في يناير/كانون الثاني 2020، بعد 8 أشهر فقط من تولي كوري باري منصب الرئيسة التنفيذية لشركة بيست باي (Best Buy)، علمت بتفشي سلالة جديدة من فيروس كورونا في الصين. وبحلول أوائل مارس/آذار، بدأت باري تتلقى تقارير تشير إلى سرعة انتشار الفيروس على السواحل الأميركية. عندها أدركت أن الشركة لم تكن تمتلك خطة للتعامل مع جائحة عالمية بهذا الحجم، إضافة إلى الضبابية بشأن طبيعة فيروس كوفيد-19 أو مدى انتشاره أو مدة استمراره.
وبدلاً من محاولة حل مشكلة لم تكن على دراية بكامل أبعادها، عقدت باري اجتماعاً ضمّ أعضاء فريقها لتحديد المبادئ الأساسية لصناعة القرارات في ظل حالة عدم اليقين. واتفقت هي وفريقها على 3 مبادئ رئيسية: 1) وضع سلامة الموظفين والعملاء على رأس أولويات الشركة، 2) تجنُّب تسريح العاملين نهائياً قدر المستطاع، 3) التركيز على خلق قيمة طويلة الأجل عند صناعة القرارات. واللافت للانتباه أنهم لم يشيروا من قريب أو بعيد إلى الحفاظ على الأرباح القصيرة الأجل.
كانت باري تمتلك البصيرة الكافية لفهم أن مشكلة مركَّبة مثل كوفيد-19 لا يمكن حلها باستخدام النهج التقليدي الذي كانت الشركة تستخدمه لحل المشكلات المعقدة والذي كان يعتمد على تفكيك المشكلة إلى عناصرها المنطقية ووضع خطة لحل كل عنصر بمعزل عن العناصر الأخرى، ومن ثم تجميع الحلول معاً على نحو منطقي وشامل لحل المشكلة كلها؛ وهو النهج الذي اعتادت الشركة استخدامه عند صناعة القرارات المتعلقة بالتسعير أو اختيار المنتجات المناسبة.
كان لا بد أولاً من قبول الطبيعة المركَّبة لجائحة كوفيد-19 وحالة عدم اليقين المصاحبة لها كي يتمكن فريق الإدارة العليا من ابتكار حلول للتعامل معها؛ لذلك أصبحت المبادئ الثلاثة لصناعة القرار بمثابة مصدر توجيهي استرشدت به الإدارة عند اتخاذها سلسلة من الإجراءات التدريجية للتكيف مع الطبيعة المتطورة للجائحة. على سبيل المثال، اضطرّت شركة بيست باي في بداية الأزمة إلى إغلاق متاجرها كلها البالغ عددها 1,025 متجراً، لكنها سرعان ما أصبحت واحدة من أوائل الشركات الوطنية التي أعادت فتح متاجرها بأمان بعد بضعة أشهر. خلال الإغلاق، علّقت الشركة عمل 51,300 موظف، لكن الكثيرين منهم عادوا إلى العمل مع إعادة فتح المتاجر. طوال هذه الفترة، اعتمدت باري إلى حدٍّ كبير على أعضاء فرق العمل الميدانية لاتخاذ أفضل القرارات الممكنة، مسترشدين بالمبادئ التي اتفقوا عليها مسبقاً. أدركت باري وفريقها أن كل قرار كان مؤقتاً ويمكن مراجعته وتعديله مع تطور الأحداث المصاحبة للأزمة.
هل المشكلة معقدة أم أنها مشكلة مركَّبة فحسب؟
أسفرت جائحة كوفيد-19 عن تحديات سلّطت الضوء على الفرق بين المشكلات المعقدة والمشكلات المركَّبة، وهما مصطلحان غالباً ما يخلط الكثيرون بينهما؛ فكلمة "معقد" (Complicated) مشتقة من الجذر اللاتيني (complicar) الذي يعني "طي شيء ما مع لفّه، بحيث يصبح أكثر إحكاماً". وهي تشير إلى المشكلات التي يمكن حلها من خلال اتباع عمليات محدَّدة سلفاً وفق خطوات مدروسة بعناية، مثل فتح شيء مطوي بعناية. أما كلمة "مركَّب" (complex) فمشتقة من الجذر اللاتيني (complector) الذي يعني "التشابك أو التداخل". وقد يتعذّر فك شيء متشابك بالضرورة، ما يعني صعوبة التوصُّل إلى حلول منظمة عند مواجهة مشكلات مركَّبة.
