هل يا تُرى يمكن للإنسان بفطرته السليمة وحدها أن يهتدي إلى الحقيقة؟ وأن يكتشف بعقله الطريق الصحيح، ويصل إلى الحكمة دون الحاجة إلى الفلاسفة والمنظّرين؟
هذا ما حاول إثباته ابن طفيل قبل أكثر من ثمانية قرون في حكاية حي بن يقظان، كما طَرق هذه القصة الشائقة غيره العديد من المفكرين مثل ابن سينا وابن النفيس، وتأثر بها كثيرون آخرون مثل جون لوك، وجان جاك روسو، ودانييل ديفو وغيرهم.
دغدغت هذه القصة فكري الإداري لفترة من الزمن، وألح عليّ سؤال لم أجد له في معاقل الإدارة جواباً: هل كان حي بن يقظان لينجح لو وضعناه مديراً، وتركناه يتعلم بفطرته، ويكتشف بإعمال عقله فقط؟
تبنّت حي بن يقظان ظبية تعيش في إحدى الجزر المنعزلة البعيدة عن البشر، لا نعرف كيف وصل طفلاً إلى تلك الجزيرة، ربما وضِع عند ولادته في صندوق خشبي ورُمي في البحر أو غير ذلك من السبل، المهم أنه بعد سنوات من رعاية الظبية له تطبّع بطباعها، وسلك سلوك الحيوانات التي اعتاد على التواصل معها في تلك الجزيرة، فاستطاع أن ينجو بنفسه. هل على حي بن يقظان الذي لا يحمل الخبرة ولا المعرفة الإدارية أن يتطبع بالطباع المهنية لغالبية الموظفين الذين يتواصل معهم داخل المؤسسة حتى ينجح؟ أميل إلى الإجابة بنعم عن هذا السؤال، لأن السلوك المشترك بين الموظفين وتشابه طرق تفكيرهم وتصرفاتهم هما أحد تعريفات الثقافة المؤسسية، ونحن نعرف أن الثقافة السائدة في المؤسسة قوية طاغية بحاجة إلى الكثير من الوعي والسلطة حتى يتم تغييرها، وهذا يحدث تدريجاً بعيداً عن طريقة الصدمة، وغالباً ما يكون النظام الإداري أقوى من الشخص، ولعل ابن طفيل كان محقاً عندما طرق هذا الباب في مستهل قصته.
مع مرور السنوات، هرمت الظبية الأم ووهنت، فما كان من حي بن يقظان إلّا أن حملها على ظهره إلى أماكن الثمار الناضجة والعشب النضر، لتأكل وتشرب وتبقى بقربه يحميها ويعتني بها إلى أن همد جسمها، وتوقفت أنفاسها. كيف كان لحي بن يقظان أن يتصرف مع الموظفين الذين تقدموا في العمر، وتقدموا كذلك في الخبرة والنضج والحكمة. هل يحيلهم إلى التقاعد بما تتيحه القوانين والأنظمة؟ أم يُبقي عليهم ويستفيد من خبراتهم كما تتيحه أيضاً القوانين والأنظمة؟ ما تزال الغالبية العظمى من المؤسسات تتبع أنظمة التقاعد التي أقرت منذ أكثر من 150 عاماً عندما قدّم رئيس وزراء بروسيا، بيسمارك، فكرة تقديم دعم مالي حكومي للأشخاص المسنين، بعدها أنشأت ألمانيا نظاماً لتقاعد المواطنين الذين تجاوزوا 70 عاماً، وأقرت الولايات المتحدة قانون الضمان الاجتماعي في عام 1935 وحددت سن التقاعد الرسمي عند 65 عاماً. ونظرة فاحصة إلى الواقع اليوم، تكشف أن الأحوال قد تبدلت، ولكن الممارسات الإدارية لم تتبدل، إذ طغى الروتين على الغاية، وأصبحت ممارسات التقاعد جعباً يقفز إليها الصالح مع الطالح، لربما اعتمد حي بن يقظان على فطرته السليمة وانعزاله عن المؤثرات، لاستخدام أدوات أخرى غير منجل السن في حصاد التقاعد، فالرغبة والقدرة على العطاء والكفاءة تفتح أبواباً كثيرة لابتكار أنظمة تقاعد مرنة، تستوعب من يريد القفز مبكراً، كما أنها تبقي على من يريد متابعة الرحلة حتى النهاية.
بعد موت الظبية، أخذ هذا الصبي يفكر في أسباب تحول جسمها الذي كان يضج بالطاقة والحرارة إلى كتلة من العظم واللحم. فراح يبحث عن العضو المسؤول عن تشغيل هذا الجسم وإبقائه حياً، وقصد منطقة الصدر وهي المنطقة التي كان يستهدفها عند اصطياد الحيوانات ومقاتلتها، وبحث في الأعضاء الداخلية إلى أن اكتشف القلب ببنيته الجميلة القوية وموقعه المحمي. ولكن بعد أن رآه ساكناً، عرف بوجود شيء آخر كان يحرك هذا الجسم، وقد غادر جسم الظبية الأم، فاهتدى إلى الروح. هل يا ترى تمتلك المؤسسات روحاً؟ ما الذي يفرّق المؤسسات القادرة على تحمل الصدمات عن تلك التي تنهار عند أول عثرة؟ هل هي الروح المؤسسية التي يمكن بوجودها أن تنهض المؤسسة من تحت الرماد، وتصبح غير قابلة للكسر؟ كم نحن بحاجة إلى حي بن يقظان ليفرّق بين قلب المؤسسة وروحها، القلب الذي هو في الظاهر سبب الموت، ولكن عند البحث عن الجذر من الأسباب نرى أن قلب المؤسسة يتوقف كنتيجة، وإذا ما قدرنا أن نلامس الروح المؤسسية، يمكن أن نجعل هذا القلب يبدأ بالنبض مرة أخرى. نقترب من روح المؤسسة كلما حرصنا على التنويع، تنويع مصادر الدخل في المؤسسات الخاصة، وتنويع الطرق المبتكرة في تقديم الخدمات في المؤسسات الحكومية، والتنويع في الكفاءات التي يمكن أن تسير بالمركب التنظيمي إلى بر الأمان، كذلك تنويع العلاقات وتعزيزها بشكل شعاعي مع الجمهور والمتعاملين، والشركاء، والموردين، وغيرهم. ونضيف تطوير آليات للاستجابة السريعة للمتغيرات والتحديات.
