شهد العقد الماضي تصاعداً في تبني الشركات ضمن الدول النامية لمفهوم المسؤولية الاجتماعية (CSR). كما أدركت (الحكومات، والشركات، والموظفون، والمؤسسات غير الربحية) أهمية اعتماد هذا المفهوم الذي أصبح يوازي القرارات التجارية والاستثمارية من حيث الأهمية، على الأخص بعد توقيع الدول على الميثاق العالمي للأمم المتحدة "UNGC" عام 2000، الذي يسعى إلى تعزيز مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات، ليُصبح قطاع الأعمال جزءاً من الحلول المساعدة على تحقيق الاستدامة. ما جعل سمعة الشركات مرهونة بتبني هذا المفهوم.
وتتنوع مظاهر تبني المسؤولية الاجتماعية للشركات في كل من الدول النامية والمتقدمة، سواء من ناحية رؤية الشركات للمسؤولية الاجتماعية، أو التفكير بكيفية ممارستها وتطبيقها عملياً.
ووفقاً لبحث ومراجعة متعددة المستويات عملنا على إنجازهما عام 2016 وتم نشرهما في "المجلة الدولية للإدارة" (IJMR)، إذ تناول البحث المسؤولية الاجتماعية في الدول النامية، وكان بعنوان (Corporate Social Responsibility in Developing Countries as an Emerging Field of Study)، حيث جمعنا 5 موضوعات أساسية تحيط بالجوانب الجوهرية للتباين في الأبحاث السابقة، وهي: أولاً، تجارب المؤسسات داخل بيئة الأعمال الوطنية. ثانياً، التجارب خارج بيئة الأعمال الوطنية. ثالثاً، شيوع العديد من الأطراف المنخرطين في عمليات الحوكمة الرسمية وغير الرسمية. رابعاً، المظاهر المهجنة وغيرها من الأشكال الأكثر دقة للمسؤولية الاجتماعية من أجل الشركات. وخامساً، نطاق متباين من الآثار الإيجابية والسلبية للمسؤولية الاجتماعية للشركات.
منطقة الدراسة
اعتمدنا عند تحديد نطاق وبنية هذه المراجعة على أبحاث مراجعة مهمة أُخرى، وذلك بالتركيز على المسؤولية الاجتماعية للشركات على المستوى المؤسسي والتنظيمي والفردي. ثم حدّدنا نطاق البحث بشكل أكبر عبر تحديد المقصود "الدول النامية". كما استخدمنا تقسيم "نيلسين" لعام 2011 الثلاثي للتنمية حسب عدد السكان مع التركيز على فئات التنمية المتوسطة والتنمية الأدنى كمحدد للإدراج في الدراسة. إذ يُعتبر هذا التقسيم نسبياً ويعتمد على البيانات وقائم على المعايير المستخدمة بشكل عام في برنامج "الأمم المتحدة للتنمية" و"البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي". وبناء على هذا التقسيم دخلت في الدراسة 101 من الدول النامية التابعة لقارة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا وإفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
ونجم عن هذه الجهود جمع 452 مقالة ظهرت في مجلات مؤثرة وأُخرى غير مؤثرة. فهنالك 4 مقالات فقط من مجموع المقالات 1% منها ظهرت بين العامين 1990 و1994، و26 مقالة ظهرت بين العامين 1995 و2004. وعليه، فإن الطفرة المهمة في المقالات حول المسؤولية الاجتماعية للشركات ضمن الدول النامية كانت بين العامين 2005 و2009، حيث ظهر 40% من المقالات التي تناولناها خلال هذه الفترة، و53% من المقالات نشرت بين العامين 2010 و2015. ما يدل على نضج منطقي في الأبحاث حول المسؤولية الاجتماعية للشركات في الدول النامية، وأن هذا الحقل ما يزال يشهد تطوراً متواصلاً بسرعة مطردة.
حين نظرنا إلى المقالات وفق مستويات التحليل، فإن 51% من المقالات ركزت على المستوى التنظيمي، و13% على المستوى المؤسسي، و9% على المستوى الفردي، بينما تناولت 27% من المقالات مستويين أو أكثر من التحليل. ويدل بحثنا كذلك على نزوع أكبر نحو تحاليل البيانات (فكانت الأبحاث النوعية 37%، والكمية 29%، والأبحاث التي مزجت بين المنهجيتين 4%)، أما الأبحاث الفكرية فشكلت 28% فقط، مع 2% من المقالات ضمن فئة المراجعات. وبالمحصلة، على الرغم من أن البحث لم يدرس جميع المقالات، فإننا نعتقد أن مراجعتنا تقدم مخططاً شاملاً عن المقالات التي نشرت في هذا الموضوع.
