بالنسبة للمدن الكبرى، يُعد السعي نحو تحديد وتطبيق خريطة طريق مستدامة، وإحداث تحولات إيجابية في المشهد الحضري، والارتقاء بجودة ونوعية حياة الناس أولويات رئيسة. وتتمتع التقنيات الناشئة بإمكانيات تجعلها مهيأة للعب دور مؤثر في تحقيق تطلعات المدن وسكانها. وقد شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية حرص المدن الكبرى على تسخير قوة وإمكانيات تقنية إنترنت الأشياء للمضي قدماً في تعزيز خططها وطموحاتها. فما هي العلاقة بين المدن الذكية وتقنية إنترنت الأشياء؟
شهدت الحقبة الأخيرة زيادة متسارعة في تطوير المدن الذكية في منطقة الشرق الأوسط، مدفوعة بطموحاتها في أن تصبح رائدة عالمياً في هذا المجال. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تم بالفعل تطوير العديد من المدن الذكية، بما في ذلك مدينة "مصدر" و"المدينة المستدامة". وفي المملكة العربية السعودية، تم الإعلان مؤخراً عن خطط لمدينة ذكية جديدة تسمى "ذا لاين"، وهي جزء من مشروع "نيوم" الذي تبلغ تكلفته 500 مليار دولار، والذي أُعلن عنه كجزء من رؤية المملكة 2030 لتدشين حقبة اقتصادية جديدة.
ومع ذلك، فإن تطوير المدينة الذكية لا يخلو من التحديات المتعلقة بتقنية إنترنت الأشياء. ففي الوقت الحاضر، يعاني المشهد العام للموردين من التفكك، فالمنتجات ذات الصلة مقيدة بمعايير مختلفة، وتواجه حلول إنترنت الأشياء صعوبات تحول دون تكاملها أو عملها معاً - ما يعوق تبادل البيانات وفرص الاستفادة من الفوائد المحتملة.
وتعد إمكانية التشغيل البيني أمراً ضرورياً للتبادل السلس للمعلومات، وبالتالي تسهيل عملية جني مزايا وفوائد إنترنت الأشياء. ومن المتوقع أن يصل عدد الأجهزة المتصلة بإنترنت الأشياء في جميع أنحاء العالم إلى ما يقرب من 125 مليار جهاز في عام 2030 مقارنة بـ 11 مليار جهاز في عام 2019 - ما يوضح مدى الحاجة إلى إطلاق الفوائد الكاملة لحلول إنترنت الأشياء.
وفي كثير من الحالات، تعتمد المدن على الموردين الذين يملكون حلولاً شاملة تلبي احتياجات محددة ولكنها غير متوافقة مع أنظمة إنترنت الأشياء الأخرى. ونتيجة لذلك، فإن هذا يفرض بشكل عام على مطوري المدن الذكية العمل مع مجموعة أصغر ومحددة من الموردين، الأمر الذي لا يسمح بإمكانية الانتقال إلى حلول أفضل من حيث الفعالية والتكلفة. وعلى هذا النحو، يجب على المدن أن تتخذ زمام المبادرة وتعمل على حل مشكلة التشغيل البيني، وهو أمر يمكن القيام به من خلال طريقتين، الأولى وجود مجموعة موحدة من المعايير، والثانية تطوير منصة تعمل عبر مختلف القطاعات.
اقرأ أيضا: مفهوم التحول الرقمي.
مجموعة موحدة من المعايير
يدرس العديد من البلدان والمدن إمكانية استخدام معايير مشتركة لتحقيق قدر أكبر من التشغيل البيني بين أجهزة إنترنت الأشياء. ويمكن أن يحل هذا النهج مشكلتين تقليديتين رئيسيتين أعاقتا جهود المدن في الماضي:
- تحتوي أجهزة إنترنت الأشياء على العديد من المكونات التي تم تطويرها قبل وجود الإنترنت والتي تستخدم معايير غير متوافقة. ومع نمو وازدياد التقنيات المتصلة، بات واضحاً للغاية المستوى الضعيف من قابلية التشغيل البيني لهذه المعايير.
- وبمرور الوقت، أنتجت مؤسسات مختلفة واتحادات صناعية متخصصة بتطوير المعايير مجموعة معايير لتلبية احتياجاتها الخاصة. وقد أدى ذلك إلى انتشار معايير متنوعة، بعضها أكثر تقدماً من الآخر. وقد فشلت مبادرات توحيد هذه المعايير إلى حد كبير بسبب الخلافات بين المؤسسات والشركات.
