خلال العقد الماضي، أظهر عدد مذهل من الدراسات المعنية بحاجة المدير إلى الإجازة، أن أداءنا في العمل ينخفض انخفاضاً حادّاً عندما نعمل لفترات مديدة دون أخذ استراحة. ونحن نعلم بأن الموظفين الذين يجهدون أنفسهم بالعمل الطويل عرضة إلى تقلبات في المزاج، وإمكانية اتخاذ القرارات بطريقة منفعلة، وضعف التركيز. وهم أكثر ميلاً إلى إظهار غضبهم الكبير وحنقهم إذا لاحظوا وجود أي إهمال أو عدم إتقان في العمل، ويجدون صعوبة في التعاطف مع زملائهم. لا بل الأسوأ من كل ذلك، هو أنهم عرضة للسلبية – وهذه السلبية هي شعور يصيب الآخرين بالعدوى.
ومع ذلك إذا أخذنا أي شركة أميركية عادية، فإن 4 من بين كل 10 موظفين (بما في ذلك من يتولّون المناصب الإدارية) سيتنازلون عن إجازتهم السنوية لهذا العام.
الآثار السلبية للاستنزاف الذهني والجسدي
ثمة أسباب كثيرة تدعو للاعتقاد بأن تكلفة الاستنزاف الذهني والجسدي الذي ينجم عن ذلك دائماً تكون أكبر بكثير عندما تكون الضحية هي أحد المدراء. ليس فقط لأن مزاج المشرف وطريقة اتخاذه للقرارات تؤثران على عدد أكبر من الناس، وإنما لأنه عندما يختار المدير الاستمرار بالعمل دون أخذ إجازة، فإن ذلك يؤدي إلى تأثير الدومينو الذي يحدد شكل المعايير الثقافية للمؤسسة.
أعكف حالياً على تأليف كتاب جديد حول العلوم الخاصة ببناء مكان عمل عظيم. وقد استنتجت فيه بأن الثقافة السائدة في المؤسسة لا علاقة لها كثيراً برسالة الشركة ورؤيتها. وإنما ما يحددها هو سلوكيات الأشخاص الذين يتربعون على عرشها. فنحن البشر، مررنا بمرحلة من الارتقاء بتنا معها نقلد من هم حولنا، ولا سيما من يشغلون مراتب أعلى. وغالباً ما يقلد أعضاء المجموعة الذين يشغلون مراتب دنيا سلوكيات الأشخاص الذين يحتلّون المواقع القيادية، لأن ذلك يساعدهم في التماهي مع الأفراد الذين يشغلون مراكز أكثر نفوذاً في المجموعة. ويعلم أفضل المدراء بأن وجودهم في موقع القادة يجعل أفعالهم تؤثر في سلوكيات جميع من يحيطون بهم.
اقرأ أيضاً: إرسال بريد إلكتروني أثناء إجازتك: طريقة سريعة لتقويض ثقافة الشركة
لقد باتت لدينا أدلة مقنعة جداً بأن النقاهة التي نقضيها خلال فترات الإجازات تعيد لنا انتباهنا الحاد، وصفاءنا الذهني، وتشكّل مصدر إلهام لنا. ولنأخذ، مثلاً، زمن الاستجابة – وهو مقياس بسيط يشير إلى سرعة التقاطنا للمعلومات الجديدة. فالأبحاث التي أجرتها وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" توصلت إلى أنه بعد بضعة أيام فقط من الإجازة، يقفز زمن الاستجابة لدى الناس بنسبة مذهلة تبلغ 80%. وعندما يتنازل المدراء عن فترة الإجازة، فإن ذلك لا يضعهم فقط على طريق يقودهم حتماً إلى الإنهاك الكامل، وإنما يولّد أيضاً ضغوطاً صامتة على جميع أعضاء فريقهم ليفعلوا الشيء ذاته. كما أن تجاهل حاجة الجسد إلى الراحة لا يعتبر استراتيجية سيئة على المدى البعيد فقط. وإنما هذا الأمر يأتي مع "تكلفة فرصة" باهظة أيضاً.
لقد أثبتت الدراسات حول الإبداع، أن قضاء الوقت في الهواء الطلق والسفر إلى دولة أجنبية – وهما نشاطان غالباً ما يقوم بهما الناس عندما يأخذون إجازة – هما من بين أكثر الطرق فعالية للتوصل إلى آراء جديدة وحلول خلاقة. وإذا ما حاولنا التعبير عن الأمر بكلمات بسيطة نقول، أنت تميل إلى ابتكار فكرة تشكّل خرقاً كبيراً عندما تكون مستلقياً على الشاطئ في سان مارتان أكثر مما لو كنت تطبع على لوحة مفاتيح كمبيوترك داخل مكتبك الصغير.
فوائد الإجازات والعطل
ليست الإجازات والعطل مجرد محرك إيجابي يدعم طريقة تفكيرنا، وإنما هي تعزز رضانا عن الحياة عموماً. وكانت مؤسسة "غالوب" قد أصدرت العام الماضي، نتائج دراسة مثيرة للانتباه، أظهرت بأن عدد المرات التي يأخذ الإنسان فيها إجازة يعتبر مؤشراً أفضل على رفاهيته من حجم المال الذي يكسبه. وبحسب بيانات الدراسة هذه، فإن شخصاً يأخذ إجازات منتظمة ويكسب 24 ألف دولار سنوياً هو عموماً شخص أسعد من ذاك الذي لا يأخذ إجازات كثيرة ويكسب 5 أضعاف ذلك المبلغ.
وهذا التحسن الكبير في حالة الرفاهية لا يقتصر تأثيره على أمزجة الناس فحسب. وإنما يترك نفوذه أيضاً على الطريقة التي ينظرون بها إلى وظائفهم. وفقاً لاستطلاع "نيلسون"، أكثر من 70% من الناس الذين يأخذون إجازات دورية راضون عن وظائفهم. ولكن ماذا عن الذين لا يأخذون إجازات؟ بالكاد 46% منهم راضون عن هذه الوظائف.
اقرأ أيضاً: كيف تقلّل التوتر قبل الإجازة وفي أثنائها وبعدها؟
فلماذا تترك العطل والإجازات هذا التأثير القوي علينا؟ يعود هذا الأمر جزئياً إلى أن الإجازات تسمح لنا بالخروج من حالة التوتر الناجمة عن العمل وتمكننا من استعادة طاقتنا الذهنية والجسدية التي هدرناها سابقاً. لكن علماء النفس يعتقدون بأن الأمر لا يقتصر على مجرد التعافي. فالإجازات تمنحنا الفرصة لعيش تجارب مستقلة وتعطينا وقتاً نقضيه مع أحبابنا وأصدقائنا المقربين دون أن يعكر صفوه أي شيء. كما أنها تمكننا من تعزيز كفاءتنا في الهوايات التي نستمتع بها. بعبارة أخرى، الإجازة الجيدة تعطينا ما نحتاج إليه في عملنا ألا وهو تجارب مفعمة بالطاقة تلبي احتياجاتنا النفسية الإنسانية الأساسية.
وفي ضوء كل هذه المكاسب التي تقدمها لنا الإجازات والعطل، ربما يكون الوقت قد حان لننظر إلى التعامل مع أيام الإجازات غير المستعملة بوصفها هي الأخرى مقياساً مهماً – أي مقياس يمثل عكس ما ترمز إليه ثقافة مكان العمل الصحية؛ وتحديداً بوصفها مؤشراً على أن الشركة تعاني من سوء في إدارة طاقتها.
وبالتالي، فإن السؤال المطروح هنا هو كيف نقلب مسار هذا التوجّه القائم على عدم الاستفادة من أيام الإجازات؟ وكيف نجعل المزيد من الناس يشعرون بإحساس إيجابي تجاه أخذ الإجازة، ولا سيما عندما يكون واضحاً بأن شركتهم تستفيد من أخذهم لهذه الاستراحة؟ إن تشجيع المدراء على تقديم مثال يحتذى في السلوكيات الصحيحة وتثقيف الموظفين حول أهمية الوقت الذي يقضيه المرء خلال الإجازة يعد بداية جيدة، لكن ذلك على الأغلب لن يكون كافياً بحد ذاته – وتحديداً في وقت عوّدت فيه المعاناة الاقتصادية العديد من العمال على تحاشي الظهور بمظهر الموظفين الذين يمكن الاستغناء عنهم، حتى وإن كانت الإجازة التي يأخذونها هي لبضعة أيام فقط.
بالنسبة للجادين فعلياً في دفع الموظفين نحو أخذ الإجازات، هناك مقاربة تعطي ثماراً أفضل وهي تشمل تقديم حافز نقدي كمكافأة للأشخاص الذين يذهبون في عطلة. وهذا تكتيك بات وبشكل متدرّج يكتسب زخماً بين عدد متنامٍ من الشركات. فمؤسسة راند، على سبيل المثال، لم تعد تدفع للموظفين رواتبهم المعتادة أثناء وجودهم في إجازتهم. عوضاً عن ذلك، يدفع للموظف أجره مضافاً إليه نصف أجر إضافي. كما أن رابطة وكالات السفر الأميركية أنشأت نوعاً من اليانصيب الداخلي بقيمة 500 دولار. ولكي يكون الموظفون مؤهلين للحصول على الجائزة، يتعيّن عليهم فعل شيء واحد: استخدام كل أيام الإجازات المستحقة لهم من العام السابق.
ثم هناك النموذج المميز جداً للسياسات التي تؤيّد أخذ الإجازات، والتي تتبعها "فول كونتاكت"، وهي شركة برمجيات تعمل انطلاقاً من دينفر والتي طبقت برنامجاً يدفع للموظفين 7,500 دولار ليأخذوا أفراد عائلتهم في عطلة. لكن الشرط الوحيد لذلك هو ألا يؤدّوا أي عمل خلال فترة العطلة هذه. فإذا كنت في رحلة برعاية شركة "فول كونتاكت" وضبطت متلبساً بفتح رسالة عمل إلكترونية واحدة فقط، فإنك ملزم بإعادة كل دولار أعطي لك. (ونتيجة لذلك، فإن أعداد طالبي العمل في ازدياد، بينما انخفض التقلب في الموظفين).
ما يجعل هذه السياسات بارزة وظاهرة ليس سخاؤها وكرمها، وإنما لأنها تشكل دليلاً واضحاً على حاجة المدير للإجازة، وأن الشركة جادة في تشجيع الموظفين على استعادة طاقتهم الذهنية بحيث يكون بوسعهم الاستمرار في تقديم أداء متميز.
نحن نعيش في عصر لم تعد فيه الإجازات والعطل من أجل الاسترخاء واستعادة الطاقة المهدورة في العمل ترفاً. بل هي شرط أساسي لتفاعلنا وأدائنا وإبداعنا.
اقرأ أيضاً: كيف تتجنب الإجهاد الذي يسبق الإجازة؟