ومع ذلك، لا تعطي المؤسسات اليوم الأولوية لدرجة رتابة المدراء عند اختيارهم، بل يبحثون عن الأفراد الذين يتمتعون بالكاريزما ويظهرون سمات البصيرة والثقة والجرأة بغض النظر عما إذا كانت هذه السمات تنمّ عن كفاءة فعلية أم لا. المثير للدهشة أنه على الرغم من الكم الهائل من المعرفة التي تتضمن أدلة علمية مستقلة حول الصفات التي يجب أن يتمتع بها المدير الفعال، تُرقي المؤسسات عدداً كبيراً من الأفراد إلى مناصب إدارية معتمدة على خبراتهم الفنية السابقة أو أدائهم الفردي، وبالتالي ينتهي بهم الحال بالنتيجة بالانتقال من العمالة الماهرة إلى الإدارة غير الماهرة، أو بعبارة أخرى، من موظفين ذوي خبرة إلى مدراء يفتقرون إلى المعرفة والمهارة.

يمكن تخفيف حدّة هذه المشكلة إذا كنا قادرين على تقييم الإمكانات الإدارية بفعالية أكبر. لا تتعلق العوائق التي تحول دون تحقيق ذلك بتوافر الأدوات المناسبة لتقييم المواهب الإدارية بقدر ما تتعلق بعدم قدرتنا على فهم ما يجب أن نبحث عنه، فحتى لو امتلكنا أفضل الأدوات لتقييم الإمكانات الإدارية، فلن تكون فعالة إذا لم نقس ما يجب قياسه، وبالتالي لن تُحل المشكلة.

إذاً، كيف يمكننا تحديد المدير الممل والفعال جداً؟

أولاً، اسمحوا لي أن أشرح بمزيد من التفصيل ما أعنيه بـ “ممل”. في علم النفس، المصطلح التقني للملل الذي لا ينطوي على قدر من الارتباطات السلبية أو الإيجابية في المجتمع هو النضج العاطفي، وهو في الأساس وظيفة تعبّر عن الاستقرار العاطفي والقبول والحرص. مثلما هو متوقع، نصبح جميعنا ناضجين، أو “مملين” مثلما يحلو للبعض القول، أكثر مع تقدمنا في العمر. في أي ثقافة، تزداد درجة تقلّب الإنسان ومعاداته للمجتمع خلال فترة المراهقة، ثم يزداد اتباعه للقواعد والتزامه بها مع تقدمه في السن. في حين أن هذا التحول قد يحمل دلالة سلبية في العديد من المجتمعات الغربية التي تقدّر صراحة الإبداع والزعزعة والفردية، فهو ميزة ومورد مهم بالنسبة للمهارات الإدارية.

وفقاً لتحليل تيم جادج الشامل والمقنع للدراسات العلمية المستقلة حول الكفاءة الإدارية، يتمتع المدراء الفعالون بصفات معينة مثل القدرة على بناء العلاقات الاجتماعية وإبداء الود والمرونة والحذر. وهذه الصفات تتناقض في الواقع مع الصفات التي يتمتع بها أصحاب المليارات العصاميون المشهورون وأباطرة الأعمال الأثرياء الذين نعدّهم أمثلة على القادة العظماء. تخيّل أنك تعمل تحت إدارة ستيف جوبز أو جيف بيزوس أو ديفيد روكفلر مباشرة؛ قد يبدو الأمر رائعاً، لكن الأبحاث تشير إلى أن معظم الناس يسعدون بالعمل مع أشخاص يجسدون الصفات المعاكسة تماماً. أشار مايكل ماكوبي في مقال مؤثّر نُشر في هارفارد بزنس ريفيو إلى أن لدى القادة رواد الأعمال هؤلاء أوجه قصور تتمثل في ضعف مهارات الاستماع الفعال وحساسيتهم للنقد وإظهار مستويات منخفضة من الذكاء العاطفي. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأشخاص الذين يتمتعون بصفات مثل القسوة ونفاد الصبر والسلوك المتطلب وسرعة الانفعال، مثل جوبز وبيزوس، عادة ما يفتقرون إلى العبقرية اللازمة للإفلات من عواقب سلوكهم، لذلك من المرجح أن يواجهوا الإخفاقات والفشل لا أن يبتكروا شركات بمستوى آبل وأمازون.

ثانياً، عندما تنتقل من مسهم فردي إلى مدير، يتحول تركيزك من حل المشكلات الفنية إلى حل المشكلات المتعلقة بالأشخاص، ولتحقيق ذلك، يجب أن تكون قادراً على تفويض المهام بصورة فعالة كي تتفرغ للتركيز على أعضاء فريقك، ما يجعل العمل العاطفي ميزة أساسية يجب أن يتمتع بها المدراء. على غرار قدرة أصحاب الأداء المتميز على التواصل عاطفياً مع العملاء في قطاع الخدمات، يجب أن تكون قادراً على التواصل عاطفياً مع مرؤوسيك بصفتك مديراً. أنت تعمل على إدارة عواطفك الخاصة عندما تكون موظفاً، بينما ستعمل أيضاً على إدارة مشاعر الآخرين عندما تكون المدير، ويعتمد ذلك على وجود تفاعلات جيدة مع فريقك، ولا يمكن تحقيقها إلا إذا حافظت على هدوئك ورباطة جأشك وكنت قادراً على إظهار المشاعر الاستراتيجية -التي تنطوي على قدر لا بأس به من التصنع- وإدراك أن الأمر لا يتعلق بك حقاً.

مجدداً، ثمة اختلاف كبير في تصورنا عن القادة الكلاسيكيين الكاريزماتيين أو الذين يتمتعون بصفات فريدة وديناميكية. يعني التحلي بالذكاء العاطفي أن تكون قادراً على إدارة عواطفك بفعالية وتجنب إظهار ردود الفعل غير اللفظية دون قصد؛ وينطوي على إبداء الثبات والاتزان في المواقف الصعبة. أظهرت الدراسات النفسية أن القادة ذوي الفعالية الأعلى يتمتعون بتوازن شخصي وثقة راسخة بالنفس ويركزون في تفاعلاتهم على الآخرين ويهتمون بهم ويخلقون البيئات الآمنة والداعمة التي تشجع على الإبداع والإنتاجية.

ثالثاً، يقدّر الموظفون نزاهة المدير كثيراً، إذ من الأفضل فهمها على أنها صفة ينسبها الآخرون إلى الشخص ولا يقيّمها بنفسه. النهج الأفضل للتنبؤ بسلوكيات العمل التي تؤدي إلى نتائج عكسية أو غير أخلاقية هو الطلب من المرؤوسين الإبلاغ بوضوح عن احتمال استغلال مدرائهم لهم من خلال سلوكيات سلبية أو غير أخلاقية. ومرة أخرى، يتفوق المدراء المملون؛ كلما أظهر المدراء ميلاً أقل للتصرفات المختلة والجوانب السلبية من شخصياتهم، وكانوا أكثر قابلية للتنبؤ وللثقة و”مملين”، ارتفع تصنيفهم من حيث أساس النزاهة وازداد سلوكهم الأخلاقي. تعيد هذه القضية إلى الأذهان العديد من دراسات الحالة الشهيرة للقادة الذين يتسمون بالذكاء الواضح من منظور الخبرة أو الكفاءة، لكنهم يظهرون أوجه قصور أخلاقية كبيرة، مثل سيب بلاتر وبيرني مادوف وبابلو إسكوبار.

باختصار، حان الوقت لكي تفهم المؤسسات أن أفضل مدرائها المحتملين ليسوا موظفيها المتميزين أو البارزين؛ وليسوا الأشخاص الذين يحاولون دائماً الترويج لأنفسهم وينسبون الفضل لها في إنجازات الآخرين، أو الذين أتقنوا فن السياسة والقدرة على الارتقاء في التسلسل الهرمي التنظيمي. قد يفتقر المدراء المحتملون إلى الكاريزما وقد لا تكون لديهم رؤية كبيرة للمستقبل، ومع ذلك فهم على الأرجح أفضل الموظفين الذين يمكنهم مساعدة الشركة في تحقيق رؤيتها والحفاظ على اندماج الموظفين وإنتاجيتهم.