ولهذه الأسباب، من غير المحتمل أن يتم تطوير مجموعة مشتركة من معايير الصناعة العالمية على المدى القصير إلى المتوسط من دون وجود تنسيق للجهود. وإذا تمكنت حكومات المدن والهيئات التنظيمية من إيجاد توافق في الآراء بين الجهات الفاعلة في القطاع الخاص، فقد تكون قادرة على تطوير مجموعة من المعايير لتسريع مبادرات المدن الذكية، وتذليل العقبات التي تحول دون دخول مقدمي الخدمات البديلة إلى السوق وتعزيز مستويات الابتكار.
ومن الناحية النظرية، إذا طبقت مدينة ما معايير موحدة عبر جميع أجهزتها المتصلة بإنترنت الأشياء، فيمكنها تحقيق إمكانية التشغيل البيني بشكل كامل. ومع ذلك، نعتقد أن المدن والهيئات التنظيمية يجب أن تركز على تحديد معايير الاتصال المشتركة لدعم قابلية التشغيل البيني التقني.
والسبب هو أنه على الرغم من وجود إصدارات مختلفة، إلا أن معايير الاتصالات تكون ناضجة بشكل عام، وتستخدم على نطاق واسع من قبل مشغلي إنترنت الأشياء. وعلى النقيض من ذلك، فإن المعايير التي تنطبق على تنسيقات الرسائل والبيانات - والمطلوبة لإمكانية التشغيل البيني البنيوي - أقل نضجاً، بينما تظل المعايير الدلالية في المراحل الأولى من التطوير وهي غير مترابطة للغاية.
مؤخراً، بدأت بعض معايير تنسيق الرسائل والبيانات تحظى بقبول واسع، ولا ينبغي أن يمر وقت طويل قبل أن يتمكن صانعو السياسات من تبني المعايير الرائدة بحكمة. ومع وضع هذا السيناريو في الاعتبار، يجب على المخططين تجاهل المعايير الدلالية إلى حين ظهور خيارات أفضل بشكل واضح.
مزايا المنصة المتوافقة عبر القطاعات
يمكن أن يؤدي تطوير منصة تعمل عبر حالات الاستخدام المختلفة إلى تحسين إمكانية التشغيل البيني، حيث تعمل هذه المنصة بشكل فعال كحلقة تنسيق لترجمة التفاعلات بين الأجهزة حتى تتمكن من مشاركة البيانات والعمل.
وفي سياق المدينة، توفر المنصة المتوافقة عبر القطاعات مزايا كثيرة فيما يتعلق بتوحيد المعايير، وعلى اعتبار أنها تعمل كواجهة مشتركة بين حلول إنترنت الأشياء، يمكن للأجهزة الاستمرار في استخدام معاييرها الحالية. ولأن المنصة، وليس المعايير المشتركة، هي المسؤولة عن قابلية التشغيل البيني البنيوي، يمكن للمدن تحقيق إمكانية التشغيل البيني والدلالي، وبالتالي تقديم تطبيقات مدن ذكية أكثر تقدماً.
كما تدعم اقتصاديات المنصة استخدامها في المدن الكبرى التي تملك عدداً كبيراً من حلول المدن الذكية. وتتألف الإيرادات من رسوم الاشتراك من المدن المشاركة، إلى جانب رسوم المعاملات لكل حالة استخدام تضاف إلى المنصة. وكلما زادت حالات الاستخدام (مثل الإنارة الذكية أو مواقف السيارات الذكية) في المدينة، زادت الإيرادات التي تحققها المنصة. ومن شأن هذا الترتيب أن يجعل المنصات أكثر جدوى من الناحية التجارية في المدن ذات منظومات إنترنت الأشياء المتطورة نسبياً والتي يمكنها الجمع بين الحلول الحالية لإنشاء حالات استخدام إضافية. وفي الواقع، سواء كان ذلك مع المنصات المتوافقة عبر القطاعات المختلفة أو مع المعايير المشتركة، فإن السعي وراء قابلية التشغيل البيني لذاته لن يخلق قيمة كبيرة. ويجب على الجهات المعنية تطبيقه لإنشاء حالات استخدام جديدة تماماً.
وعلى الرغم من أن اتحاد القطاع الخاص عادة ما يبني ويمتلك ويكون مسؤولاً عن المنصة المتوافقة عبر القطاعات المختلفة، فإنه يمكن لحكومات المدن الشروع في تطوير المنصة من خلال تقديم الدعم المالي للاتحاد وتوفير الوصول إلى بياناتها.
وتظل المنصات المتوافقة عبر القطاعات مفهوماً جديداً نسبياً. ونظراً لتنوع حلول ومعايير إنترنت الأشياء، يعد تطوير مثل هذه المنصات مهمة معقدة للغاية، ولا تزال معظم المشاريع في مرحلة التخطيط أو الاختبار. وعلاوة على ذلك، فإن مصالح المدن والجهات الفاعلة في القطاع الخاص لا تتوافق بشكل طبيعي. ويمكن للبلديات ومزودي حلول المنصات جني فوائد كبيرة للتشغيل البيني أو عائدات مجزية من مثل هذه المنصات، لكن الشركات المشاركة يكون لديها حافز أقل لمشاركة بياناتها من خلال منصة. وسيساعد حل هذه التحديات المنصات على اكتساب سمعة جيدة.
الخطوات الثلاث نحو مستقبل متصل
لإطلاق المزايا الكاملة لحلول إنترنت الأشياء، يجب على المدن اتخاذ الخطوات التالية:
تحديد واعتماد نهج واضح
يجب أن تقرر المدن الكبرى اختيار واعتماد النهج الذي من المرجح أن يتناسب مع تطلعاتها وأهدافها بشكل أفضل. ومن أجل اتخاذ هذا القرار، يجب عليها أولاً النظر في حلول إنترنت الأشياء الموجودة لديها. وفي حال كان لديها عدد قليل فقط من الحلول، فمن المحتمل أن يكون توحيد المعايير هو الخيار الأفضل. أما إذا كان لديها عدد كبير من الحلول، فإن الاعتبارات التجارية وقابلية التشغيل البيني تفضل اختيار المنصة المتوافقة عبر القطاعات. ومن المحتمل أن تؤثر عوامل أخرى على قرارات المدن أيضاً، ففي المدن والمناطق المنظمة بشكل دقيق جداً، نتوقع أن يكون توحيد المعايير أكثر شيوعاً؛ أما في الأسواق غير الخاضعة للرقابة، والتي تشجع المنافسة، فمن المرجح أن تكون المنصات أكثر انتشاراً.
ضمان الشراء المبكر
لكي ينجح أي من النهجين، يجب أن تخلق المدن توافقاً في الآراء بين أصحاب المصلحة الرئيسيين. ويتطلب تحديد معايير إنترنت الأشياء التي تناسب جميع المشاركين مشاركة جميع الجهات الفاعلة المهمة في القطاع الخاص منذ مرحلة مبكرة من العملية. وينطبق الشيء نفسه على المنصات، حيث يتعين على المدن إقناع الشركات المشاركة بمشاركة بياناتها - ربما من خلال تقديم اتفاقيات مشاركة الإيرادات أو غيرها من الحوافز.
تعزيز اعتماد إنترنت الأشياء
يجب تثقيف المدن بصورة استباقية في زيادة اعتماد إنترنت الأشياء حتى تتمكن من جني أقصى قدر من الفوائد من حلول المدينة الذكية. ويمكنها القيام بذلك عن طريق تمويل برامج التدريب، وتقديم الإعانات والإعفاءات الضريبية، وتوفير دعم مركزي للمشتريات لمؤسسات القطاعين العام والخاص المتوافقة على تطوير الحلول. ويمكن للمدن أيضاً بناء شبكة اتصالات لاسلكية لإنترنت الأشياء خاصة بها لدعم عملية تبني هذه التقنية.
ويُعد تغيير المشهد الحضري بشكل أساسي وتحسين جودة حياة المواطنين من الاحتمالات التي يمكن أن تصبح واقعاً ملموساً مع حلول المدينة الذكية. ومع ذلك، فإن قابلية التشغيل البيني ضرورية للنجاح في تحقيق هذا الهدف. وبمجرد تحقيق ذلك، سيتم ضمان التبادل السلس للبيانات في كل حالة، ما يؤدي بدوره إلى الاستفادة من كامل إمكانيات إنترنت الأشياء.
انقر هنا لمعرفة المزيد حول إطلاق حلول المدن الذكية باستخدام إنترنت الأشياء ومعرفة المزيد حول رؤى "بوسطن كونسلتينغ جروب" للتكنولوجيا والإعلام والاتصالات.