في مقال نُشر في هارفارد بزنس ريفيو عام 2011، أوضح غوكشه سارغوت وريتا ماكغراث الفرق بين الأنظمة المعقدة والمركَّبة على النحو التالي: "تنطوي الأنظمة المعقدة على الكثير من التفاعلات، لكنها عادةً ما تتبع نمطاً معيناً، وبالتالي يمكن التنبؤ بكيفية عملها"، ولتوضيح هذه الفكرة استشهدا بمثال شبكة الكهرباء. أما الأنظمة المركَّبة "فتنطوي على خصائص قد تتبع نمطاً معيناً، لكن تفاعلاتها تتغير باستمرار"، ولتوضيح هذه النقطة أشارا إلى أنظمة مراقبة حركة الطيران التي تتعامل مع عوامل متعددة متغيرة، مثل الطائرات التي تتحرك باستمرار وتغير الظروف الجوية في لمح البصر، ما يسهم في صعوبة التنبؤ بالنتائج.
استناداً إلى تمييزهما بين الأنظمة المعقدة والمركَّبة، يمكن النظر إلى المشكلات على طيف يتدرج من "مشكلات معقدة" إلى "مشكلات مركَّبة"، استناداً إلى الأبعاد الرئيسية التالية:
- قابلية التنبؤ: يمكن التنبؤ بالمشكلات المعقدة؛ فهي تتبع أنماطاً محددة سلفاً ويمكن توقُّع نتائجها بدرجة معقولة من الثقة. على النقيض من ذلك، فالمشكلات المركَّبة غير قابلة للتنبؤ؛ إذ تنبثق نتائجها عن عدد كبير من المتغيرات المتداخلة.
- قابلية الحل: يمكن حل المشكلات المعقدة من خلال التطبيق المدروس للخبرات والأدلة الإرشادية المنهجية. أما المشكلات المركَّبة فليست لها حلول حاسمة وتتطلب استراتيجيات تكيفية للتعامل مع حالات عدم اليقين المستمرة.
- انخراط الأطراف المعنية: تتضمن المشكلات المعقدة عادةً عدداً محدوداً من الأطراف المعنية الذين يؤدون أدواراً واضحة ومحددة. أما المشكلات المركَّبة فتشمل مجموعة متنوعة من الأطراف المعنية، لكلٍ منهم وجهة نظر ومصالح تختلف عن الآخر، ما يخلق منظومة شديدة التداخل والتعقيد.
- طبيعة التفاعلات: تشهد المشكلات المعقدة تفاعلات متسلسلة بين المتغيرات، ويمكن تحديد معالم هذه التفاعلات وتوضيحها. أما المشكلات المركَّبة فتتميز بتفاعلات غير متسلسلة، حيث تؤدي التغيرات في جانب معين من المنظومة إلى عواقب غير متوقعة في جوانب أخرى.
منذ بداية القرن الحادي والعشرين وهجمات القاعدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001، نعيش في عالم يزداد تقلباً وغموضاً وتعقيداً وضبابية تطلق عليه كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي اختصاراً "فوكا" (VUCA). وخلال العقدين الماضيين، لم تعد الأزمات أحداثاً نادرة أو متقطعة، بل أصبحت تحدث باستمرار، مثل انهيار البنوك في سبتمبر/أيلول 2008 وتفشي فيروس كوفيد-19 في عام 2020 وحرب روسيا على أوكرانيا وارتفاع معدلات التضخم عام 2022، وكلها أثّرت بشدة على عملية صناعة القرار لدى قادة الشركات. وعندما تتفاعل هذه الأزمات معاً، فإنها تخلق مشكلات مركَّبة.
