعب على الإطلاق في الحياة. في عام 2008 وجد الاقتصاديان ديفيد بلانشفلاور وآندرو أوزوالد أن الرضا عن الحياة المبلغ عنه ذاتياً يتخذ شكل المنحنى (U) بدرجة انحناء خفيفة، فيبدأ مرتفِعاً في مرحلة الشباب، ثم يصل إلى أدنى مستوياته في منتصف الأربعينيات، ثم يستعيد ارتفاعه مع تقدمنا في العمر. يظهر هذا النمط بثبات على مستوى العالم لدى الرجال والنساء على حدّ سواء، ويستمر حتى حينما نعدِّل بعض المتغيرات الأخرى مثل الإنجاب. درجة انحناء المنحنى خفيفة ولكن لها أثر بالغ؛ فمتوسط الفرق في الرضا بين سن 20 عاماً وسن 45 عاماً تقريباً مشابه لمتوسط الانخفاض في الرضا عن الحياة المصاحب للطلاق أو الفصل من العمل.

تتوافق بيانات الرضا عن الحياة مع بعض الأبحاث السابقة المختصة بالعمل؛ في مقال نُشر عام 1996 وكان قائماً على استقصاء شمل أكثر من 5,000 موظف بريطاني، وُجد أنّ الرضا الوظيفي يتخذ أيضاً شكل المنحنى (U) الخفيف الانحناء، على الرغم من أن الهبوط بدأ مبكراً في سن 39 عاماً تقريباً. كما أشار المحلل النفسي إيليوت جاكس، الذي صاغ عبارة “أزمة منتصف العمر” في عام 1965، إلى التحوّلات المفاجئة في الحياة الإبداعية للفنانين الذين لم يشعروا بالرضا عن أعمالهم السابقة، بدءاً من مايكل أنجيلو وصولاً إلى غوغان.

إن أسباب أزمة منتصف العمر المهني ليست مفهومة جيداً، لماذا تتراجع حالة الرضا الوظيفي في منتصف العمر؟ وفقاً لتجربتي الخاصة وبحسب حواراتي مع بعض الأصدقاء، وجدت لها عدة عوامل: قلة الخيارات، والشعور الحتمي بالندم، وهيمنة المشروعات المنجَزة والمتغيرة باستمرار.

وبعدما لجأت إلى الفلسفة لطلب المساعدة وجدت أنّ الفلاسفة قديماً وحديثاً وعلى الرغم من أنهم قلما يذكرون مرحلة منتصف العمر باسمها، يقدمون أدوات للتمعن في أشكال مساراتنا المهنية ومواقفنا تجاهها، ولا يقتصر عمل هذه الأدوات على العلاج فحسب، بل يمتد إلى التشخيص أيضاً؛ إذ تساعدك على معرفة إن كان اضطراب منتصف العمر المهني هو إشارة إلى ضرورة تغيير عملك أو طريقة عملك. يمكن أن تكون الزعزعة أداة جيدة ولكنها ليست سهلة دائماً؛ كما أن هناك طرقاً لمعالجة لمشاعر الإحباط والندم تساعدك على الازدهار حتى لو آثرت البقاء في وضعك الحالي.

مشاعر الندم على ما فات

تتحدث بعض الأفكار التي استخلصتها من الفلسفة عن التحدي الذي يواجهنا في قبول ما لا نستطيع تغييره، فمع استمرار الحياة تتضاءل الفرص وتتقلص الخيارات وتكبلنا القرارات التي اتخذناها فيما مضى. حتى لو استهنا بخياراتنا الحالية، فليس بإمكاننا أن نتحاشى حقيقة أن كل خيار نتخذه يقصي البدائل الأخرى، وغالباً ما ندرك في منتصف حياتنا المهنية شكل الحياة التي لن نحظى بها ونقرّ بألم الندم على الفرص الضائعة.