تطور مفهوم المسؤولية الاجتماعية
ولمّا أصبحت المسؤولية الاجتماعية للشركات أحد المفاهيم الحديثة التي تساعد في خلق بيئة عمل قادرة على التعامل مع التطورات المتسارعة في الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية والإدارية عبر أنحاء العالم، وفقاً لبحث صادر عن "المنظمة العربية للمسؤولية الاجتماعية"، بعنوان "المسؤولية الاجتماعية للشركات بين الواجب الوطني والمبادرات التطوعية". ولمّا أصبح نمو الشركات يتطلب التنبه للأضلاع الثلاثة التي عرّفها "مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة" (WBCSD)، ألا وهي النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة. أصبح فهم المسؤولية الاجتماعية والتفكير فيها، ثم تنفيذ مبادئها أمراً مهماً.
ومن هذا المنطلق، قمنا بشرح مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات، واستكشاف أمثلة محدّدة لاستراتيجيات وأنشطة وخطوات تنفيذ هذا المفهوم. كما لاحظنا شيئاً من الانحراف يظهر عند التركيز على أنواع المسؤولية الاجتماعية للشركات في الأبحاث وليس على يد صنّاع القرار للأفراد.
فهم المسؤولية الاجتماعية
وضعنا مجموعة أسئلة فرعية بموازاة مثيلتها التي طُرحت في النطاق الأوسع للأبحاث المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية للشركات، إلى جانب افتراضات السعي وراء الأرباح، فتبين أن هناك تقاطعاً بالأسئلة فيما يخص المسؤولية الاجتماعية للشركات مع هيكلية الملكية ضمن الشركة، وبالضغط من المستهلك، وإدارة السمعة، والأداء المالي للشركة، إذ ركّزت جميع الأبحاث على دعم النمو الاقتصادي والأسواق التي تتمتع بالكفاءة.
بخلاف ذلك، وجدنا أن هذه الأسئلة تُثير قضايا اجتماعية ثقافية وجيوسياسية وإيكولوجية، لأنها أسئلة سياسية ونقدية تخص العلاقة بين المسؤولية الاجتماعية للشركات والتنمية. كما تتطلب هذه الأسئلة اعتبارات تتجاوز اقتصادات السوق التقليدية وتستدعي النظر في كيفية قيام قوى السوق بكتم الأصوات المحلية وتهميشها وخنقها، وكيف يساعد فهم المسؤولية الاجتماعية للشركات في التعامل مع النتائج السلبية للاقتصاد العالمي، التي تسهم بها الشركات عبر الوطنية والمؤسسات المالية متعددة الأطراف، وكيف يمكن مواجهة الجوانب الخارجية السلبية عند وضع المبادرات الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية.
وعليه، يؤدي هذا التناول النقدي للمزج الكامن بين المسؤولية الاجتماعية للشركات والأداء المالي لها، إلى أسئلة بحثية جديدة تركز على استقصاء العوامل الخارجية السلبية للمستويات الأعلى من الأداء المالي للشركات، والاعتبارات بنظام جديد بخلاف استراتيجيات السوق والسعي وراء الربحية.
المحتوى
قمنا في عملية تحليل المحتوى بمراجعة عدة تعريفات تتعلق بالمسؤولية الاجتماعية للشركات والمجتمع اُستخدمت لتطوير الأدب الخاص بالبلاد. ووجدنا أن بعضاً من هذه التعريفات كانت شائعة في الأدب السائد للمسؤولية الاجتماعية للشركات والمجتمع مثل نموذج كارول الهرمي (1979 - 1999) Carroll Pyramid Model، الذي يتضمّن مسؤولية اقتصادية وقانونية وأخلاقية وتقديرية. وبوضع المسؤولية الاجتماعية والقانونية كأساس للهرم، يعيّن نموذج كارول قيمة أكبر للالتزامات الاقتصادية والضمانات القانونية من المسؤولية الأخلاقية والخيرية. وبالمثل، عادة ما يُستخدم تعريف (2001 McWilliam and Siegel) في كلتا المجموعتين من البحث، بحيث يتم تعريف المسؤولية الاجتماعية للشركات على أنها تعزّز الخير الاجتماعي بما يتجاوز مصالح الشركة والامتثال القانوني. وبالتالي، فإن المسؤولية الاجتماعية للشركات تُبنى على الاقتصاد الأساسي والعقود القانونية بين الشركات والمجتمع، إلى جانب محاولة تحقيق ما هو أبعد من ذلك لتعزيز الخير العام.
تعبيرات المسؤولية الاجتماعية
وبالانتقال من مرحلة "التفكير بالمسؤولية الاجتماعية للشركات" إلى التنفيذ، نكتشف قضايا ومناطق التركيز، فخلافاً للانشغال السائد لدى المستهلكين والمدراء والموظفين وأصحاب المصلحة في المراجعة الأساسيّة لبحث المسؤولية الاجتماعية للشركات في الدول المتقدّمة، ركزنا على مجموعة أوسع من أصحاب المصلحة والقضايا، بما في ذلك التعليم والتنمية البشرية وبناء القدرات وعمالة الأطفال والممارسات العادلة تجاه العمالة وحقوق الإنسان والأمن الإنساني وخلق فرص العمل والمساءلة المتعلقة بأصحاب المصلحة المهمّشين وعدم المساواة والفقر والعنف والتضارب والفساد والتلوث والتغير المناخي والاجتماعي، إلى جانب وضع المستفيد من المسؤولية الاجتماعية للشركات في مركز التحليلات بما في ذلك الأطفال والنساء والمزارعين والعمّال والموظفين وعمّال المناجم والرياضيين والمجتمعات المحلية وفقراء الريف والمجتمعات المحرومة أو المستهلكين منخفضي الدخل. وتعدّ هذه القضايا أوسع وأكثر دقة محلياً من الموضوعات الناشئة ضمن مراجعات البحث الأساسي للمسؤولية الاجتماعية للشركات (مثال: الكفاءة التشغيليّة، والأداء المالي، وسمعة الشركة وقدراتها، ونتائج السوق، وتعظيم الثروة، ومشاكل الوكالة).
في الواقع، ومع إدراك فروقات مهمة عبر الدول النامية، يشير البحث إلى حقيقة تطوّر المكاتب الوطنية الإحصائية للعديد من هذه الدول بطرق تحمل أوجه تشابه مذهلة فيما يتعلق بهياكل غير مستقرة أو متغيرة أو فاشلة، مثل التأثيرات المختارة للولاية، ومستوى أعلى من الفساد، وضعف في الإنفاذ التنظيمي والمؤسسات المالية، وتعقيدات الإدارة وصوت المواطن وأفعاله المتعاقد عليها. وغالباً ما يُشار إلى هذه الهياكل الضعيفة على أنها فراغات مؤسّسية أو أنها افتقار إلى هياكل إدارة سليمة لتسهيل علاقات السوق وعملياته (خان وباليبو Khanna and Palepu - 2011 صفحة 656)، التي بدورها غالباً ما تخلق مساحة خالية من المسؤوليات أو الأخلاقيات (دونالدسون ودونفي Dunaldson and Dunfee - 1994). حيث تؤكّد هذه المساحة الخالية من المسؤوليات أهمية دور الجهات الفاعلة في الشركة ضمن تعريف نوع ومستوى مشاركتها في المسؤولية الاجتماعية للشركات ضمن الدول النامية. وتُعدّ هذه التعقيدات ضمن المكتب الوطني الإحصائي مجالات مثمرة للبحث في المستقبل. كما يمكن اعتبار بعض الخيارات الإضافية حول مستوى المكتب الوطني الإحصائي هي العناصر المؤسسية التعويضية الرسمية وغير الرسمية، التي تعمل معاً لخلق ظروف فريدة من المرجّح أن تشكّل مصطلحات المسؤولية الاجتماعية للشركات. في حين أنّالمؤسسات الرسمية للإحصاء لا تمارس الضغط الكافي على الشركات للتخفيف من الانتهازية المفرطة في المسؤولية الاجتماعية للشركات، وبالنظر إلى الفراغات المؤسّسية المذكورة أعلاه، تُشكّل تأثيرات المؤسسات غير الرسمية ضغطاً تعويضياً لتتوافق مع معايير أو تقاليد ثقافية محدّدة مثل نظامي الزكاة والغوانكسي. (جمالي وآخرون Jamali et al - 2008؛ مون وشين Moon and Shen - 2010؛ شافير وآخرون Shafer et al - 2007).
المقال مقتبس من بحث كامل لـ د. ديما جمالي ود. شارلوت كرم بعنوان "المسؤولية الاجتماعية في الدول النامية، كمجال جديد للبحث". نشر في المجلة الدولية للإدارة IJMR عام 2016.
The article adapted from Original Publication- Jamali D.and Karam, C. 2016 CSR in Developing Countries as An Emerging Field of Study, International Journal of Management Reviews On Line DOI: 10.1111/ijmr.12112