تشهد عملية التعامل مع المواهب والخبرات من قِبل أصحاب العمل الكبار العديد من التغييرات. ففي الماضي، كانت لدى الشركات، وتحديداً شركات الخدمات المهنية، الجرأة بأن تشير إلى الباب، وتذكّر الموظفين المتذمرين أن السوق أكثر إجحافاً خارج هذه الشركة. أما اليوم، فلم يعد لهذا التهديد التأثير ذاته، إذ إن العديد من المواهب والخبرات يختارون بأنفسهم التخلي عن الوظيفة. وبينما جرت العادة في الماضي أن تنافس الشركات بعضها من أجل استقطاب المواهب، فالآن هي تنافس بديلاً آخر: وهو سوق العمل الحر.
إذ وجدت دراسات استطلاعية حول العاملين الأميركيين والأوربيين، أن ما يقرب من 25-35% منهم يعتمدون على العمل الحر كجزء أساسي من دخلهم. وعكس المفهوم الشائع عن العمل الحر وتركيزه على الأعمال المستقلة التي لا تحتاج إلى خبرات عالية أو تعويضات مرتفعة مثل قيادة السيارات كما في شركة "ليفت" (Lyft) أو تقديم الخدمات كما في سوق "تاسك رابيت" (TaskRabbit)، فلقد كشفت الأبحاث البريطانية أن 59% من اقتصاد العمل الحر يعتمد على العاملين المتعلمين والمحترفين، بينما يعمل 16% فقط كسائقين وعمال خدمات.
ولقد أردنا التوصل إلى فهم أفضل لأولئك الأشخاص الذين يتحولون إلى مستقلين، وأسباب ذلك التحول، وماذا يمكن أن يعني ذلك التحول للشركات، لذلك عملنا مع شركة "إيدن ميك كالوم" (Eden McCallum) للاستشارات الإدارية (حيث يعمل أحدنا هناك)، وكذلك كلية "لندن للأعمال" (London Business School)، وذلك لإجراء دراسة استقصائية عبر الإنترنت شملت 307 مستشاراً مستقلاً و94 مستشاراً موظفاً تقليدياً في أوروبا وأميركا الشمالية، في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
إذاً السؤال الأول هنا: "لماذا يتحول المستشارون إلى مستقلين؟"
في عيّنة الدراسة التي قمنا بها، يتمتع الاستشاريون المستقلون بخبرات عالية، ويعد نحو 75% من هؤلاء المستشارين هم العائل الرئيس أو الوحيد لأسرهم. والجدير بالذكر، هنا، إن 90% من الاستشاريين أفادوا أنهم اختاروا مسبقاً أن يباشروا أعمالهم الاستشارية بشكل مستقل، في حين أفاد 10% فقط بأنهم أُرغموا على الاتجاه نحو العمل المستقل بعد فقدان وظائفهم. ولدى سؤالهم عن المدة الزمنية التي يعتزمون أن يعملوا فيها كمستقلين، أفاد 68% أنهم يخططون للعمل بشكل مستقل لأكثر من ثلاث سنوات، وهي نسبة مرتفعة بالمقارنة لنسبة مقدارها 32% عندما أجرينا الاستبيان لأول مرة عام 2002.
كما ذكر 90% من المستشارين المستقلين، في الاستبيان، أنهم راضون عن العمل بهذه الطريقة، وهو ما يتوافق مع بياناتنا التي تشير إلى أنهم أكثر رضاً عن حياتهم المهنية الحالية، مقارنة مع الاستشاريين الذين ما زالوا في وظائفهم. علاوةً على أنهم ناجحون في عملهم كمستقلين أيضاً. ويلبي معظم الاستشاريين المستقلين المتطلبات اليومية للأسرة، ويكسبون أكثر أو على الأقل كما كانوا يكسبون عندما كانوا موظفين، رغم أنهم يعملون لأيام أقل. بل ويُصنِّف المستقلون أيضاً أعمالهم، في الوضع الراهن، على أنها أعلى جودةً إذا ما تمت مقارنتها بأعمالهم عندما كانوا ضمن الشركات الاستشارية التقليدية، إذ أفاد 91% منهم أنهم الآن يوفرون عروضاً مالية أفضل لعملائهم، وأفاد الثلثان أنه من المرجح أن يعمل عملاؤهم على تنفيذ توصياتهم.
