حدقت جينيفر في تقرير تقييمها كمديرة وتساءلت عما أوصلها إلى هذه النقطة. كيف يمكن لمهنية مخضرمة مثلها حاصلة على لقب "مدير العام" أن تتلقى تقييمات سلبية بهذا الشكل؟ اعتادت أن تستمتع بدورها، ولكن يبدو الآن أن كل شيء أصبح خارجاً عن سيطرتها. أعيد تشكيل دورها مرة تلو الأخرى من خلال عمليات إعادة التصميم الشاملة للعمليات داخل الشركة واعتماد التكنولوجيا الرقمية والمبادرات المرنة ومؤخراً الانتقال إلى العمل عن بعد، ما جعلها تشعر أنها غير قادرة على مواكبة ما يحدث.
راقبنا عن كثب التغييرات التي طرأت على دور المدير، وبناء على ذلك نرى أزمة تلوح في الأفق، مؤشرات هذه الأزمة منتشرة في كل مكان.
في الأعوام القليلة الماضية أجريت تغييرات هائلة في طريقة العمل، إذ ألغيت الطبقة الإدارية الأعلى منها فتضاعف حجم فريقها وأصبح نصف أفراده تقريباً يعملون في مشاريع مشتركة بين عدة أقسام يقودها مدراء آخرون. اعتادت أن تجتمع مع أفراد فريقها في مكتبها من أجل مراجعة التقدم المحرز في المشاريع، والآن لم يعد لديها مكتب، وعندما ترغب في متابعة أدائهم يتعين عليها الانضمام إلى اجتماعاتهم القصيرة، ما يولد لديها شعور بأنها متفرجة بينهم لا مديرتهم. باتت تشعر أنها بعيدة عن أداء الموظفين، ولكن لا يزال لديها نفس مجموعة مسؤوليات الموظفين كما كانت من قبل، متمثلة في تقديم تقارير مراجعة الأداء وتعديل الرواتب وتعيين الموظفين وإقالتهم والمشاركة في النقاشات المهنية معهم.
ليس هذا فحسب، بل إنها مطالبة بتحمل المزيد من المسؤوليات؛ فبسبب انتقال شركتها السريع إلى التقنيات الرقمية مثلاً باتت جينيفر مسؤولة عن تطوير مهارات الموظفين التقنية، ولكن ذلك يشقّ عليها لأنه يشكل تهديداً لكثير من أفراد فريقها. وعندما تتحدث معهم عن الأمر يُتوقع منها أن تبدي درجة لا متناهية من المشاركة الوجدانية، وهي لا تجيد ذلك إطلاقاً. كما أن عليها البحث عن أصحاب المواهب المتنوعة وخلق مناخ من الأمان النفسي وتقليص حجم وحدة العمل في آن معاً. تدرك جينيفر أهمية هذه الأمور ولكنها ليست ما وافقت على فعله عندما تسلمت دور المديرة، وهي غير واثقة من امتلاكها الطاقة العاطفية اللازمة للتعامل معها.
ماذا حدث للوظيفة المستقرة المحددة التي تجيد العمل فيها منذ زمن طويل؟ ماذا حدث للنفوذ والمكانة المرافقين لتلك الوظيفة؟ هل تكمن المشكلة في جينيفر نفسها؟ هل فقدت قدرتها على مواكبة متطلبات مكان العمل الآخذ بالتطور؟ هل أصبحت جزءاً من "الطبقة الوسطى المجمدة"؛ الطبقة الإدارية التي تتعرض لكثير من الانتقادات لأنها تعيق التغيير بدلاً من تمكينه؟
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
المدراء هم شريان حياة المؤسسات، ومع تغير مكان العمل في العقود الأخيرة، باتوا مطالبين بتولي مسؤوليات جديدة واكتساب مهارات جديدة، وهم يواجهون صعوبة في التعامل مع هذه المطالب، ويشكلون بذلك تهديداً للإنتاجية ورفاهة الموظفين وسمعة العلامة التجارية.
الواقع الجديد
هناك 3 أبعاد للتغيير: النفوذ (يجب على المدير التفكير في إنجاح فريقه لا في جعله يعمل لأجله)؛ والمهارات (المدير مطالَب بتوجيه الأداء وليس مراقبة المهام)؛ والبنية التنظيمية (يجب عليه القيام بدور القائد في بيئات أكثر مرونة).