في ورش العمل التي ننظمها للرؤساء التنفيذيين بكلية هارفارد للأعمال، نلاحظ معاناة القادة من سرعة وتيرة المشكلات المركَّبة التي يواجهونها. قبل تولي هؤلاء القادة منصب الرئيس التنفيذي، كانوا يمتلكون خبرات تمتد عقوداً من الزمن في التعامل مع المشكلات المعقدة، لكن خبرتهم محدودة في مواجهة المشكلات المركَّبة. ثمة أسباب عدة لهذا التحول، منها تراجع العولمة وتصاعد النزعة القومية والاستقطاب السياسي وظهور تكنولوجيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية التي تشمل تعديل الخلايا والجينات، والتغيرات الديموغرافية التي أدت إلى مواجهة العديد من دول العالم أزمة انخفاض عدد السكان وارتفاع نسبة الشيخوخة، بالإضافة إلى السخط المتزايد بسبب تزايد الفجوة الاقتصادية بين مختلف فئات المجتمع والشعور العام بالقلق من عدم تحسُّن الأوضاع. ونتيجة تفاعل هذه القوى تحوّلت المشكلات المعقدة إلى مشكلات مركَّبة.
تتطلب المواقف المعقدة إعداد القادة لاستخدام الحدس والمهارات التكيفية والإبداع والقدرة على التحمُّل بدلاً من الاعتماد ببساطة على مهاراتهم المكتسبة سابقاً لحل المشكلات المعقدة؛ فهدفنا في هذا المقال هو مساعدة القادة على فهم كيفية التعامل مع المشكلات المركَّبة من خلال دراسات حالة لقادة واجهوا هذه التحديات.
أمثلة على المشكلات المعقدة والمشكلات المركَّبة
تطورت الاستراتيجيات العسكرية والاستخباراتية منذ أوائل القرن العشرين وحتى اليوم على نحو يوضح الاختلافات بين المشكلات المعقدة والمشكلات المركَّبة؛ فخلال الحروب العالمية كانت الاستراتيجيات العسكرية تركز في الأساس على حشد أعداد ضخمة من الجنود والمعدات والتعامل مع أعداء محددين بوضوح وخوض المعارك للسيطرة على الأراضي. وعلى الرغم من الصعوبات التي كانت تكتنف هذه الحروب، فكانت تمثل مشكلات معقدة؛ لأنها كانت تتضمن التنسيق بين قوى ضخمة واستخدام تكتيكات معروفة وكانت النتائج متوقعة إلى حدٍّ كبير. في تلك الصراعات، كانت الحرب تنتهي في مرحلة ما بانتصار أحد الأطراف.
على النقيض من ذلك، أصبحت الحروب والنزاعات التي وقعت منذ حرب فيتنام ذات طبيعة مركَّبة، فقد أدى ظهور الإرهاب والحروب بالوكالة والحروب السيبرانية إلى إضافة عنصر جديد أسهم في صعوبة توقع النتائج؛ إذ لا تنطوي هذه النزاعات على خطوط مواجهة محددة بصورة لا لبس فيها أو أعداء محددين بوضوح، كما أنها تتضمن العديد من الجهات الفاعلة التي غالباً ما تكون غير تابعة لدول بعينها، ويصعب توقُّع دوافعها وأفعالها. ونظراً لعدم وجود نهاية محددة لهذه الحروب، بات على وكالات الاستخبارات والقوات المسلحة التكيف مع بيئة متغيرة باستمرار، وبات لزاماً عليها اتباع نهج أكثر مرونة وقدرة على التكيُّف.