أنا مثلاً تمنيت في مرحلة ما من حياتي أن أكون طبيباً مثل والدي ثم فكرت في أن أكون شاعراً، وعندما التحقت بالجامعة اخترت الفلسفة، ولم أفكّر في البدائل كثيراً مدة 15 أو 20 عاماً بعدها، فاجتياز مرحلة الدراسات العليا أسهل من دون التفكير في البدائل. ثم توقفت في سن 35 لألتقط أنفاسي بعد أن تخطيت عقبات المسار الأكاديمي، وأدركت أنني لن أحقق كثيراً مما كنت أتمنى تحقيقه. فالسلك الأكاديمي يسير وفق مسار متسلسل صارم ويصعب الانسحاب منه، فمن يتخلى عن التثبيت الوظيفي؟ وفي الواقع، لم أكن مستعداً لتحويل مساري والالتحاق بكلية الطب أو أن أصبح شاعراً، كنت سأنتقل فيما بعد من جامعة بيتسبرغ إلى العمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ولكني لم أكن لأترك السلك الأكاديمي.

حتى عندما تكون النتائج جيدة فلا بأس من بعض الندم

من المحتمل أن نمط حياتك المهنية السابقة كان أعقد منه الآن. فكل شخص يبلغ من العمر 40 سنة حظي في سن أصغر بمجموعة أكبر من الوظائف، ولكن النقطة الأساسية تبقى دون تغيير. عندما نتذكر حياتنا السابقة نستحضر الخيارات التي أتيحت لنا ولم نتخذها، ببعض الارتياح أحياناً وبالندم أحياناً أخرى. فهل في استطاعة الفلسفة أن تساعدنا على التأقلم مع هذا الوضع؟

أظنها تستطيع مساعدتنا بإعادة صياغة حالة الشعور بالندم. لماذا نشعر بأننا خسرنا الحياة التي لم نحياها أو المهن التي لم نزاولها؟ نشعر بذلك حتى لو كانت الأمور تجري على خير ما يرام، لأن القيم التي نولّدها من خلال الخيارات المختلفة ليست واحدة. تكون الأعمال مجدية بعدة طرق، وإليك مثالاً بسيطاً: الخيار بين أن تشاهد عرضاً كوميدياً أو أن تحضر المباراة الافتتاحية لبطولة العالم في البيسبول في هذه الليلة؛ حتى وإن رأيت أن حضورك مباراة البيسبول هو القرار الصحيح، فستشعر بقليل من الخسارة، لأنه إذا كان العرض الكوميدي قائماً لليلة واحدة فلن تتمكن من حضوره. هذا مثال واضح على ظاهرة الشعور بالندم تجاه الخيارات المهنية. ربما لن تشعر بالألم إذا قدمت لك شركتان عرضاً بالوظيفة نفسها فقبلت العرض الأعلى راتباً، ولكنك حين تفضل وظيفة في مجال الماليات على أخرى في مجال الموضة فمن المنطقي أن ينتابك شعور بالخسارة حتى لو كنت واثقاً من أنك اتخذت القرار السديد.

وهذا يدل على أن الشعور بالندم لا يستلزم ضرورة وجود خطأ ما، فحتى لو كانت النتائج جيدة فشعورك بشيء من الندم يصبح مناسباً وليس شيئاً تتمنى التخلص منه، فالندم يشير إلى أنك تُكِنّ تقديراً لعدة أعمال مختلفة. ولن يتوقف شعورك بالندم حتى لو عملت في مجال الموضة بدلاً من الماليات، غير أن شدته قد تتفاوت. الوسيلة الوحيدة لتجنّب الشعور بالندم هي الاهتمام بمجال أو معيار واحد فقط لتحقيق الاستفادة القصوى، ولكن الاهتمام بمجال واحد فقط قد لا يُثري حياتك المهنية؛ تذكر أنّ هذا الشعور بضياع الفرصة هو نتيجة حتمية لفكرة إيجابية تتمثل في القدرة على إدراك القيمة الموجودة في كثير من نواحي الحياة.

الأخطاء والنكبات والإخفاقات

قد تقول إن كل شيء يسير على خير ما يرام، غير أن هناك نوعاً آخر من الندم نشعر به حين لا تسير الأمور سيراً حسناً. ولكن ماذا عن الأخطاء والنكبات والإخفاقات؟ لكل مسار مهني منعطفاته الخاطئة، ولبعض المسارات منعطفات خاطئة أكثر من غيرها، وفي منتصف أعمارنا نجد أننا نفكر بشيء من الحسرة في الاحتمالات التي كان يمكن أن تحدث. ترك أحد أصدقائي وظيفة واعدة في مجال الموسيقى ليصبح محامياً في شركة، فاكتشف بعد انقضاء عقد من الزمان أن العمل رتيب ومخيب لآماله. لم تستحوذ عليه الحيرة بشأن كيفية تغيير مساره المهني حالياً، بل الحسرة على عجزه عن تغيير الماضي؛ لماذا ارتكب هذا الخطأ وتخلى عن العمل بالموسيقى؟ كيف يمكن أن يتصالح مع هذا الوضع؟

تشير الفلسفة مرةً أخرى إلى المنهج. عليك التمييز بين ما كان يجب أن تفعله أو ترحب به في ذلك الوقت وبين ما تشعر به الآن تجاهه، ويصبح هذا التمييز جلياً عندما لا تتطور الأحداث مثلما كان متوقعاً لها. إذا استثمرت استثماراً غير مدروس فتحوَّل بطريق المصادفة إلى الربح فلن تندم على أمر فعلته، ولكن حتى من دون مفاجآت، قد تتغير المشاعر التي تنتابك بعد اتخاذ الخيار. تخيل الفيلسوف الأخلاقي ديريك بارفيت فتاة مراهقة قررت أن تنجب طفلاً على الرغم من عدم استقرار حياتها الزوجية، قد نظن نحن أنه قرار سيئ لأنها ستتوقف عن الدراسة لتبدأ رحلة كفاح طويلة لرعاية طفلها. مع ذلك وبعد سنوات، شعرت الفتاة بالامتنان لوجود ابنها وهي تحتضنه وهو في سن المراهقة، وكانت مسرورة بالذي صنعته، والذي اعتبره الآخرون بنظرتهم الموضوعية خطأ. إن تعلقنا بمن نحب يجعل الجزم بصحة القرارات الماضية منطقياً، حتى لو لم تعد علينا بخير كثير، لأن حياة من نحب تتوقف على صحتها.

عندما حزن صديقي على الوظيفة التي فقدها في مجال الموسيقى، كنت أذكِّره بأنه ما كان ليلتقي بزوجته ويرزق بطفلته لو لم يلتحق بكلية الحقوق. الحب قوة موازنة للندم، وكذلك الرضا الذي نستمدّه من الصداقات والمشروعات والأنشطة التي نزاولها. كتب الفيلسوف روبرت آدمز يقول: “إذا كنا نعيش حياة جيدة فلدينا سبب يجعلنا سعداء بأننا حصلنا عليها بدلاً من حياة ربما كانت أفضل ولكنها مختلفة جداً”.

فنحن نعيش حياتنا بكامل تفاصيلها وليس بمعانيها المجردة، وفي مقابل الحقيقة المبهمة بأنك ربما كنت ستحظى بمسار مهني أكثر نجاحاً، يمكنك أن تنظر إلى الجوانب الملموسة التي تجعل مسارك المهني الحالي جيداً. وبالإضافة إلى التعلق بالأشخاص، هناك أيضاً التعلق بالتفصيلات؛ أي التفاعلات والإنجازات التي لم تكن لتحظى بها في المسار المهني الآخر. عندما بدأت أشعر بالندم على خياري بأن أكون فيلسوفاً لا طبيباً، كنت أتجاهل طبيعة عملي وجوانبه التي لا تُحصَى والتي جعلت لعملي قيمة واضحة كلما مارسته، مثل التقدم الذي يحققه أحد الطلاب أو الحوار المثمر مع بعض الزملاء. هذه التفصيلات هي التي يُعتدّ بها في مواجهة الصورة غير الحقيقية للمسار المهني الذي لم نجربه.

هذه الطريقة لإعادة تصور مسارك المهني محدودة، فليس هناك ما يضمن تبرير جميع الأخطاء إذا أعدنا النظر فيها، ولا ما يضمن أن الندم كان دائماً في غير محله. ولكن الندم الذي يثير فيك الرغبة في استكشاف حياتك كما لو كنت تنظر إليها من الخارج يمكن تخفيف حدته بالاستغراق في الاهتمام بالأشخاص الذين تهتم لهم والعلاقات والأنشطة التي تحبها، وجميعهم يعتمدون على المسار المهني الذي اخترته أنت.