الطريق نحو المستقبل
يجب أن نقوم بما في وسعنا لمساعدة المدراء على التأقلم، وقد اتخذت الشركات الثلاثة المذكورة في هذا المقال خطوات مدروسة ونجحت في تحويل دور المدير ليلبي مطالب العمل في القرن الواحد والعشرين على نحو أفضل.
جينيفر هي شخصية مركبة من عدة شخصيات حقيقية التقينا بها في عملنا، وهي لا تملك أجوبة عن هذه الأسئلة. كل ما تعرفه هو أنها محبطة وتعيسة ومرهقة كما هو حال المدراء في كل مكان.
تعمل إحدانا، ليندا، في البحث الأكاديمي وتقدم الاستشارات للشركات، أما دايان فكانت قبل تقاعدها مؤخراً الرئيسة التنفيذية للموارد البشرية في شركة آي بي إم (IBM) (والتي لا تزال تملك أسهماً فيها). في أدوارنا هذه راقبنا عن كثب التغييرات التي طرأت على دور المدير، وبناء على ذلك نرى أزمة تلوح في الأفق.
مؤشرات هذه الأزمة منتشرة في كل مكان. في عام 2021 سألنا مجموعة مسؤولين تنفيذيين من 60 شركة حول العالم عن أداء مدرائهم، وحصلنا على تقارير لا تكشف عن أسماء أصحابها تفيد بأنهم محبطون ومرهقون، وكذلك الأمر عندما سألت شركة غارتنر للأبحاث 75 قائداً للموارد البشرية من شركات حول العالم عن أداء مدرائهم، فقال 68% منهم إنهم مرهقون، ومع ذلك تقول شركة غارتنر إن 14% فقط من هذه الشركات اتخذت خطوات فعلية للمساعدة في تخفيف العبء عن مدرائها.
ليس من الصعب تشخيص المشكلة، فقد تطور دور المدير التقليدي في أماكن العمل القائمة على التراتبية الهرمية في العصر الصناعي، ولكن في العصر ما بعد الصناعي الذي تميزه المرونة والبنى التنظيمية المسطحة يبدو أن هذا الدور قد عفا عليه الزمن.
تكمن المفارقة في أننا بحاجة فعلياً إلى "قادة للأفراد" عظماء أكثر من أي وقت مضى. خذ مثلاً شركة مايكروسوفت التي لاحظت أنه عندما يساعد المدير أفراد فريقه على تحديد أولوياتهم ويثري ثقافتهم ويدعم التوازن بين حياتهم الشخصية وعملهم يشعر الموظفون بارتباط أقوى بعملهم وينظرون إليه نظرة إيجابية أكثر. وكذلك الأمر بالنسبة للشركة الاستشارية أو سي تانر (O.C. Tanner) التي لاحظت أن الاجتماعات الفردية الأسبوعية التي يعقدها المدراء مع موظفيهم في الفترات التي يكتنفها الغموض تؤدي إلى زيادة بنسبة 54% في معدلات الاندماج وزيادة بنسبة 31% في الإنتاجية، وتراجعاً بنسبة 15% في معدلات الاحتراق الوظيفي وتراجعاً بنسبة 16% في الإصابة بالاكتئاب بين الموظفين. في حين أنه وفقاً لشركة ماكنزي، فإن علاقة الموظف الجيدة مع مديره هي العامل الأهم في رضاه الوظيفي الذي يشكّل بدوره ثاني أهم عامل في تحقيق رفاهة الموظف.
وبصورة معاكسة، يمكن للمدير السيئ إلحاق ضرر كبير بمعدلات الاستبقاء والاندماج؛ أبلغت نسبة 75% من المشاركين في الدراسة الاستقصائية التي أجرتها شركة ماكنزي أن المدير المباشر هو أهم الجوانب المسببة للتوتر في وظائفهم. وكما تقول الجملة الشهيرة، "يرغب الموظفون في العمل لأجل الشركة نفسها وينسحبون منه بسبب مدرائهم".
ثمة خلل لا شك، وإذا حافظ المدراء على أهميتهم الكبيرة وأصبحت أدوارهم غير قابلة للاستخدام فمن الجلي أن الوقت قد حان لإجراء تغيير.
سنثبت في هذا المقال ضرورة إعادة تعريف دور المدير وتقسيمه بدلاً من تركه ليستمر بالنمو على نحو مكلف وكارثي على الأرجح. لكن أولاً، سنذكر بإيجاز موجات الابتكار التي أوصلتنا إلى هذه الأزمة.