وبالحديث عن عالم الأعمال، فغالباً ما يُنظر إلى مأساة عقار تايلينول (Tylenol) من إنتاج شركة جونسون آند جونسون باعتبارها دراسة حالة نموذجية للأزمات. ومع ذلك، تمثّل هذه الحالة مشكلة معقدة مقارنة بمشكلة طائرة بوينغ 737 ماكس (Boeing 737 Max) المركَّبة التي تبدو ظاهرياً مشكلة مشابهة؛ لأنها تمثّل أيضاً مشكلة متعلقة بالسلامة.
في عام 1982، توفي عدة أشخاص بعد تناولهم كبسولات تايلينول التي أضاف إليها أحد المخربين مادة السيانيد السامة. أدت هذه الوفيات إلى حالة من الذعر في جميع أنحاء البلاد واضطرت شركة جونسون آند جونسون إلى سحب المنتج من الأسواق بكميات ضخمة. على الرغم من صعوبة الموقف، يمكن تصنيف هذه الأزمة بأنها مشكلة معقدة؛ فبعد اتخاذ قرار سحب الكبسولات كلها من الأسواق وتدميرها، أصبح لدى الشركة خطة واضحة يمكن تنفيذها من خلال خطوات متدرجة. ولمنع تكرار مثل هذه المآسي في المستقبل، سارعت شركة جونسون آند جونسون ومنافسوها بطرح عبوات مقاومة للتلاعب؛ وعلى الرغم من أن تنفيذ هذا الإجراء تطلّب السرعة والبراعة، لم تكن المشكلة مركَّبة. في الواقع، كانت الشركة قد بدأت فعلياً تسويق أقراص مغلفة بدلاً من الكبسولات وقررت التحرك على نحو أسرع لطرحها في الأسواق باعتبارها بديلاً أكثر أماناً للكبسولات. وكان لا بد من طمأنة العملاء بأن هذا المنتج آمن وامتلاك القدرات اللازمة لإنتاجه وتوزيعه. استلزم هذا كله تحركات قيادية حاسمة، لكن الخطوات التي كان يجب على الشركة اتخاذها كانت واضحة.
تسلط أزمة طائرة بوينغ 737 ماكس الضوء على تعدد أوجه المشكلات المركَّبة؛ فبعد حادثتي تحطُّم مأساويتَين في عامي 2018 و2019، واجهت طائرة 737 ماكس قرار وقفها عن الطيران على مستوى العالم وإجراء تحقيقات مكثفة، ما أدى إلى تراجع ثقة الجمهور فيها بدرجة كبيرة. وعلى عكس أزمة عقار تايلينول، لم يكن ثمة حل واضح لأزمة طائرة 737 ماكس؛ فلم يكن هناك بديل فوري لها، وكان سحب الطائرة على الدوام سيسبِّب فوضى في حركة السفر بالطيران على مستوى العالم.
تأثرت أطراف عدة بهذه الأزمة؛ إذ كان على شركات الطيران المسؤولة عن تشغيل طائرات 737 ماكس معالجة أوجه القصور في تدريب الطيارين والتعامل مع الأساطيل الموقوفة. وشاركت الهيئات التنظيمية، لا سيما إدارة الطيران الفيدرالية الأميركية (FAA)، في اتخاذ قرار منع الطائرات من الطيران وعمليات إعادة الفحص وإصدار الموافقات لتأكيد سلامة الطائرات. وبدأت الجهات السياسية، ومنها الكونغرس الأميركي، إجراء تحقيقات في ممارسات شركة بوينغ وإجراءات الاعتماد بإدارة الطيران الفيدرالية، ما أضاف بُعداً سياسياً للأزمة، كما قادت أسر الضحايا احتجاجات ورفعت دعاوى قضائية، لتصبح طرفاً مؤثراً يحظى بتعاطف الرأي العام بطبيعة الحال.
تحولت الأزمة إلى مشكلة مركَّبة بسبب تضارب المصالح بين مختلف الأطراف المعنية، والتي تراوحت بين الحوافز المالية ومخاوف السلامة، كما تعرضت العوامل الثقافية داخل شركة بوينغ، مثل التركيز المتزايد على الأرباح المالية بدلاً من القيم الهندسية الأساسية للشركة، للتدقيق والنقد إلى جانب إخفاقاتها في عدة جوانب تقنية مهمة، مثل التصميم الهندسي وسلسلة التوريد. وأدى هذا التداخل المتزايد بين مختلف العوامل إلى خلق أزمة متعددة الأوجه لا يمكن توفير حلول بسيطة لها.
ومثلما اكتشف قادة شركة بوينغ (والعديد من الرؤساء التنفيذيين المشاركين في ورش العمل الخاصة بنا)، قد يكون الدليل الإرشادي للتعامل مع أزمة عقار تايلينول نقطة انطلاق مفيدة للتعامل مع أزمة معقدة، ولكنه ليس قابلاً للتطبيق بسهولة على المشكلات المركَّبة.
إدارة المشكلات المركَّبة
لإلقاء نظرة تفصيلية على أنسب أساليب التعامل مع الأزمات المركَّبة، نقدم 6 خطوات تساعد القادة على اجتيازها. ولتوضيح كيفية تطبيق القادة لهذه الخطوات، نستعرض مثال أزمة شركة نستله مع منتج ماجي نودلز (Maggi Noodles) في الهند.
في عام 2015، واجهت شركة نستله أزمة كبيرة عندما أفادت بعض الهيئات الرقابية في الهند أن منتج ماجي نودلز، الذي يمثل 30% من مبيعات الشركة في السوق الهندية، يحتوي على مستويات مرتفعة من الرصاص وغلوتامات أحادية الصوديوم (MSG). وعلى الرغم من أن اختبارات الشركة أثبتت أن المنتج آمن، تحولت الأزمة إلى قضية جدلية على مستوى البلاد بسبب النتائج المتضاربة الصادرة عن مختبرات حكومية متعددة، إلى جانب الدور التحريضي للإعلام. لم تقتصر أخطار هذه الأزمة المركَّبة في إحدى المراحل على منتج ماجي، بل امتدت لتشمل أيضاً منتجات شركة نستله كلها في الهند، وللتعامل معها اضطر قادة الشركة إلى تجاوز الحلول التقليدية وتبني نهج استراتيجي قائم على المبادئ. سمح لهم هذا النهج بالتكيف والتفاعل مع الأطراف المعنية والتعلُّم المستمر.
1. الاستناد إلى رسالة المؤسسة وقيمها
يجب أن يستند نهج القائد على رسالة المؤسسة وقيمها الأساسية. في حالة شركة نستله، أكّد الرئيس التنفيذي بول بولك أن الشركة تضع الالتزام بالجودة والسلامة على رأس أولوياتها. وانطلاقاً من التمسك بهذه الرسالة، سعت نستله إلى استعادة ثقة الجمهور وسط الأزمة المتصاعدة، مع تعزيز تركيزها على السلامة عند اتخاذ قرارات تكيفية تتناسب مع الظروف المتغيرة طوال فترة الأزمة. واسترشاداً بهذه القيم، قررت نستله سحب منتج ماجي من السوق حتى حل قضايا السلامة بما يرضي الأطراف المعنية كافة، على الرغم من قناعتها بأن المنتج لا يشكل أي خطر حقيقي على السلامة. اتخذت الشركة هذا القرار استناداً إلى مبادئها دون أن تعترف بوجود خطأ من أي نوع، لكنها اتخذته لإظهار التزامها بأعلى معايير السلامة، ما منحها قاعدة أخلاقية صلبة للتعامل مع الأزمة على نحو فعّال.
2. فهم طبيعة المشكلة بأبعادها كلها
قبل البحث عن الحلول، على القائد أن يفهم طبيعة المشكلة من مختلف جوانبها فهماً عميقاً وشاملاً. وفي حالة نستله، رأت الشركة في البداية أن مشكلة ماجي نودلز مسألة تقنية مباشرة تتعلق بسلامة الغذاء، ويمكن التعامل معها بسهولة، لكن مع تطور الأزمة اتضح أن منتج ماجي نودلز أصبح أيضاً عرضة لهجوم الجماعات ذات النزعة القومية والهيئات الرقابية التي ساورها القلق من الشعبية الكبيرة التي تحظى بها العلامات التجارية الأجنبية في السوق المحلية. غالباً ما تتطلب المشكلات المركَّبة التخلي عن الأطر التقليدية ومحاولة فهم الموقف من خلال عملية "التفسير الحسي"، وهي عملية ديناميكية تهدف إلى استيعاب الوضع المتغير وأحياناً تحليله بأثر رجعي. لقد مكّن هذا الفهم الأوسع نستله من تعديل استراتيجيتها لتشمل معالجة العوامل السياسية والاجتماعية إلى جانب قضايا سلامة المنتج التقنية. وبعد أن أدركت نستله السياق العام للأزمة وأيقنت أن المشكلة لا ترتبط بالجوانب التقنية البحتة، طورت استراتيجيتها بحيث تشمل معالجة العوامل السياسية والاجتماعية إلى جانب القضايا التقنية المتعلقة بسلامة المنتج.
3. التحلي بالمرونة الدائمة في مواجهة التغيرات المحيطة
يمكن حل المشكلات المعقدة بخطط منهجية، ولكن عند مواجهة مشكلات مركَّبة، على القادة اتخاذ قرارات حاسمة واحتواء المخاطر الفورية مع السعي في الوقت ذاته لتحقيق تقدم تدريجي من خلال خطوات تدريجية متتالية. قد يستلزم هذا الاعتراف بأن التقدم لا يسير دائماً في اتجاه واحد نحو الأمام، بل قد يشمل المضي قدماً أو اتخاذ خطوات جانبية أو حتى التراجع أحياناً. في حالة نستله، بدأت الشركة باستجابة أولية منظمة تمثلت في جمع الأدلة على نحو منهجي من خلال إجراء اختبارات معملية داخلية وخارجية لإثبات سلامة المنتج، لكن مع تصاعد ردود فعل الرأي العام السلبية، أعادت الشركة صياغة استراتيجيتها، حيث وازنت بين التدابير الاحتوائية (مثل سحب المنتجات من الأسواق) والتدابير الاستباقية لاستعادة ثقة المستهلك. تطلّب هذا النهج التدريجي قدراً عالياً من المرونة والقدرة على التكيف، ما سمح لشركة نستله بمواءمة إجراءاتها وفقاً للمستجدات، مع العمل باستمرار نحو إعادة طرح منتج ماجي نودلز في السوق. لم يكن التقدم يسير وفق نهج تسلسلي، لكن القدرة على التجريب والتعلم وإعادة مواءمة الخطط مكّنت نستله من التعامل مع المستجدات بكفاءة وباستمرار.
4. استخدام حلقة الملاحظات الآنية
تتطلب المشكلات المركَّبة أنظمة ملاحظات مستمرة تتيح للمؤسسات التكيف الحيوي مع التغيرات غير المتوقعة. خلال أزمة ماجي نودلز، أنشأت شركة نستله حلقات ملاحظات آنية من خلال إنشاء آليات لجمع المعلومات من داخل الشركة وخارجها؛ فعلى المستوى الداخلي، عقدت نستله اجتماعات أسبوعية عامة لرفع معنويات موظفيها في الهند بعد أن تأثروا بشدة بالنقد الإعلامي المتواصل. وعلى المستوى الخارجي، تابعت نستله من كثب الرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية التقليدية، ما مكّنها من مواءمة رسائلها بما يعكس مخاوف المستهلكين والرد على المعلومات المغلوطة. وبفضل حلقات الملاحظات الآنية هذه، تمكّنت نستله من الاستجابة بسرعة للتغيرات الطارئة على الرأي العام والتحديات القانونية، ما جعل استجابتها للأزمة أكثر مرونة وفاعلية.
