تمثّل الثقافة الإيجابية عنصراً مهماً لتحقيق النجاح المؤسسي، بحسب ما يتضح من العلاقة بين الثقافة والقيادة والتزام الموظفين ورضا العملاء والابتكار. لكن الثقافة "القوية" لا تعني أنها ثقافة ثابتة، فلما كانت الأهداف والاستراتيجيات المؤسسية تتغير مع مرور الوقت، لا بد من تعمُّد تغيير الثقافة بطرق مدروسة أيضاً. يطرح أفضل القادة السؤال التالي: "ما الثقافة التي علينا بناؤها من أجل تحقيق أهدافنا الاستراتيجية؟" لكن ثمة عائقاً يمنع العديد من المؤسسات من إحداث تغيير حقيقي وناجح في الثقافة، ألا وهو المسؤولية. السؤال الأول الذي يجب طرحه عندما يلوح التغيير الثقافي في الأفق هو: "مَن يتولى مسؤولية إحداث التغيير؟" وليس: "كيف نُشرع في التغيير؟"
وتنطوي الإجابة عن هذا السؤال غالباً على إدارة الموارد البشرية. ساعدتُ إحدى أكبر المؤسسات المالية في العالم مؤخراً في أثناء عملية تغيير ثقافتها؛ أطلقت المؤسسة دعوات مهمة للتغيير، وامتلكت صلاحيات رسمية لإجرائه، لكنها واجهت تحدياً رئيسياً تمثّل في المسؤولية، وكحال معظم المؤسسات المتوسطة إلى الكبيرة الحجم، تقع المسؤولية الرسمية عن تغيير الثقافة المؤسسية على عاتق كبار المسؤولين التنفيذيين للموارد البشرية وفِرقهم.
وعلى الرغم من أن تغيير الثقافة يمثّل مشروعاً مهماً وجديراً بالاهتمام لقسم الموارد البشرية، فليس من المنطقي تحميل مسؤوليته لهذا القسم وحده، إذ تتحول تلك الجهود عادة إلى مجرد وضع علامة إلى جانب قائمة المهام المطلوبة في كثير من الأحيان، وهي بحسب وجهة نظر مسؤولي قسم الموارد البشرية في المؤسسة المالية مثلاً وضعٌ غير عادل يتطلب منهم "أداء مهام إضافية"، ولا يعود افتراضهم ذلك إلى نياتهم السيئة أو تشكيكهم بأهمية تغيير الثقافة، بل إلى الأولويات المتزاحمة في قوائم مهامهم. ومن الصعب بالتالي نقل التغيير الثقافي إلى جدول مهام قادة وحدات الأعمال المليء بالمسؤوليات الرسمية الأخرى ما لم تكن هذه المسؤولية الرسمية مطلوبة منهم بالفعل، لا سيما عندما يفترضون أن قيادة هذه المهمة تقع على عاتق قادة الموارد البشرية الذين يمتلكون مهارات وخبرات أكبر في هذا المجال.
التغيير الحقيقي للثقافة يعني تغيير طريقة عمل المؤسسة، فهو ينظّم عملية اتخاذ القرارات وإنجاز الأعمال ويحدد ماهية المهام التي تحظى بالأولوية وكيفية تفاعل الموظفين مع الزملاء والعملاء والزبائن. وهو يمثّل مبادرة ناجحة وقوية عندما يعتبره قادة الشركات من مسؤولياتهم، ويعتبرون إدارة الموارد البشرية مورداً مهماً لمساعدتهم على تحقيقه. لنتأمل الدراسة الطولية التي نشرها أنتوني بويس وزملاؤه مؤخراً والتي وجدت أن الثقافة تأتي أولاً في التنبؤ بالمبيعات، إذ تؤثر في رضا العملاء، ومن المؤكد بالتالي أن طبيعة الثقافة تهمُّ إدارة المبيعات بقدر ما تهمُّ إدارة الموارد البشرية،
وهو ما يستلزم أن يكون تغيير الثقافة مشروعاً تعاونياً. ويمكن لقادة إدارة الموارد البشرية مساعدة المسؤولين التنفيذيين على تنفيذ التغيير الثقافي بنجاح من خلال 4 أمور:
- تسهيل مرحلة البحث. لو أردنا الانتقال من الثقافة "أ" (الثقافة الحالية) إلى الثقافة "ب" (الثقافة المستقبلية المرغوبة)، فسنقضي الساعات والساعات ونخوض محادثات ونلتمس الاستشارات لاتخاذ قرار بشأن الثقافة "ب"، لكن ماذا لو اتخذنا الخطوات نفسها للحصول على فهم ملموس وهادف للثقافة "أ" على جميع المستويات؛ القيم والسلوكيات والعمليات والسياسات والأدوات؟ كلما كانت المؤسسة أكبر، زاد التنوع في فهم مختلف الأفراد لحقيقة الثقافة الحالية في الشركة. وبالتالي، يفتقر قادة الشركات إلى المعرفة، وتمثّل إدارة الموارد البشرية مورداً هائلاً في تسهيل هذه العملية.
- إقناع القادة بإمكانية تغيير الثقافة. شكّك العديد من كبار القادة الذين التقيتهم في إمكانية تغيير الثقافة، وهم محقون في ذلك، إذ لم يشهد معظمهم عمليات تغيير للثقافة المؤسسية إلا عندما أجبرتهم ظروف داخلية أو سوقية صعبة. ولهذا التشكيك ما يبرره بالفعل، فقد شهدوا العديد من الأمثلة على مبادرات تغيير الثقافة التي لم تُطبّق على الرغم من كل "المناقشات"، أو التي لم تنجح على الإطلاق. ويمكن لإدارة الموارد البشرية المساعدة من خلال مشاركة أمثلة حول كيفية تغيير المؤسسات ثقافاتها بطرق استباقية وإيجابية بما يتماشى مع أهدافها الاستراتيجية الطويلة الأجل.
- تعليم القادة كيفية التغيير. من غير الصائب أن نفترض امتلاك قادة الشركات خبرة فيما عليهم فعله للتأثير على الثقافة؛ قد يكون لدى بعضهم خبرة بالفعل، بينما قد يفترض بعضهم الآخر أن الخبرة تتولد بشكل فطري، وقد يفترض آخرون، بمن فيهم كبار القادة، أن تغيير الثقافة مسار جديد وغير مضمون، وقليل منهم شارك في قيادة التغيير الثقافي من قبل بالفعل. لا يكفي إشراك قادة وحدات الأعمال للحصول على آرائهم بشأن ما يجب تغييره وكسب تأييدهم للمبادرات، بل من المهم تجهيزهم بالمهارات اللازمة لإحداث التغيير الثقافي بالفعل وليتولوا زمام مسؤولية نجاحه.
- "تسليم مهام" العمل على المشروع رسمياً. بمجرد أن يحين وقت الانتقال من الثقافة "أ" إلى الثقافة "ب" والشروع في إجراء تغييرات لتسهيل الثقافة الجديدة، يجب أن تكون الرسالة الموجهة لقادة الشركات واضحة تماماً: "هذا المشروع ليس من مسؤولية إدارة الموارد البشرية، بل مسؤوليتكم". بمعنى آخر، تتمثّل مهمة إدارة الموارد البشرية في دعم التغيير ومساعدته وتسهيله، مثل أي شركة خارجية من الخبراء، في حين أن زمام المسؤولية لإجراء هذه التغييرات تقع على عاتق قادة وحدات الأعمال وليس على إدارة الموارد البشرية.
باختصار، لا بد أن نكون واعين بحقيقة ضرورة تغيير الثقافة في دورة حياة المؤسسة، ولعلّ أفضل طريقة لقيادة هذا التغيير هي الاستعانة بقادة وحدات الأعمال المهيئين والقادرين على تحمّل المسؤولية، والعمل بالتعاون مع إدارة الموارد البشرية.