4 تحركات فارقة في حياة الشركات
الموجة الأولى هي إعادة تصميم العمليات التي بدأت في بداية التسعينيات من القرن الماضي واستمرت حتى بداية العقد الأول من الألفية الثالثة. ركزت هذه الموجة على إلغاء البيروقراطية وتعزيز الكفاءات التشغيلية، وبمساعدة الشركات الاستشارية التي طورت سياسات حول هذا النوع من العمل، بدأت الشركات بعولمة عملياتها واعتماد التعهيد الخارجي وجعلت التراتبية الهرمية فيها مسطحة وفي كثير من الحالات وضعت من بقي من مدرائها في دور "المساهم والمدرب" الذي يلزمهم بتولي مهام الموظفين. أدت هذه التغييرات إلى تخفيض التكاليف ولكنها جعلت حياة المدراء أصعب بكثير أيضاً، إذ أصبحت مسؤولياتهم أوسع والفرِق التي يشرفون عليها أكبر بكثير وأصبحوا مطالبين بتكريس أنفسهم للمشاريع والعملاء.
وبدأت موجة الابتكار الثانية باعتماد التكنولوجيا الرقمية في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، أي في عام 2010 تقريباً. أدى اعتماد التكنولوجيا الرقمية إلى السماح للجميع بالوصول إلى المعلومات والتواصل مع الناس ولكنه قوض بذلك المصادر التقليدية للنفوذ الإداري، وأصبح الرؤساء التنفيذيون وكبار القادة الآن قادرين على التواصل مع موظفيهم كافة ومشاركة الاستراتيجيات والأولويات والمستجدات المهمة معهم والاستجابة لمخاوفهم، وبالتالي لم يعد المدراء يشكلون جزءاً مهماً في حلقة تبادل المعلومات فبدؤوا يشعرون بأنهم يفقدون نفوذهم وقدرتهم على السيطرة ومكانتهم.
ثم نشأت موجة منهجية أجايل وفرضت تغييرات على العمليات، وبدأت الشركات باعتمادها في النصف الأخير من العقد الثاني من الألفية الثالثة. كان هدف هذه الموجة يتمثل في تقصير الجداول الزمنية وتعزيز الابتكار عن طريق الاستفادة من القوى العاملة ضمن جميع المؤسسات لمطابقة المهارات مع العمل وجمع فرق المشاريع بسرعة بناء على الحاجة. وبالنتيجة بدأ المدراء بفقدان التواصل مع مرؤوسيهم الذين أصبحوا يقضون وقتاً أطول في العمل تحت إشراف مدراء المشاريع الذين يتناوبون على إدارتهم بصورة مؤقتة. ونظراً لإمكانية مطابقة المرشحين مع الوظائف الشاغرة عبر الإنترنت، خسر المدراء النفوذ والسلطة المترافقين مع دور الوساطة في إتاحة الفرص لموظفيهم.
وأخيراً، نشأت الموجة الرابعة مع الجائحة في عام 2020 عندما أُجبرت الشركات وموظفوها على اعتماد خيارات العمل عن بعد. كانت هذه لحظة مفصلية أدت إلى تغيير هائل في طرق العمل وأماكنه. ما أن تحرر الموظفون من ارتباطهم بمكان عمل مادي خسر المدراء قدرتهم المعتادة على مراقبة أداء موظفيهم وسلوكهم عن قرب، وبدأ الموظفون بإدراك إمكانية الاستفادة من خيارات العمل الوفيرة التي لا تقتصر على اختيار المسافة التي يقطعونها في التنقل بين المنزل والعمل. كان لهذه التغييرات أثر محرر ولكنها زادت العبء الذي يحمله المدراء على كاهلهم، وأصبحوا مطالبين بإنشاء علاقات متعاطفة مع موظفيهم تتيح لهم تحفيز اندماج الموظفين واستبقاءهم.
أدى اعتماد التكنولوجيا الرقمية إلى السماح للجميع بالوصول إلى المعلومات والتواصل مع الناس ولكنه قوض بذلك المصادر التقليدية للنفوذ الإداري.
غيرت موجات الابتكار هذه دور المدير من ثلاثة أبعاد؛ النفوذ والمهارات والبنية التنظيمية. ففي تحول النفوذ يتعين على المدراء التفكير في جعل الفرق ناجحة لا في جعلها تعمل لأجلهم، وفي تغيير المهارات من المتوقع منهم توجيه الأداء وليس مراقبة المهام؛ وفي تغيير البنية التنظيمية يتعين عليهم القيام بدور القادة في بيئات أكثر مرونة. (بإمكانك الاطلاع على الشكل التوضيحي "من مدير إلى قائد مسؤول عن قيادة الأفراد").