التبرّم من الحاضر

إن قبول ما لا نستطيع تغييره هو جزء فقط من المشكلة التي نواجهها حين نبدأ رحلة الهبوط على منحنى الرضا. لم يكن مصدر استيائي الأكبر في منتصف حياتي المهنية هو الندم على ما فات، بل كان الإحساس باليأس من الوضع الحالي أيضاً، فعملي ما زال يبدو جديراً بالاهتمام وحققت القيمة في التدريس والبحث والكتابة، ومع ذلك كان هناك شيء من الفراغ يكتنف المشروعات المتعاقبة التي تلوح في الأفق. كانت فكرة الانشغال بعمل بعد آخر حتى أتقاعد في نهاية المطاف
تصيبني بالإحباط.

كيف يمكن للعمل النافع أن يبدو فارغاً؟ يركز التفسير الأول على فكرة القيمة التحسينية، وهي قيمة حل المشكلات أو تلبية الاحتياجات حتى لو كنت غير راغب في ذلك، وهناك الكثير من العمل على هذه الشاكلة. فعليك مثلاً تسوية الخلافات بين الزملاء، ومعالجة الأخطاء البسيطة وغير المتوقعة في عملية طرح المنتجات للمستهلكين، والتحقق من الالتزام باللوائح القانونية، وعلى الرغم من أهمية فكرة القيمة التحسينية، فهي لا تأتي إلا بقدر محدود من الرضا، إذا كان تصحيح الأخطاء أو تحقيق الأهداف أو تفادي المشكلات هو أقصى ما نستطيع فعله، فلن نرى ما هو مفيد حقاً. فلماذا إذاً نرهق أنفسنا بالعمل الشاق؟

أحد أسباب أزمة منتصف العمر المهني هو أنك تمضي الكثير من وقتك في العمل على حل المشكلات وتجنب عواقبها الوخيمة بدلاً من مواصلة المشاريع التي تحمل قيمة وجودية، وهي تلك المشاريع التي تجعل للحياة قيمة. ويكمن الحل في أن تخصص وقتاً لبعض الأنشطة التي تُبهجك في العمل، بأن تبدأ مثلاً في العمل على مشروع مفضَّل لديك كنت تؤجله لسنوات، أو خارج العمل بإحياء هواية قديمة كانت مفضَّلة لديك أو بممارسة هواية جديدة. قد تبدو هذه النصيحة عادية ولكنها عميقة الأثر. ربما كانت هواية جمع الطوابع أقل أهمية من عملك، ولكن الأنشطة الوجودية تحمل قيمة تفتقر إليها الأنشطة التحسينية، وعليك أن تفسح مجالاً لمثل هذه الأنشطة الترفيهية في حياتك.

ثمة تفسير آخر للفراغ الذي نشعر به في منتصف الحياة المهنية يتجاوز الحاجة إلى قيمة وجودية؛ نستطيع تمييز الخلل الهيكلي في طبيعة المشروعات واستثمارنا فيها إذا نظرنا إليها من منظور فلسفي، سواء كانت هذه المشروعات أوراقاً للطلاب عليك مراجعتها وتقدير درجاتها، أو صفقات عليك التوسط فيها، أو منتجات عليك تصميمها. الهدف من المشروعات هو إنجازها، وأنا مثلاً أركز عند كتابتي لهذا المقال على هدف لم يُنجَز بعد، ولكنه سيتحول إلى ذكرى بمجرد أن أنتهي منه، فالإحساس بالرضا إما مستقبلي نهدف إليه وإما ماضٍ نتذكره، فلا عجب إذاً أن نشعر بالفراغ في الحاضر. والأسوأ من ذلك أنه إذا كان للمشروع أهمية لديك، فإحساسك بالإنجاز يبقى مؤجلاً والمشاركة في المشروع تفقده أهميته؛ لأنك عندما تنهمك في مشروع ما فإما أن تفشل -وهو أمر ليس مرغوباً فيه- وإما أن تنجح وبذلك ينتهي تأثيره في توجيه حياتك.