ولمّا أكمل حي بن يقظان عقده الثاني، بدأ يتلفت إلى الحيوانات والنباتات والجمادات، فيراقبها من كثب، ويدرس أجزاءها وخصائصها، فاكتشف أنها تتشابه في أمور كثيرة فجميع الحيوانات والنباتات تتغذى وتشرب وتنمو وتموت، كما أنها تشترك مع الجمادات بأن لها أبعاداً من طول وعرض وعمق، وأن لها جميعاً خالقاً واحداً يختلف عنها ولا يشابهها، كما أنها تختلف في احتياجاتها بالنوع والقدر. على الرغم من كل ما نمتلكه من خبرات وتجارب ودراسات وأبحاث، ألا يحق لنا أن نتساءل عن سبب وجود قصور في تخطيط الموارد في بعض المؤسسات وتوزيعها، وتفاوت الكفاءة بين مؤسسة وأخرى، وعن أسباب تعامل بعض المؤسسات مع الموظفين على أنهم أرقام، وأنهم جمادات كأسنان المشط لهم الاحتياجات نفسها والطلبات نفسها وبالتالي السلالم والدرجات نفسها. مجرد رغبة حي بن يقظان في المعرفة أوصلته إلى عمق الحقيقة، وربما لو وضعناه مديراً لتوصل إلى أن المساواة ليست عدالة والعدالة ليست مساواة.
لم تشأ الأحداث أن يبقى حي بن يقظان وحيداً على جزيرته البعيدة، بل أتت بأبسال، ذلك الشاب الزاهد المتنوّر، فقد عرف عن تلك الجزيرة المهجورة، وأقنع قارباً بأن يحمله في طريقه وينزله فيها ليعتكف بنفسه. وهناك التقى مصادفة بحي بن يقظان فأنس إليه، وعلّمه ما لديه من المعارف والخبرات، وذهبا معاً إلى أرض أبسال ليهديا سكانها ويعلمانهم مما يعرفانه، ولكنهما رأيا منهم ما لا يحبّانه فيأسا، وعادا إلى جزيرتهما النائية ليعيشا ما تبقى لهما. يضع هذا أمام المدير حي بن يقظان أكثر من سؤال: هل على المدير أن يتعلم؟ وكيف يتعلم ومتى وممّن يتعلم؟ البداهة تقول إن على المدير أن يتعلم كما فعل بطل قصتنا، ولكن عليه أن يتعلم من أفضل المصادر، حي بن يقظان لم يكن أمامه سوى أبسال ليتعلم منه، ولكن مدير اليوم لديه سيل من مصادر التعلم. تفضي أحد المقالات المنشورة في كلية هارفارد للأعمال بوجود سبعة مشارب على المدير أن ينهل منها، وهي تتوزع ما بين تعّلم مهارات اتخاذ القرار، الوعي الذاتي والذكاء العاطفي، بناء الثقة مع الآخرين في بيئة العمل، تحسين مهارات التواصل، تقديم التغذية الراجعة بشكل مستمر وغير رسمي، تحديد وقت للتفكر دون مشتتات، التعلم المستمر ومتابعة ما هو جديد في مجال عمله.
كذلك تستجلب عودة حي بن يقظان إلى جزيرته وهجره لمن أراد تعليمهم سؤالاً مهماً: متى يكون المدير ناجحاً ومتى يكون فاشلاً؟ عادةً ما نحتكم إلى النتائج، فإذا رأينا النتائج مبشّرة نقول إن هذا المدير ناجح، وإذا ما انتكست النتائج نقول عنه بأنه فاشل. ولكني أرى ما بين هذا النجاح وذاك الفشل الكثير من التشعّبات، فمثلاً، هل يجب أن نعتبر المدير المتنحي أو المستقيل فاشلاً؟ في العديد من الحالات من الجائر أن نفعل ذلك، ماذا إذا وجِد المدير في بيئة استحكم فيها الفساد والمحسوبيات، أو في مؤسسة لا توفر الصلاحيات أو الدعم اللازمين لأداء العمل. مهما امتلك المدير من مهارة وفطنة هنا، فسيصطدم بحائط قاسٍ أو يقع في مستنقع عصي.
سواءٌ حدثت مغامرة حي بن يقظان في الواقع أو في مخيلة الأجيال السابقة، يبقى فيها من الإلهام ما يبقى. وما الذي نحتاج إليه نحن معشر الإداريين غير بُرعمٍ من الإلهام، يمسّه نور من العزيمة، فينفتح إنجازاً وتميزاً.