إليكم هذه القصة التي تتحدث عن الخلط بين العمل والحياة الشخصية بشكل دائم. يبلغ هاني من العمر ثلاثة أعوام وهو منهك. وجلّ ما يريده هو أن تحمله والدته التي دندنت بصوتها الحنون: "لا بأس يا حبيبي" بينما كانت تحني ظهرها لحمله، ليتلوّى هاني ويرمي برأسه إلى الخلف ويبدأ بركلها في بطنها. تعلم والدته نبيلة أنه لا يجب عليها أن تأخذ نوبة غضبه هذه على محمل شخصي، على الرغم من أنها قد تفكر بهذه الطريقة في بعض الأحيان. إلا أنها تدرك في الغالب أن التعرض إلى الركلات هو جزء من وظيفة "الأم".
لكن عندما تتعرض نبيلة إلى ركلات كهذه في العمل، فإنها تأخذ هذه الركلات على محمل شخصي، كأن يُنتقد تقريرها في أحد الاجتماعات. ويصعب عليها حينها أن تستذكر الفرق بين "نبيلة" وبين المنصب الذي تشغله بصفتها "كبيرة المحللين". وعندما تأخذ أنت هذه الركلات المهنية على محمل شخصي، فإنك تساوم على قدرتك على الإدراك وفهم الصورة الأكبر. وتفشل في اعتبار هذه الركلات على أنها عرض من أعراض التحدي الديناميكي أو التنظيمي الأكبر.
ويُعتبر دورك التنظيمي الرسمي عاملاً رئيساً مهماً، إذ إنه يؤهلك إلى أداء مهماتك ويساعدك في معرفة كيفية التواصل مع الآخرين ومع المؤسسة. ولكن عندما تدمج ذاتك في منصبك وخبراتك ودوراتك التدريبية وقدراتك ومعارفك وجهودك وعاداتك وشغفك، ستطغى ذاتك الشخصية هذه على حياتك المهنية. وهذا ينطبق بصفة خاصة عندما تكون عضواً فاعلاً ودائم الوجود في العمل. حيث سيكون من السهل عليك نسيان أنك تشغل منصباً في سبيل إنجاز مهمة ما لصالح هدف المؤسسة أو المجموعة. ويصعب عليك التفكير بطريقة موضوعية في التحديات التنظيمية، معتبراً عملك ومنصبك جزءاً من أحجية أكبر. وبدلاً من إلقاء نظرة شاملة على النظام الذي تعمل ضمنه، تضع نفسك في لبّ ما يبدو أنه "مشكلتك" في دراما مكان العمل. وهو ما يؤثر على حكمك على الأمور ويجعلك أكثر عرضة لأخذ الانتقادات والقرارات على محمل شخصي. ويزداد هذا النمط سوءاً عندما تخلط بين منصبك وقيمتك الذاتية، باعتقادك أنك ذو قيمة وأهمية بقدر قيمة وأهمية المنصب الذي تشغله بشكل رسمي.
ومن الأهمية بمكان أن نتعلم التمييز والتفريق بين مناصبنا وبين ذواتنا. إذ إننا نقحم أنفسنا في المشكلات عندما ننسى فصل ذواتنا عن مناصبنا، بدلاً من التفكير بطريقة منفصلة حول نظرة الآخرين لمنصبنا. وقد يكون من المجدي للغاية أن ندمج كل ما تلقيناه من تعليم وتدريب وموهبة وعاطفة في أدوارنا الوظيفية، إلا أننا ننسى أن الموظفين الآخرين في مؤسساتنا يتفاعلون مع الدور الذي نمثله في حياتهم المهنية، وليس بالضرورة أن يكون تفاعلهم مرتبطاً بذواتنا التي نعتقد أنها مثيرة وذات حكم رشيد. وسأشارك هنا بعض الرؤى الثاقبة التي جمعتها خلال تقديم الدورات الدراسية في كلية "هارفارد كينيدي" والتي أساعد الطلاب فيها في فصل ذواتهم عن أدوارهم الوظيفية بغية أن يكونوا قادة أفضل وأن يتمكنوا من إحداث الفوارق التي يرغبون في إحداثها.
إن المنصب الذي تشغله يخص مؤسستك أو شركتك أو مجموعتك أو عائلتك. ولدى أصحاب المناصب الآخرين توقعات حول دورك، وقد تكون هذه التوقعات معقولة، كأن تقوم بأداء مهماتك على نحو جيد، أو غير جيد، كأن تتحدث نيابة عن جميع النساء، أو أن تمثل أقلية، أو تكون الشخص الذي يدوّن محاضر الاجتماعات دائماً. وتُعتبر تلبية التوقعات الرسمية وإدارة التوقعات غير الرسمية أمراً ضرورياً للحفاظ على منصبك. وقد ينطوي دورك أيضاً على توقعات متضاربة من مفوّضين مختلفين لدور معين، مثل مديرك وعملائك، بغض النظر عن المناصب المتعددة التي تشغلها في أي وقت، والتي قد يكون لكل منها مجموعة مختلفة من المفوّضين. وتُعتبر هذه عملية دينامية يجب أن تُدار بفاعلية. ومن المحتمل أن تسيء فهم ديناميات المؤسسة عندما تفقد رؤيتك بشأن مناصبك المختلفة.