منحت هذه التغييرات الموظفين القوة، وهو أمر جيد بالطبع، ولكنها غيرت طريقة تحفيز المدراء للإنتاجية وبدأت الشركات بإدراك ذلك. في الدراسة الاستقصائية التي أجريناها على 60 شركة، طلبنا من المسؤولين التنفيذيين وضع قائمة بأهم المجالات التي يجب أن يركز المدراء عليها اليوم، وكانت أبرز أجوبتهم هي التوجيه والتواصل ورفاهة الموظفين.
نماذج إدارية جديدة
اتخذت بعض المؤسسات إجراءات مدروسة لإعادة تصور دور المدير. فلنلق نظرة على التغييرات التحويلية التي أجريت في 3 شركات مختلفة في قطاعات المصارف والتكنولوجيا والاتصالات.
بناء مهارات جديدة على نطاق واسع. ترى معظم الشركات أن أهم قادتها هم من يحققون التغيير، وهي عازمة على إنفاق ملايين الدولارات على تطويرهم. وتقول النظرية إن الطبقات الإدارية التي تتلو القيادة مجمدة في مكانها وستقاوم التغيير. خذ مثلاً مصرف ستاندرد تشارترد (Standard Chartered) الذي يقدم خدماته للأفراد ويقع مقره في لندن وله أكثر من 750 فرعاً في أكثر من 50 دولة، إذ اختار مسؤولوه التنفيذيون التفكير بطريقة مختلفة وقرروا أن يكون لمدراء الإدارة الوسطى البالغ عددهم 14 ألفاً دور مركزي في نمو المصرف.
وبدلاً من إعادة تصميم دور المدير بأكمله بدأ الفريق التنفيذي ببضع خطوات أساسية تتمثل في تغيير لقبه الوظيفي وإخضاعه لعملية اعتماد وتقوية مفهوم المنظومة الإدارية. فأصبح المدراء "قادة أفراد" إقراراً بأهمية التواصل الإنساني في عملهم، في حين تعمل عملية الاعتماد على تقييم الإمكانات التي تركز على المستقبل كتحفيز النمو وبناء الثقة والتوفيق بين الفرق وصناعة قرارات جريئة. وعمل الفريق التنفيذي على تقوية المنظومة عن طريق الاستفادة من التجارب التي يمرّ بها قادة الأفراد ضمن فرقهم لحلّ المشكلات التي تظهر في الشركة بأسرها. مثلاً، في أثناء عملية تعيين موظفين جدد في 10 مناصب فشلت إحدى مجموعات قادة الأفراد في تعيين أي شخص من الفئات ناقصة التمثيل، ولكن لم يوجه الفريق التنفيذي الانتقاد للمجموعة بمفردها وإنما اغتنم الفرصة لطرح سؤال على المنظومة بأكملها، وهو: "كيف يمكننا دعمكم في جعل فرقكم أكثر تنوعاً؟"
ثم قرر الفريق التنفيذي أن يركز على التوجيه الذي أصبح اليوم مهارة جوهرية في الإدارة. [يمكنك الاطلاع على مقال "عندما يؤدي القائد دور الموجه" (The Leader as Coach). في الحقيقة، للتوجيه دور أساسي في التغييرات الثلاثة التي وصفناها آنفاً؛ عندما يقوم المدراء بتوجيه موظفيهم فهذا يعني تغييراً في نفوذهم عندما ينتقلون من إملاء التعليمات إلى الدعم والتوجيه، وتغييراً في المهارات عندما ينتقلون من مراقبة العمل إلى تقديم التقييمات المستمر، وتغيير في البنية التنظيمية من خلال التفاعل مع موظفيهم بطرق ديناميكية مستمرة بدلاً من التفاعل الجامد العرَضي.
عمل مصرف ستاندرد تشارترد لعقود من الزمن على تطوير أبرز قادته وتحويلهم إلى موجهين، ولكن اليوم أصبح التحدي متمثلاً في توسيع هذه الجهود لتشمل 14 ألف قائد أفراد. قام المصرف بذلك عن طريق تنفيذ مجموعة متنوعة من المبادرات، مثل استخدام منصة توجيه قائمة على الذكاء الاصطناعي وتطوير أساليب توجيه الفرق وتوجيه النظراء ضمن قواه العاملة في أسواقه بإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. كما أطلق مشروعاً تجريبياً يقدم من خلاله مساعدة لقادة الأفراد ليتمكنوا من دفع تكاليف التدريب والاعتماد الرسميين بوصفهم موجهين (من مؤسسات خارجية معتمدة من الهيئة الإدارية العالمية للتوجيه). كان من يوافق على الانضمام لهذا المشروع مطالباً بتوجيه الموظفين الآخرين، وكان الهدف متمثلاً في بناء ما تقول عنه رئيسة الموارد البشرية في المصرف، تانوج كابيلاشرامي: "ثقافة التوجيه العميق". قال كثير من المشاركين إنهم لاحظوا تحسناً في مهاراتهم وارتفاعاً في ثقتهم بأنفسهم، ولذلك قام المصرف بتنظيم مزيد من برامج التدريب والاعتماد بمشاركة مئات الموظفين حول العالم.
كانت الشركة بحاجة إلى أن يقوم مدراؤها بقيادة جهود إعادة تدريب الموظفين، وتكييف أساليبهم مع أساليب العمل المرنة، وتحفيز اندماج جميع الموظفين في نفس الوقت.
تجديد الترابط بين العمليات والأنظمة. في عام 2013، عندما أدركت الرئيسة التنفيذية الجديدة للموارد البشرية في شركة آي بي إم، دايان، أن دعم عملية التحول الشاملة التي بدأتها الرئيسة التنفيذية حينئذ، جيني روميتي، يستدعي نوعاً مختلفاً من المدراء في الشركة. كانت شركة آي بي إم ستعمل على تغيير 50% من مجموعة منتجاتها على مدى الأعوام الخمسة التالية وستدخل في عدة مجالات أعمال تنموية (ومنها السحابة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني) وستنتقل من العمل على ترخيص البرمجيات إلى تقديم البرمجيات كخدمة. في اجتماع عام على مستوى العالم أعلنت روميتي أن جميع الموظفين مطالبون بتطوير مهارات جديدة وتعلّم اتباع طرق جديدة في العمل. كانت الشركة تسعى لبناء ثقافة محسّنة ملائمة للابتكار والسرعة، وكانت بحاجة إلى مدراء يقودون جهود إعادة تدريب الموظفين ويكيفون أساليب إدارتهم مع أساليب عمل مرنة ويحفزون اندماج جميع الموظفين في نفس الوقت.
كان ذلك يعني أن تتخذ الشركة 3 خطوات: اعتماد التكنولوجيا الرقمية لإنجاز أعمال المدراء وإتاحة المجال لهم لتولي مسؤوليات إضافية، وتزويدهم بمهارات جديدة، وتحميلهم المسؤولية من خلال اتباع نظام تطوير الأداء القائم على المقاييس. كان أهم أهداف المدراء متمثلاً في اندماج الموظفين، وكانوا مسؤولين عن 70% من التغير الذي سجله هذا المقياس.
استخدم قسم الموارد البشرية الذكاء الاصطناعي لتقليص الأعمال الإدارية مثل الموافقة على تقارير المصروفات أو نقل الموظفين إلى وحدة عمل جديدة، وتم استخدام حلول التعلم الرقمية الشخصية كي يحصل المدراء على الدعم عبر هواتفهم النقالة في حالات مثل التوجيهات في الوقت المناسب حول التحضير للمحادثات الصعبة، كما ساعدت البرامج الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعي المدراء في صناعة قرارات أفضل فيما يتعلق بالموظفين واكتشاف مشكلات مثل مخاطر الاستنزاف. وساعدت الحلول الاستشارية القائمة على الذكاء الاصطناعي في جعل عملية إقرار زيادات الرواتب أسهل بالنسبة للمدراء؛ فهي تأخذ في حسبانها الأداء وفجوات الرواتب في السوق إلى جانب البيانات الداخلية حول دوران الموظفين حسب المهارات والطلب الخارجي الحالي على كل مهارة من مهارات الموظفين (يتم جمع هذه البيانات من منشورات الوظائف الشاغرة لدى الشركات المنافسة) والطلب المستقبلي.
والآن عندما يجري المدراء محادثات حول الرواتب مع موظفيهم يمكنهم تقديم التفسير المنطقي لقراراتهم من دون تردد ومساعدة أفراد الفريق في فهم الطلب على مهاراتهم والأهم هو التركيز على دعمهم لبناء قدرات الموظفين المهمة بالنسبة للسوق وتسريع نموهم المهني.
وكما هو الحال في مصرف ستاندرد تشارترد، قدمت شركة آي بي إم برنامج اعتماد لمدرائها قائماً على منهاج تدريب جديد. كان الأثر كبيراً؛ يساهم المدراء الحاصلون على هذا الاعتماد في تحقيق اندماج الموظفين بمعدلات أعلى بخمس نقاط من المدراء الآخرين.
بالإضافة إلى أن شركة آي بي إم تطالب مدراءها بالحصول على "ترخيص" في الأنشطة الأساسية عن طريق الخضوع لبرنامج اعتماد داخلي. مثلاً، كان ترخيص تعيين الموظفين مصمماً لضمان أن يختار المدراء المرشحين بطريقة موضوعية غير متحيزة ويقدموا لهم تجربة مصممة على نحو جيد ويقوموا أخيراً بعمليات تعيين عالية الجودة. كان الأثر كبيراً هنا أيضاً؛ إذ كان الموظفون الذين عينهم المدراء الحاصلون على الترخيص يتمتعون باحتمالات أعلى بنسبة 7% لتجاوز التوقعات في غضون 6 أشهر، وكانت احتمالات مغادرتهم للشركة في السنة الأولى أقلّ بنسبة 45% مقارنة بالموظفين الذين عينهم المدراء الآخرون، تعني هذه الأرقام الكثير في شركة تعين أكثر من 50 ألف موظف جديد سنوياً.
يتمثل أحد التغييرات الهامة في الانتقال المدروس من إدارة الأداء إلى تطويره، ولم يكن النظام الجديد مهماً بسبب قدرته على تحسين النتائج التجارية فحسب بل لأنه يعكس العقلية والمهارات اللازمة للإدارة في مكان العمل الحديث أيضاً.
وتقديم التقييمات هو جزء أساسي منه؛ إذ يُسأل أفراد الفريق عما إذا كان مدراؤهم يعملون على خلق بيئة تشجع على التواصل الصادق، وهل يقدمون تقييمات بنّاءة باستمرار؟ هل يساعدون في تطوير المهارات المهمة بالنسبة للسوق؟ هل هم موجّهون فعّالون؟ في نفس الوقت يجمع قسم الموارد البشرية المقاييس المتعلقة بالتنوع والشمول وتسرّب الموظفين وتطوير المهارات. ثم تجمع الشركة هذه المقاييس عن طريق بيانات الاستقصاءات وتدخل النتائج إلى "مؤشر نجاح المدير"؛ وهو لوحة متابعة تتيح للمدراء فهم مدى تلبيتهم للتوقعات وتحديد احتياجاتهم بالنسبة لتعلم الجديد والتخلي عن القديم على حدّ سواء. يُدعى المدراء إلى برامج التدريب بناء على متطلبات التطوير لدى كل منهم. يؤتي الاستثمار في هذه البرامج ثماره؛ فالموظفون الذين أنهوا دورة تعليمية واحدة على الأقل في العامين الماضيين أصبحت احتمالات إدراجهم في الشريحة العشرية الدنيا من "مؤشر نجاح المدير" أقلّ بنسبة 20%، في حين أن الموظفين الذين لم يخضعوا لأي دورات تعليمية لتطوير القدرات القيادية تكون احتمالات إدراجهم فيها أعلى بكثير.
تأخذ شركة آي بي إم هذه الفكرة على محمل الجدّ، وهي تخرِج المدراء الذين لا يظهرون سلوكيات تنموية ويقدمون أداء أدنى من المستوى المطلوب باستمرار من المناصب الإدارية. الرسالة التي توجهها الشركة إلى المدير واضحة: لقد تغير الزمن ويجب أن تتغير أنت أيضاً، واستمرار عملك في دور المدير مرتبط على نحو وثيق بنمو موظفيك واندماجهم المستمرين. نحن مستعدون لدعمك كي تعيد النظر في الأساليب والسلوكيات والعادات التقليدية وتتبنى أساليب وسلوكيات وعادات جديدة أكثر تلاؤماً مع طرق العمل الجديدة ومكان العمل الرقمي.
نموذج المدير المزدوج في شركة تيلسترا
كي تتوصل شركة الاتصالات تيلسترا إلى طرق أفضل للتعامل مع ما تسميه "معادلة العمل" الجديدة، قامت بإلغاء التسلسل الهرمي وقسمت دور المدير التقليدي إلى وظيفتين؛ واحدة مخصصة للموظفين والأخرى للعمليات. يُعتبر المديران متساويين ويعملان بالتنسيق الوثيق فيما بينهما.
تقسيم دور المدير. شركة تيلسترا (Telstra) هي شركة اتصالات أسترالية تبلغ قيمة السوقية 16 مليار دولار وتضم أكثر من 32 ألف موظف، وقد اتخذت خطوة قد تكون الأكثر جرأة على الإطلاق. عندما قرر الرئيس التنفيذي، آندي بين، زيادة تركيز الشركة على العملاء وزيادة سرعة حركتها ومرونتها، فتعاون مع الرئيسة التنفيذية للموارد البشرية، أليكس بادينوك، في تسطيح التسلسل الهرمي (الهيكل التنظيمي) بدرجة كبيرة وتخفيض عدد المستويات التنظيمية إلى 3 فقط.
أدرك بين وبادينوك وفريقهما أن عملية إعادة الهيكلة أتاحت فرصة مثالية لإعادة تصميم الأدوار الإدارية، فقالت لنا بادينوك: "كان هذا التغيير ضرورياً منذ زمن طويل، أدركنا أن علينا فصل العمل عن الإدارة وإنشاء دورين مختلفين؛ قائد الأفراد وقائد العمل". تم تطبيق هذا النموذج على المؤسسة بأكملها مع بضعة استثناءات قليلة.
أصبح قادة الأفراد مسؤولين عن الموظفين الذين يتم تقسيمهم بحسب مهاراتهم إلى "فروع محلية" شبيهة بالنقابات، كفرع خبراء التخطيط المالي وفرع أصحاب الخبرة في إجراء التغييرات مثلاً. تضم معظم الفروع المحلية عدة مئات من الموظفين ويضم بعضها أكثر. يحمل قادة أقسام الفروع في المستوى الإداري الأدنى المسؤولية عن 15-20 موظفاً في تخصصات أكثر تحديداً، وهم موزعون في عدة دول حول العالم، فالأهم هو ما يفعله الموظفون وليس موقعهم.
يولي مجتمع المستثمرين اهتماماً لم نشهد له مثيلاً من قبل لرأس المال البشري في الشركات، ويطالب بالإفصاح عن معايير مثل التنوع ودوران الموظفين.
يضمن قادة الأفراد أن يمتلك الموظفون في فروعهم المحلية المهارات والقدرات اللازمة لتلبية احتياجات الأعمال الحالية والمستقبلية، ويساعدونهم في تطوير مسارات تصلهم بالفروع المحلية الأخرى من أجل توسيع الرؤى وتجنب تشكل الصوامع المنعزلة. قالت بادينوك: "يتمثل دور كل قائد للأفراد في معرفة الموظفين خارج نطاق عملهم، وفهم طموحاتهم المهنية، وإثراء عقولهم وحثها على توليد الأفكار". يتم تقييم أداء هؤلاء القادة عن طريق معايير مثل مدى تفاعلهم مع أفراد فرقهم (يتم قياسه من خلال صافي نقاط الترويج - Net Promoter Scores) ومدى تلبيتهم للمتطلبات التي تشمل حجم الوقت الذي يقضيه موظفوهم في العمل الفعلي على المشاريع مقارنة بالوقت الذي يقضونه "في الانتظار".
أما قادة العمل فيركزون على سير العمل والضرورات التجارية في العمل، وهم لا يعملون على إدارة الموظفين بصورة مباشرة ولا يتحكمون بميزانيات التشغيل، بل يضعون خطط العمل وينفذونها ويحددون الفروع المحلية التي يمكنهم الاستعانة بها لأجل ذلك. يتم تقييم أداء هؤلاء القادة من خلال مقاييس مثل وضوح خططهم وجودة تقديراتهم ومدى التزامهم بالجدول الزمني والميزانية المحددين للمشاريع. (يمكنك الاطلاع على عنوان الشريط الجانبي "نموذج المدير المزدوج في شركة تيلسترا")
لاقت هذه التجربة الجريئة ترحيباً كبيراً في الشركة، فقال أحد الموظفين: "بهذه الطريقة يحمل شخصان مسؤولية تطويرك، فمهمة قائد الفرع المحلي [قائد الأفراد] هي التحدث إليك عن نموك، وخوض محادثات رائعة وقوية معك حول نوع العمل الذي ترغب في القيام به وطريقة وصولك إليه، وبإمكانك التحدث إليه وإخباره عن طموحاتك بصدق كبير، إذ لديه شبكة معارف مذهلة ويمكنه تأمين مهام تتيح لك استكشاف أدوار مختلفة. وقائد المشاريع [قائد العمل] يعمل معك بصورة يومية ويقدم لك التوجيه فيما يجب عليك القيام به وفي النتائج التجارية التي تحاولون تحقيقها".
في شركة تيلسترا لا تتبع أي مجموعة من القادة للمجموعة الأخرى، وأجور القادة في المجموعتين متساوية ويشاركون في فريق القيادة العليا بوصفهم أنداداً. ويستطيعون العمل معاً لتحديد ما تسميه بادينوك "معادلة العمل" التي تكشف عن "الموظفين الذين يقدمون أداء جيداً والمهارات والقدرات المطلوبة". يستطيع قادة الأفراد فهم ديناميات مجموعة المواهب التي يعملون على قيادتها، ويستطيع قادة العمل فهم ديناميات سير العمل. ويمكن لقادة الأفراد بالتنسيق مع نظرائهم تدارك الفجوات في المهارات ومنح الأولوية للاستثمار في التدريب أو توقع النقص في الطاقة الإنتاجية والحاجة إلى تعيين المزيد من الموظفين، كل ذلك مع الانتباه إلى التزام الموظفين وصحتهم ورفاهتهم.
نموذج الإدارة المتفرع هذا ليس جديداً، إذ استخدم لسنوات في قطاع الاستشارات حيث نرى عادة فصلاً بين قيادة المؤسسة وقيادة المشاريع، لكن الجديد هنا هو السياق. أثبتت شركة تيلسترا أن النموذج فعال ومربح في جميع أقسام الشركات الكبيرة التي تبنت السياسات المرنة وترتيبات العمل المرن.
فلنأخذ وقفة ونفكر في وضعنا الحالي؛ اتبعنا نهج الإدارة القائم على التسلسل الهرمي على مدى نحو قرن من الزمن، وكان ذلك منطقياً لأن العمل كان منظماً بصورة تسلسلية وقائماً على وحدات العمل المنعزلة، وكانت الوظائف ثابتة ومساحات العمل مادية والمعلومات تتدفق من القمة إلى القاعدة. لكن تغير الحال وأصبح عالم العمل الحالي القائم على التكنولوجيا الرقمية يمنح الأولوية للمرونة والابتكار والقدرة على الاستجابة والسرعة وقيمة التواصل الإنساني. كل ذلك يستدعي نهج الإدارة الجديد الذي ناقشناه؛ نهج ينطوي على تغيير النفوذ والمهارات والبنية التنظيمية.
لكن من المهم أن نفهمه جيداً. يولي مجتمع المستثمرين اهتماماً لم نشهد له مثيلاً من قبل لرأس المال البشري في الشركات، إذ يتفقد تقارير موقع غلاس دور حول علامات بيئات العمل السامة ويطالب بالإفصاح عن معايير مثل التنوع ودوران الموظفين. وبما أن المدراء أوصياء على الثقافة فهم شريان حياة المؤسسات، غير أن وضعهم الحالي المتمثل في الإرهاق والارتباك والافتقار إلى المهارات يشكل خطورة كبيرة على الإنتاجية ورفاهة الموظفين وعلى سمعة العلامة التجارية على حدّ سواء.
في بعض الأحيان نضطر لإحداث هزة قوية من أجل الإشارة إلى أن العمل على التغيير قائم بالفعل، كما هو الحال في إنشاء الألقاب الجديدة في شركتي تيلسترا وستاندرد تشارترد أو استخدام "مؤشر نجاح المدراء" في شركة آي بي إم. لكن في جميع الحالات يكون الدرب إلى التغيير السلوكي الدائم طويلاً، وتوضح تجربة شركة تيلسترا الفوائد التي يعود بها التصميم التنظيمي الثوري الجديد، وتبين تجربتا شركتي ستاندرد تشارترد وآي بي إم أنه يمكن للشركات على الأقل اتخاذ خطوات مدروسة لتغيير عقليات المدراء وإعادة توجيه طاقتهم وتركيزهم. مع هذه الخطوات التي ترسّخ التغيير في المؤسسات يمكننا ضمان أن يحصل الموظفون على القيادة التي يحتاجون إليها في عالم العمل الجديد.