يعتمد أحد أشكال أزمة منتصف العمر المهني على الاستثمار المفرط في المشروعات، ما يُفضي إلى إعطاء الأولوية للإنجاز التالي ثم الذي يليه. ولكن هناك منهجاً آخر؛ فاليقظة الذهنية تحظى بإقبال شديد هذه الأيام، وربما مللت سماع الشعار الذي يقول “العيش في الوقت الحاضر”، وأنا أتفهم ذلك؛ ففصل هذا الشعار عن سياقه الذي يدور حول أفكار انعدام الذات يجعله غير مفهوم، بيد أن فكرة العيش في الوقت الحاضر لها تفسير واضح وبعيد عن المعاني الغيبية.

يكمن الحل في التمييز بين نوعين من الأنشطة التي نشارك فيها، المشروعات التي تتسم بأنها أنشطة هادفة، بمعنى أنها تسعى إلى أهداف نهائية لم تتحقق بعد، والهدف من هذه الأنشطة هو إنهاؤها. فأنت تُعِدّ الكلمة الترويجية ثم تقدمها للعميل، أو تتفاوض على الصفقة ثم تُبرمها، أو تُخطط للمؤتمر ثم تستضيفه. ويحمل بلوغ الهدف في طياته لحظات من الشعور بالرضا، ولكن بعد ذلك ننتقل إلى المشروع التالي.

وتتسم أنشطة أخرى بأنها مستمرة، لا نهاية محددة لها، فكر ملياً في الفرق بين السير إلى المنزل والمشي لغرض النزهة، أو بين وضع الأطفال في الفراش ورعاية الأطفال؛ فالأنشطة المستمرة لا تُستنزَف بكثرة ممارستك لها، كما أنها لا تثير في نفسك الشعور بالفراغ، كما هي حال المشروعات التي تنجز دائماً في المستقبل أو الماضي. الأنشطة المستمرة تُنجَز على نحو كامل في الحاضر.

نمارس في العمل النشاطين كليهما، النشاط الهادف والنشاط المستمر. فأنت على سبيل المثال تكتب تقريراً خاصاً بالموارد البشرية (نشاط هادف)، ثم تطلب آراء زملائك (نشاط مستمر). غالبية أنشطة العمل الهادف تشتمل على جوانب مستمرة: حينما تعمل على إبرام صفقة ما فأنت تعزز استراتيجية النمو لشركتك، وحينما تستضيف مؤتمراً فأنت تُشرِك أصحاب المصالح العاملين في القطاع. الخيار لك أنت؛ إما أن تركز على الأنشطة الثابتة وإما أن تركز على الأنشطة المستمرة، إما المشروعات وإما العمليات. يمكنك التغلب على الشعور بالفراغ في الوقت الحاضر بضبط توجهاتك لتصبح أقل اندفاعاً وراء المشروعات، ولكن من دون أن تغير مهامك أو الكفاءة التي تنجز بها مهامك.

هذا يعيدنا إلى سؤال التشخيص: متى تكون أزمة منتصف العمر المهني إشارة إلى ضرورة تغيير المسار، بدلاً من تغيير طريقة تفكيرك وشعورك؟ ربما تكون غير راضٍ عن مستوى حياتك المهنية لأن وظيفتك لا تليق بمواهبك، إما لأن اهتماماتك تغيرت وإما لأن احتمالات الترقية ضعيفة، ولكن عدم رضاك قد يثير لديك أيضاً مشكلات الندم أو تدمير المشروعات الذاتي، وهي مشكلات لن يعالجها عثورك على وظيفة جديدة. العمل وفقاً للاستراتيجيات التي استكشفتُها هو خطوة نحو تشخيص الحالة، هل تكفي هذه الاستراتيجيات للتوفيق بينك وبين القيود المفروضة على مسارك المهني؟ إذا كانت الإجابة بالنفي، فهذه حجة لتغيير مسارك، ومنتصف العمر ليس مرحلة متأخرة، فأزمة منتصف العمر المهني يمكن أن تكون دافعاً لتغيير جذري يجدد حياتك.

ولكن حتى وإن أجريت هذا التغيير فلا تنس الأساليب التي مكنتني من اجتياز أزمتي الخاصة وأعادت إليّ استمتاعي بالعمل: اعلم أنه لا مفر من ضياع بعض الفرص فلا تحاول التخلص منها بتمني زوالها. وافهم أن الالتزام هو القوة الموازنة للندم. وافسح مجالاً للأنشطة ذات القيمة الوجودية. واهتم بالعمليات وليس بالمشروعات و المنتجات فقط.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .