عندما شقت أجهزة الكمبيوتر طريقها ودخلت إلى أماكن العمل في ثمانينيات القرن الماضي، واجه الطابعون على الآلة الكاتبة مشكلة. فحينما أخذت أجهزة الكمبيوتر مكان آلات الطباعة التقليدية، وأصبحت مهارات الطابعين الذين لا يعرفون التعامل مع برامج معالجة النصوص (مثل برنامج مايكروسوفت وورد) متقادمة. ومع ذلك، قلة هم من يجادلون بأن تقنية المعلومات قد زادت من مستوى البطالة بشكل دائم. فعلى الرغم من ارتفاع معدل البطالة في ثمانينيات القرن الماضي، تراجع المعدل مرة أخرى في نهاية المطاف، ليصبح متوسط معدل البطالة في التسعينيات مماثلاً لما كان عليه في السبعينيات. وحلت القوة العاملة التي تكيفت مع التقنية الحديثة محل العاملين القدامى.
فجوة المهارات
في أعقاب الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، كان هنالك نقاش حيوي يدور بين واضعي السياسات والأكاديميين حول ما إذا كانت الفجوة المماثلة بين المهارات التي يتمتع بها العمال والمهارات التي تتطلبها الشركات قد "ساهمت في ارتفاع معدل البطالة. ومنذ ذلك الحين، أظهرت البحوث أن وجود هذه الفجوة في المهارات له تأثير دوري على البطالة، موضحة ارتفاع معدل البطالة بمقدار الثلث في أعقاب الركود الاقتصادي الكبير.
من الأمور المسلم بها عادة، أن فجوة المهارات هي مشكلة تتعلق بعرض تلك المهارات، وغالباً ما يتركز الاهتمام العام على النقص في مهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) والنقص فيالمهارات الشخصية. لذا تميل الحلول المقترحة إلى إصلاح التعليم وبرامج تدريب العمال. وكان النهج الأكثر رواجاً هو محاولة تخفيض رسوم التعليم بالنسبة لحقول دراسية محددة، وهي عادة اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
على أي حال، أستطيع أن أجادل بعدم صحة هذا الرأي. إذتشير الأبحاث التي أجريتها أنا وزملائي إلى أن السبب في وجود فجوة المهارات يعود بشكل أساسي إلى عدم رغبة أصحاب العمل أو عدم قدرتهم على دفع سعر السوق مقابل المهارات التي يحتاجون إليها.
هناك ثلاثة أسباب ممكنة وراء وجود فجوة المهارات. الأول: هو عدم تكيف العمال مع التغيرات الحاصلة في الطلب باكتساب مهارات جديدة. والثاني: أن أصحاب العمل لا يأخذون المهارات المتوفرة في السوق بعين الاعتبار عند اتخاذ قرارات التعيين. الثالث: هو أن أصحاب العمل لا يضعون في حسبانهم مسألة النقص أو الوفرة النسبية فيما يتعلق بمهارات معينة عند تحديدهم للأجور. وباستخدام بيانات خاصة بالولايات المتحدة تتعلق بإيجاد الوظائف ومعدلات شغل الوظائف والأجور والأرباح، وذلك عبر مختلف الولايات ومختلف القطاعات منذ عام 1979، قمنا بقياس مدى مساهمة كل من الأسباب الثلاثة الآنفة الذكر في تأثيرها على البطالة. وخلُصنا إلى أن مسألة تحديد الأجور كانت السبب الرئيس وراء عدم امتلاك العمال للمهارات التي يتطلع إليها أصحاب العمل.
يمكن للقوة العاملة أن تتكيف مع التغيرات في الطلب الموجود على المهارات من خلال اكتساب مهارات جديدة عبر التدريب أو من خلال استبدال العمال القدامى بآخرين أصغر سناً يملكون مهارات حديثة. على سبيل المثال، كان من الممكن لموظف طباعة عاطل عن العمل ويبحث عن وظيفة في فترة الثمانينيات من القرن الماضي أن يتعلم كيفية استعمال الكمبيوتر، أو أن يملأ شاغر موظف طباعة آخر كان قد انتقل لعمل جديد أو تقاعد.
وكذلك يمكن للشركات أيضاً أن تستجيب للتغيرات في المهارات المتوفرة. فمثلا، في ثمانينيات القرن الماضي استطاعت المؤسسات تدريب الطابعين لديها على استعمال برامج معالجة النصوص أو إتاحة وظائف شاغرة للطابعين الذين يمتلكون مهارات الطباعة الحديثة. وعلى الرغم من أن تعيين عمال أقل مهارة يضر بإنتاجية الشركة، تظهر البيانات أن الشركات استمرت في القيام بذلك للاستفادة من واقع أن توظيف هؤلاء العمال يعد أوفر بكثير.