وتشير البيانات المتوفرة بين أيدينا إلى أن الأعمال المستقلة جذّابة، نظراً لأنك "تصيب بها عصفورين بحجر واحد"، بمعنى أنها ناجحة على المستويين المهني والشخصي على حد سواء. فعلى المستوى المهني، تبدو الأعمال المستقلة أكثر جدوى وذات تأثير أكبر. حيث أفاد غالبية المستشارين المستقلين، الذين شملهم الاستبيان، أنهم يشعرون بارتياح أكبر في أعمالهم الحالية، كما يعتقدون أنهم يوفرون خدمات أفضل لعملائهم إذا ما تمت المقارنة بواقعهم عندما كانوا موظفين.
أما فيما يتعلق بالمستوى الشخصي، فقد أعربوا عن أنهم باتوا يمتلكون زمام السيطرة على وقتهم بشكل أفضل، بالإضافة إلى مزيد من المرونة في تحقيق التوازن بين عملهم وحياتهم الشخصية. وهو ما أكده لنا أيضاً سوهيني برامانيك، مدير سابق في شركة "ماكنزي" (McKinsey)، قائلاً: "من خلال عملي الاستشاري المستقل، أتمتع بأفضل ميزتين: حل المشكلات الحقيقية وإحداث التأثير الحقيقي، جنباً إلى جنب مع المرونة التي أحتاج إليها لمتابعة المشاريع والاهتمامات الأخرى".
وعلى الرغم من كل ذلك، بالطبع يحمل العمل المستقل بين طياته المزيد من عدم اليقين وعدم الاستقرار. إذ لا يتمتع المستقلون بالمزايا التي يحصل عليها الموظفون، ولا توجد علامة تجارية عالمية ضخمة للرجوع إليها، كما يصبح التقدم الوظيفي أقل وضوحاً وملاحظةً. وفي أغلب الأحيان، تحدث تقلبات كبيرة سواء فيما يتعلق بالعمل أو الدخل. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين يعتبرون الأمن والاستقرار من أولوياتهم قد يجدون في وظائف الشركات التقليدية خيارهم الأمثل.
لكن بالنسبة للعديد من المستقلين، فإن عاملي الأمن والاستقرار يتمتعان بجاذبية محدودة لهم. إذ عبّر معظم الذين شملهم الاستبيان بكل ثقة أنهم يستطيعون أن يكسبوا كل ما يستهدفونه. كما وجدوا أيضاً أن التركيز على تسليم الأعمال للعملاء فرداً فرداً، على وجه الخصوص، هو أمر ممتع. وبدوره، أخبرنا توبياس فيتر، مدير سابق في شركة "بي سي جي" (BCG) ومستقل ناجح لمدة سبع سنوات، عن تجربته قائلاً: "وجدت أن حجم المشاريع المشوقة والمجزية حقاً في حياتي الاستشارية المستقلة أكبر بكثير مما كانت عليه في منصبي الوظيفي السابق".
كما أن أولئك المستقلين لا يفتقدون السياسات الداخلية وإدارة المسار المهني اللذين يتعلقان ببقائهم ضمن الشركة التقليدية. فهم على دراية كافية بماهية الأشياء المهمة بالنسبة لهم، والتي تتمثل في: العملاء الكبار، والتحدي الفكري، والمرونة، والقدرة على التحكم في اختيار المكان والزمان والأشخاص الذين يعملون معهم، والقدرة على خلق التوازن بين العمل والحياة، فالعمل المستقل يحقق كافة هذه الأبعاد. ومن المثير للاهتمام، إن أقرانهم من الموظفين التقليديين يجدون أيضاً هذه الأشياء جوهرية، إلا أن مستويات الرضا لديهم حول معظم هذه العناصر متدنية للغاية.
وكان هذا النوع من المرونة التي يوفرها العمل المستقل موضع تقدير خاص من قبل النساء اللواتي شملهن الاستبيان. إذ يكمن سببان رئيسان وراء تحول النساء إلى العمل المستقل، وهو التحكم الأكبر في وقتهن، وتحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة. وعلى الرغم من أن هذين السببين ينطبقان على الرجال أيضأ، إلا أن أهميتهما بالنسبة للنساء أعظم بكثير. لكن الشركات التقليدية لم تعمل على تكييف المتطلبات المحددة للوظائف وممارسات العمل الخاصة بها، بشكل كاف، لجعل المسار المهني أكثر مرونة وجعله خياراً مرضياً. وربما يكون عدم التكييف هذا هو السبب وراء أن النساء يشكلن نسبة صغيرة من الرتب العليا في العمل الاستشاري، على الرغم من أن عدد الموظفين من كل من النساء والرجال متساوٍ تقريباً.
بل والأكثر من ذلك، أنه يبدو أن اتخاذ خيار العمل المستقل يعالج فجوة الأجور بين الجنسين المسببة للإشكالات والموجودة في الشركات الاستشارية التقليدية. إذ تشير معلومات معادل الراتب للدوام الكامل المتداولة إلى أن النساء يحصلن على تعويضات أكثر إنصافاً عندما يعملن كمستقلين. وعلى وجه التحديد، كشفت البيانات، في الاستبيان الذي أجريناه، عن وجود فجوة في الأجور بين الجنسين بنسبة 28% للعاملين في شركة تقليدية، لكن هذه الفجوة تضيق حتى تصل إلى نسبة 3% عندما يعمل هؤلاء الأشخاص أنفسهم كمستقلين.
أما الرابحون الكبار الآخرون من نهج الأعمال المستقلة هم جيل الألفية أو الجيل (Y). إذ يجد المستقلون الذين شملتهم أبحاثنا أنهم يمكن أن يكسبوا أيضاً في كثير من الأحيان أكثر مما كانوا يجنونه عندما كانوا موظفين في شركات تقليدية، حيث يكسب 71% منهم أكثر من رواتبهم كموظفين بدوام كامل، بينما يتقاضى 13% منهم الرواتب ذاتها التي كانوا يتقاضونها كموظفين تقليديين. أما جيل الألفية الذين تم استهدافهم في استبانتنا، فيكشف 79% منهم أنهم يغطون حاجاتهم اليومية أو ما يزيد عن ذلك من خلال العمل المستقل. كما أنهم يقدّرون قيمة مرونة العمل المستقل، إذ يمكنهم متابعة اهتمامات أخرى، أو العمل في الشركات الناشئة.
إضافة لذلك، هناك فرص عديدة تجعل العمل المستقل أكثر جاذبية هذه الأيام. فعلى سبيل المثال، توظف بعض الشركات كلاً من شركات الاستشارات الإدارية والمستشارين المستقلين على حد سواء. وتوفر بعض الشركات التقليدية خيارات لموظفيها أن يعملوا معها كمستقلين. وتساعد أكثر الشركات الأخرى مثل شركة "إيدن ميك كالوم" (Eden McCallum) في تأمين الوظائف المناسبة للمحترفين. حيث أفاد 70% من الذين استجابوا لشركات الطرف الثالث أنهم ينجزون بعض أعمالهم عبرها.
والآن يأتي دور السؤال الآخر وهو: "كيف يمكن لجهات التوظيف التقليدية أن تستجيب؟"
إن المميزات التي يقدمها العمل المستقل، والتي تتمثل في: الإنجاز المهني، وقدرة المستقل على التحكم بحياته الشخصية، والتعويضات العادلة، وخيارات العمل المتزايدة، جميعها تُمثل تحدياً لجهات التوظيف التقليدية. إذ يدرك بعض الأشخاص الموهوبين أن هناك حياة جذابة وأكثر إغراءً تنتظرهم خارج الشركات التقليدية.
وهنا تأتي مهمة هذه الشركات لإعادة صياغة العروض التي صمموها لهؤلاء الموهوبين، قبل أن يغادروا ويتجهوا لهذه الحياة المغرية بالنسبة لهم. لذلك، إليكم بعض الطرق للبدء:
1- قدم للموظفين المزيد من الخيارات والتحكم بالعمل الذي يقومون به. على الرغم من أن عمل المشروع قد يكون محدداً من تلقاء نفسه، ولكنك بحاجة لأن يشعر الموظفون من ذوي المهارات العالية الذي يعملون لديك بسلطة تقديرية في الاختيار، ليس فقط متى يعملون، بل أيضاً ما يعملون عليه، وكيف ينفذونه.
خاصة أن النتيجة الحاسمة، المستخلصة من البيانات التي بين أيدينا، تفيد أن المستقلين يشعرون أنهم يقومون بعمل أكثر جدوى وأكثر تأثيراً، على الرغم من أنهم ينجزون في الأساس المهام نفسها التي كانوا ينجزونها كموظفين تقليديين. لذلك، يتعيّن على المؤسسات هنا أن تسأل نفسها عما تفعله ويجعل موظفيها يشعرون أن عملهم ليس ذا معنى أو ذا قيمة لدى عملائهم.
2- اعمل على خلق شعور أفضل تجاه التوازن بين العمل والحياة. هذا هو الحافز الأول الذي يدفع الموظفين من ذوي المهارات العالية إلى العمل المستقل طوعاً. ولن يكفي هنا مجرد إتاحة المرونة كخيار، وإنما يجب التخلص من طريقة النظر إليها كنوع من أنواع التقصير. إذ يحتاج العاملون أن يشعروا بأن الاستفادة من مثل هذه السياسات لن ينظر إليها على أنها عدم التزام.
3- لابد أن تدرك أن النساء من ذوات المهارات العالية وكذلك الموظفين الشباب تُبخَس قيمتهم ضمن الشركات التقليدية، مما يجعلهم أكثر عرضة للمغادرة. من الضروري أن تأخذ الشركات الوقت الكافي لتقييم سياساتها وممارساتها بجدية والنظر في طرق لاجتثاث التحيزات المنهجية التي تصعب رؤيتها. فعلى سبيل المثال، سياسات الحد الأدنى من إجازة الأمومة، والاستعداد الدائم للسفر، وتوافر للعملاء على مدار 24 ساعة و7 أيام في الأسبوع، والترقيات التي تستند إلى "الحضور" وليس على النتائج، كل ذلك يقوض تقدم المرأة ضمن الشركات التقليدية، وبالتالي يجعل الاستقلالية والمرونة التي يوفرها العمل المستقل أكثر جاذبية.
تشير الأبحاث إلى أن تدريب كبار المدراء على رؤية هذه المشكلات يمكن أن يساعد، كما يمكن أن يقدم أنظمة توجيه، ودعم، ومكافآت أفضل لهؤلاء الموظفين. أما إذا كانت الشركات ترغب في الاحتفاظ بالمواهب، فعليها أن تخلق مجالات متساوية حيث يشعر الجميع أن لديهم فرصاً متساوية للنجاح.
4- أسس قسماً "للمستقلين". اختارت العديد من الشركات التقليدية تأسيس قسم منفصل لتوفير خيار العمل المستقل للخريجين، وكذلك الموظفين (إن كانوا يفضلون ذلك). وهذا ما فعله سوق تبادل المواهب "بي دبليو سي تالنت إكستشينج" (PwC's Talent Exchange). إذ يمنح هذا السوق الشركة الوصول (وإن لم يكن حصرياً) للمحترفين الذين اختاروا المسار المستقل، ويسمح للشركة بالمشاركة والتجربة مع هذا النهج الجديد في المسارات المهنية.