5. توسيع دائرة التفاعل مع أصحاب المصلحة بحيث تشمل الأطراف المعنية كافة
يتطلب التعامل مع الأزمات المركَّبة استراتيجية شاملة للتفاعل تهدف إلى إشراك الأطراف المعنية كافة بمختلف آرائهم ووجهات نظرهم؛ ففي أثناء أزمة ماجي نودلز، وسّعت نستله دائرة تفاعلها بحيث لم تقتصر على الهيئات الرقابية، بل شملت أيضاً المستهلكين وتجار التجزئة ووسائل الإعلام وقادة الرأي العام؛ إذ عقدت نستله مناقشات مع المسؤولين الهنود لمعالجة المخاوف القانونية مباشرة، على الرغم من التحديات المرتبطة بالتعامل مع الإجراءات البيروقراطية والحساسيات السياسية. ولأن المصدر الرئيسي لرزق الكثير من تجار التجزئة يعتمد على منتج ماجي نودلز، فقد سعت الشركة إلى كسب دعمهم لعلمها بدورهم الحيوي. وبإشراك مجموعة واسعة من الأطراف المعنية، وضعت نستله حجر الأساس لعودة المنتج إلى رفوف المتاجر الهندية في نهاية المطاف.
6. إعداد القادة للتعامل مع المشكلات المركَّبة
يصل القادة إلى مناصبهم العليا عادةً بفضل قدرتهم على حل المشكلات المعقدة باستخدام منهجيات منطقية، لكن التعامل مع المشكلات المركَّبة يتطلب قدرة القائد على توظيف مهاراته الحدسية التي اكتسبها خلال سنوات من الخبرة في التعامل مع مثل هذه المشكلات، ما يمكّنه من التعامل مع الغموض والتكيف مع الظروف المتغيرة بسرعة وتحقيق التوازن بين مصالح الأطراف المعنية من مختلف الأطياف. عندما عيّنت شركة نستله وان لينغ مارتيلو، وهي مسؤولة تنفيذية متمرسة في إدارة الأزمات بالأسواق الآسيوية، ركزت على رفع المعنويات داخل نستله الهند وتعزيز استجابة متوازنة تراعي الحساسيات الثقافية المصاحبة للأزمة. وقد أبرز منهجها القيادي أهمية إعداد القادة للتعامل مع الغموض وامتلاكهم خبرة في اجتياز المشهد الاجتماعي والسياسي المركَّب.
تشكّل القدرة على التعامل مع المشكلات المركّبة مهارة أساسية يجب أن يمتلكها قادة الأعمال المعاصرون في مواجهة حالات عدم اليقين ومعالجة المشكلات عند ظهورها؛ فاستخدام حلول المشكلات المعقدة لمعالجة مشكلة مركَّبة سيؤدي إلى تفاقم المشكلة، لذلك على القائد أن يميّز بين استخدام التفسير العقلاني والتفسير الحسي، ويحدد أسلوبه المفضل في معالجة المشكلات من حيث الاعتماد على التوقعات الواضحة والقدرة على العمل وسط الغموض، ومعرفة الفرق بين التعامل مع المخاطر المحددة وإدارة حالات عدم اليقين غير المحددة، واستخدام مزيج من المنطق والحدس لتجنب الوقوع في هذا المزلق؛ إذ يتطلب التعامل مع المشكلات المركَّبة قدرة القائد على استخدام الحدس والإبداع والمرونة.
ملاحظة المحرر: يتوجه مؤلفو المقال بالشكر إلى كلٍّ من كايتي ستانلي لجهودها البحثية في هذا العمل، وتوماس بوبرل وهيوبرت جولي على إسهاماتهما القيّمة، كما يتوجهون بالشكر إلى الرئيس التنفيذي لشركة أيه بي آي (ABI)، ميشيل دوكيريس، الذي طرح للمرة الأولى فكرة الرجوع إلى الجذر اللاتيني للتمييز بين المشكلات المعقدة والمشكلات المركَّبة، ويتوجهون بالشكر أيضاً إلى الرؤساء التنفيذيين الآخرين الذين شاركوا في ورش العمل بكلية هارفارد للأعمال وقدموا رؤاهم حول هذا الموضوع.