أنماط تكيف العمالة
تشير بياناتنا إلى أن أنماط التكيف هذه تحدث بالفعل، وأنها تحدث سريعاً بما يكفي لمنع ارتفاع معدل البطالة. ولا تتوافر العديد من المهن التي يسهل العثور عليها وتكون ذات أجر مرتفع في الوقت نفسه، والتي كان من الممكن أن نتوقع وجودها فيما لو كانت القوة العاملة لا تتكيف مع التغيرات المطلوبة ولو كانت الشركات تعاني من أجل العثور على المواهب. وبالمثل، هناك القليل من الوظائف التي يسهل شغلها والتي تحقق أرباحاً كبيرة للشركة.
ومع ذلك، لا تزال فجوة المهارات موجودة، لأن عمليات التكيف التي يقوم بها العمال والشركات على حد سواء لا يمكنها أن تزيل تلك الفجوة إلا إذا كانت الأجور تعكس حالة العرض والطلب في المهارات المطلوبة في مختلف المهن. لكن بياناتنا تظهر أن هذا ليس ما يحدث بالفعل: إذ تميل العديد من الوظائف في القطاعات التي تحقق أرباحاً كبيرة، مثل (تجارة التجزئة والخدمات التعليمية والعمل بالمناجم وبالغابات) أن تقدم أجوراً منخفضة وهي لذلك لا تجذب العمال، في حين أن الوظائف في القطاعات التي تقدم أجوراً مرتفعة، مثل (القطاع المالي وتصنيع الكمبيوتر والإلكترونيات والورق والطباعة) على الرغم من أنها قطاعات لا تحقق أرباحاً عالية.
تخيل لو أن مجموعة محددة من المهارات، لنقل المهارات في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات STEM، تمكّن العمال ليكونوا منتجين على وجه التحديد، لكنهم لا يتلقون أجوراً تعكس إنتاجيتهم العالية هذه. فليس من الغريب إذاً ألا يحاول العمال اكتساب المزيد من هذه المهارات، لأنهم لا يقطفون أي ثمار من زيادة إنتاجيتهم. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، يعمل أقل من نصف المتخرجين من اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في مهن علمية، ولا يوجد أي أجر إضافي يمكن أن يكتسبه الحاصل على درجة في تلك التخصصات إذا عمل في حقل آخر.
من جهة أخرى، تبدي الشركات اهتماماً أكبر في تعيين عمال يمتلكون مهارات في إحدى اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، لأن إنتاجيتهم مرتفعة وأجورهم منخفضة. ولذلك، تعرض الشركات الكثير من فرص الوظائف الشاغرة لمناصب تحتاج أن يشغلها متخصصون في إحدى فروع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، لكنها تجد صعوبة بالغة في شغل تلك الشواغر.
غالباً ما تدعو الشركات إلى تعليم أفضل من أجل سد فجوة المهارات، لكن نتائجنا تشير إلى أن هذا الأمر لن ينجح في الغالب لسبب بسيط: يمتلك الطلاب حرية اختيار المهارات التي يودون اكتسابها في المدرسة وكيف يستثمرون هذه المهارات في سوق العمل. إن تشجيع الجامعات على تعليم المزيد من الفيزيائيين والمهندسين لن يُحدث فرقاً إذا اختار مزيد من خريجي تلك الاختصاصات العمل في البنوك الاستثمارية التي تقدم رواتب أعلى.
لسوء الحظ، لا يقدم بحثنا تفسيراً حول لماذا لا تعكس الأجور الظروفَ النسبية لسوق العمل عبر المهن أو المهارات. ومع ذلك، تشير البيانات بوضوح إلى أن أجور العاملين ذوي المهارات الشحيحة منخفضة جداً مقارنة بأجور العاملين ذوي المهارات الأكثر وفرة. يبدو أن هذا يوفر فرصة مربحة للشركات التي تكون قادرة على إضفاء المرونة في سياسة التعويضات الخاصة بها. من خلال دفع أجور أعلى مقابل بعض المهارات، لن يكون لدى صاحب العمل مشكلة في جذب العمال ذوي تلك المهارات بكمية ونوعية كافية، ما يعطي الشركة ميزة لا يمكن إنكارها أمام منافسيها.