كيفية تجنب الخلط بين العمل والحياة الشخصية
شاركت نبيلة- من ضمن مجموعة من الأشخاص الآخرين الذين قدمت إليهم المشورة - حالتين أغفَلت فيهما الفرق بين دورها الوظيفي وبين الهفوات الذاتية التي جعلتها تشعر بالكدمات. وتمثّلت المشكلة في أن نبيلة بالغت في الارتباط بدورها الوظيفي إلى درجة جعلتها تأخذ تفاعلات الآخرين على محمل شخصي للغاية، خاصة عندما واجهتهم مشكلات في التعامل معها.
على سبيل المثال، لقد عملت نبيلة بجد بصفتها محللة على تنظيم بيانات المبيعات المعقدة بطريقة يمكن لزملائها فهمها بسرعة. ولتأدية هذه المهمة بشكل صحيح، لا بدّ من أن يشارك المحللون معلومات غير سارة في بعض الأحيان، بيد أن الزملاء المخيبين للآمال أمر لا مفرّ منه في هذا المنصب. وعندما لا يُعجب زملاء نبيلة بالنتائج التي توصلت إليها، غالباً يُظهرون هذا ويشرعون في التساؤل عن منهجيتها. وغالباً ما أسفرت مقاومتهم هذه عن جعل نبيلة تشعر بالغضب وعدم الأمان.
واحتاجت نبيلة إلى تذكير نفسها أن رفض زملائها لهذه النتائج كان مرتبطاً بدورها الوظيفي ولا علاقة له بسلوكها الشخصي. وعندما واجهت الفرق نتائج سيئة غالباً ما كانت تشعر بالحرج أمام مشرفيها وتنخرط في موقف دفاعي وتلقي باللوم على المحللة وعملها. وغالباً ما انطوت آراء زملائها على ملاحظات على النتائج أكثر من الملاحظات على سلوك نبيلة الشخصي. ولكن كان من الصعب على نبيلة أن تدرك ذلك عندما لم تتمكن من فصل ذاتها عن دورها الوظيفي.
وعندما حصلت نبيلة على ترقية إلى منصب المدير الإداري وأصبح أقرانها مرؤوسيها المباشرين، تغيرت تفاعلاتها الاجتماعية في العمل بشكل كبير. ولم تعد تحصل على دعوة إلى حضور ساعة الفريق المرحة، وأصبح الزملاء الذين اعتادوا أن يكونوا ودودين أكثر حذراً في التعامل معها. وتعتبر هذه الديناميات المتغيرة بمثابة تذكير أن الأفراد يتفاعلون معك من خلال الدور الذي تلعبه في حياتهم فقط. إذ عندما تغير منصب نبيلة، تغير الدور الذي لعبته في حياة زملائها في العمل، وجاهد زملاؤها في سبيل معرفة كيفية التفاعل مع نبيلة، كبيرة المحللين. كما جاهدت نبيلة نفسها لأنها أخذت هذه العلاقات المتغيرة على محمل شخصي، واستاءت من زملائها لتفاعلهم مع دورها الوظيفي في المقام الأول وإعراضهم عن مداومة علاقاتهم الدافئة والصريحة.
لم تدرك نبيلة السبيل إلى أن تكون مديرة وصديقة في الوقت نفسه. وحاولت في البداية تعزيز دورها كصديقة بإصرارها على عدم تغيير شخصيتها. ولكن مع تطويرها تقديراً جديداً لتحديات الإدارة، كان من الصعب عليها أن تقف مكتوفة الأيدي عندما اشتكت فرقها من مدرائهم. وبقدر ما أرادت أن تكون واحدة من أفراد الفريق، كانت العلاقة مختلفة. وكان منصبها كمديرة إدارية يعني أن الفريق يحتاج إلى توجيهها. وشعرت نبيلة مجدداً بالركلات والكدمات المهنية وهي تتصارع مع زملائها حول كيفية التفاعل مع بعضهم البعض.
ولكن بمجرد تبني نبيلة مسؤوليات المنصب وديناميات السلطة الحتمية المقترنة، كانت قادرة من خلال الكثير من التأمل الذاتي على رسم الخط الفاصل بين هذا المنصب وذاتها. وسمح لها هذا الارتباط الأقل مع منصبها في تأدية دورها على نحو أكثر كمالاً وسعادة. وكانت قادرة على تحقيق مستوى من القدرة على التحمل التي مكّنتها من تأدية عملها على نحو جيد مع الحفاظ على روح تقدير الذات من أجل تجنب الخلط بين العمل والحياة الشخصية دائماً.
اقرأ أيضاً: