تستمر معاناة تقدم المرأة والاحتفاظ بها في شركات كثيرة. وعندما بحثنا في تقدمنا الشخصي في "بوسطن كونسلتينغ جروب" (BCG)، وجدنا أن مشكلات مكان العمل التقليدية، كالتوازن بين الحياة والعمل وإجازات الأمومة والأجور غير المتساوية والطموحات المختلفة لا تعطينا تفسيراً كاملاً لأوجه التباين بين الجنسين لدى الجيل الأكبر. ولكننا اكتشفنا تفسيراً مختلفاً تماماً وعلى قدر عال من الأهمية، وهو جودة خبرة التدريب المهني اليومية.
يتمتع التدريب المهني بأهمية كبيرة في إتقان مهنة تقديم الاستشارات والنجاح في الخدمات المهنية. وهو عبارة عن علاقات العمل التي يبنيها الفريق الأصغر سناً الذي يتعلم من خلال عمله إلى جانب الزملاء ذوي الخبرة. ويتزايد اتباع هذا النموذج في جميع أنواع الشركات التي تسعى إلى تسريع تطوير موظفيها ذوي الإمكانات العالية، إلا أنّ بيئة شركات الاستشارات الإدارية تشكل تحدياً في وجه ترسيخ التدريب المهني لأن الموظفين يستمرون بالتنقل من مشروع لآخر ومن مدير لآخر. وكما هو الحال في العديد من الشركات سريعة الحركة في عصرنا، يعمل الكادر الاستشاري دون توصيف وظيفي رسمي أو دليل عمل معين، ولذلك تنشأ العلاقات، حيث يطور الموظفون مهاراتهم الحيوية وقدراتهم القيادية.
قمنا بتحليل بيانات الاستبانة السنوية للموظفين، وتحديداً النساء اللواتي يملكن إمكانات عالية ووصلن إلى منتصف المسار المهني، ثم غادرن الشركة بكل أسف. ووجدنا أن جملة "أنا راضية عن التدريب المهني والتقييم اللذان حظيت بهما" حصلت على أقل النقاط. كما وجدنا في استبانة أجريت للموظفين الذين يغادرون "بوسطن كونسلتينغ جروب"، أن النساء المغادرات صنفن الإرشاد المهني على أنه أهم موضوع يجب على الشركة العمل لتحسينه، وليس توازن الحياة والعمل. وأخيراً، في الاستبانة التي أجريت على الموظفين الأميركيين الشماليين، والتي سئلوا فيها عن 16 خياراً للأمور التي يسعون للحصول عليها من المدراء، قالت النساء أن خيارين فقط هما البعدان الأهم بالنسبة لهن، وهما "تشكيل علاقات متينة مع مديري" و"اهتمام القائد بي واستمراره بالتواصل معي بعد وقت طويل من انتهاء المشروع".
استعانت "بوسطن كونسلتينغ جروب" بهذه البيانات للتعاون مع شركة استشارية لتطوير القيادة تدعى براند سبيك (BRANDspeak) من أجل إطلاق برنامج جريء لإحداث تغيير في أنحاء أميركا الشمالية بعنوان: "التدريب المهني الفعلي" (Apprenticeship-in-Action) أو ما يرمز إليه (AiA). وركز هذا البرنامج على مكونات التدريب المهني الثلاثة والمسؤولة عن تحريك نسب الرضا والاحتفاظ، وهي: الترابط في العلاقات، والتطوير المبني على مكامن القوة، والتدريب على مجموعة من أساليب التواصل الفعالة. وهي جميعها أدوات رفع تهمّ أي مدير يسعى بجد لإخراج أفضل ما في موظفيه وفرقه.
بعد 5 أعوام من بدء البرنامج شهدنا تحسينات ملحوظة. إذ ارتفعت نسب ترقية النساء عبر البلاد ضمن جميع الأجيال، حيث كانت زيادة نسبة الجيل الأكبر من المدراء بقيمة 22% كما تراجعت نسب مغادرة النساء فيه بنحو 5%. أما نسب الاحتفاظ بالنساء اللاتي بلغن منتصف مسيراتهن المهنية فقد أصبحت متساوية مع نسب الاحتفاظ بالرجال. وارتفعت نسبة الرضا عن جهود "بوسطن كونسلتينغ جروب" للاحتفاظ بالنساء بنحو 20% لجميع النساء و30% لنساء الجيل الأكبر.
وعلى الرغم من صعوبة إرجاع الفضل في جميع هذه التحسينات إلى برنامج "التدريب المهني الفعلي"، إلا أننا نؤمن بأنه كان أداة تحريك هامة، وإليكم الأسباب:
تحسين الترابط
لقد وجد بحثنا أن كلا الجنسين، والنساء على وجه الخصوص، اعتبرا الكثير من علاقات العمل علاقات خاصة بالمعاملات. ولمعالجة هذه النظرة عمل برنامج التدريب المهني (AiA) على تهيئة المدراء لإيلاء أهمية أكبر للاستثمار في العلاقات، وركز على 4 عناصر وهي: 1) التواصل الشخصي، 2) الاستثمار في نجاح الأفراد، 3) تقديم التوجيه والنصح، 4) الحفاظ على التواصل في الفترات بين المشاريع. وقدمنا اقتراحات فنية لكيفية قيام المدراء بذلك، كاغتنام وقت الرحلة مثلاً للتواصل مع أفراد الفريق وبناء سياسة الباب المفتوح معهم. كما عززنا التواصل من خلال الإرشاد والرعاية المهنيين.
ومنذ إطلاق البرنامج شهدت الشركة تحسناً بنحو أربع نقاط للجنسين فيما يتعلق بمن قالوا أنّ مدراءهم دربوهم وطوروهم بفعالية أثناء العام الأول من عملهم. وأخبرنا أحد الشركاء أنه أصبح الآن يسجل لقاءات الاطمئنان عن زملائه في الفريق على جدول أعماله ويتتبعها ويقضي وقتاً كافياً لضمان أن تكون المحادثات أثناءها ذات مغزى. وتقول إحدى الشريكات تعقيباً على ذلك: "أصبحت الآن أعي أهمية التواصل الشخصي بوضوح، وأصبحت أهتم بك وأقوم على رعايتك".
استخدام التطوير بناء على مكامن القوة
بين بحثنا أن 63% من موظفي "بوسطن كونسلتينغ جروب" من الجنسين على جميع المستويات شعروا بأن تقييماتنا ركزت بشدة أكثر مما ينبغي على المجالات التي تحتاج للتطوير.
ولمعالجة هذا الأمر، قدم برنامج التدريب المهني (AiA) التدريب والأدوات اللازمة لمنح المدراء القدرة على بناء التطوير الشخصي على ما يتميز به الفرد من مكامن قوة، من خلال إنشاء قائمة بمكامن القوة وربط كل واحد منها بمجال محدد يحتاج التطوير، ليتيح للموظفين الاستفادة من نقاط قوتهم من أجل تسريع التطور. مثلاً، بدلاً من إخبار موظف يبقى صامتاً في الأحوال العادية أن يتحدث ويعبر عن رأيه في الاجتماعات، يمكننا التركيز على قدرته على استنباط الرؤى من التحاليل والتفكير بما يمكنه طرحه منها في الاجتماع التالي. لقد أدى هذا الربط إلى تغيير كبير في طريقة تقييم المدراء والمستشارين للموظفين وتدريبهم. تعبر واحدة من المستشارين عن ذلك بقولها: "إن فهم كيف يمكن لمكامن قوتي الجوهرية معالجة المجالات التي تحتاج إلى التطوير ومنحي دفعة في عملي لهو أكثر فائدة بكثير من حصر التركيز على النواحي التي تحتاج للتطوير فقط".
ساهم التدريب على الاستفادة من نقاط القوة في انخفاض بقيمة 18 نقطة مئوية في عدد كبار المدراء الذين يرون أن التقييم يركز بشدة على النواحي التي تحتاج إلى تطوير. إذ قال أحد الشركاء: "شخصياً، كانت لدي فلسفتي الخاصة بشأن كيفية تقديم التقييم، وقد بلورها برنامج التدريب المهني (AiA)". كما علقت الشريكة الرئيسة التي تقود عملية التطوير المهني في الشركة: "لقد أضفنا مفردات جديدة كلياً إلى نموذج التدريب المهني لدينا. إذ كان عنواننا القديم ’هناك ما ينقصك‘، بينما أصبحنا الآن نبحث عن روابط بين مكامن القوة والنواحي التي تحتاج للتطوير، وينعكس ذلك في جميع اتصالاتنا المكتوبة والشفهية".
الإقرار بوجوب امتلاك مجموعة أساليب فعالة للتواصل
كما هو الحال في العديد من أماكن العمل، كانت "بوسطن كونسلتينغ جروب" تعمل على نحو تقليدي باتباع قواعد التواصل الذكورية. وقبل إطلاق برنامج التدريب المهني (AiA)، أبلغت موظفات عن تلقيهن تقييمات من مدرائهن تطالبهن بأن "يكنّ أكثر حزماً" أو أن "يشغلن مساحة أكبر"، وهي نصائح اعتبرتها الكثير من النساء غير فعالة أو غير صادقة (وأحد أسباب ذلك هو أنه من الصعب على امرأة بطول خمسة أقدام فهم كيف لها أن تشغل مساحة أكبر). فأدركت الشركة أن العديد من القادة الموهوبين، والنساء منهم على وجه الخصوص، لديهم مهارات تواصل قوية تختلف عن الأسلوب الشائع، حيث يقوم أكثر القادة فعالية في التواصل بتوسيع مجموعة أساليبهم وتصميم طرقهم لتناسب من يتعاملون معهم.
يقر برنامج التدريب المهني (AiA) بأهمية نطاق التواصل وبادر بتأسيس تدريب شامل جديد يشمل تدريب الموظفين على "بناء العلاقات" و"الشعور بما حولهم". وأصبح المزيد من الرجال والنساء اليوم يعتبرون امتلاك مجموعة أساليب للتواصل أمراً ضرورياً للتعامل مع مواقف مختلفة. كما يساعد التدريب الأفراد على التعرف على المناطق التي توجد فيها ثغرات في مجموعة أساليبهم وتطوير مهارات جديدة. مثلاً، في حين كان التدريب يركز سابقاً على التعبير عن رسائل قاسية وإيصال وجهة نظر، أصبح اليوم يركز على تيسير حوارات ثنائية الاتجاه وبناء التواصل. ما زال هذا القسم من البرنامج في مراحله الأولى، ولكن الشركة شهدت فعلاً انخفاضاً بقيمة 8% في عدد الموظفين الذين يقولون أنّ نمط تواصلهم الشخصي مختلف عن نمط الموظفين الناجحين في الشركة. وقال أحد الشركاء: "أصبحت أشد حذراً كي لا أجبر الآخرين على أن يكونوا مثلي". وكذلك الأمر، قالت إحدى الشريكات: "قبل تطبيق برنامج التدريب المهني AiA، كانت الشجارات التي تقع في المراجعات المهنية جنونية. بينما الآن عندما أسمع مقولة: ’يجب أن تكون هذه الموظفة أكثر حزماً‘، أتوقف وأسأل من في الغرفة: ’ماذا لو لم ترغب هي بأن تكون أكثر حزماً؟‘".
وعند التفكير برحلتنا التي استمرت 5 أعوام في تطبيق هذا البرنامج والنتائج التي حققناها، نوصي بثلاثة إجراءات يمكن لأي شركة اتخاذها إذا كانت إدارة المواهب تحدد الميزات التنافسية فيها. وهذه الإجراءات هي:
جعل التدريب المهني مدمجاً بإنجاز المنتجات والخدمات الأساسية. تعرف على النموذج الذي يطور المواهب التي تحتاجها ويتماشى مع مجموعة موظفيك المتنوعة، وادمجه، أي اجعله جزءاً من التدريب والتطوير المهني والطريقة المتبعة في تدريب المدراء وتقييمهم. وراقب الأثر المترتب عليه، هل يشعر موظفوك بالرضا عن الأبعاد الأساسية؟ هل تتمكن من الاحتفاظ بالمزيد من أفضل المواهب؟ وليحمل فريق القيادة على عاتقه مسؤولية معالجة الأفراد والسلوكيات التي لا تتوافق مع النموذج المنشود.
امنح العلاقات الأولوية وراقبها. ابن فرصاً تسمح بتطور العلاقات وازدهارها. حفز القيادة للاستثمار في العلاقات وراقب فعاليتهم في ذلك. وفيما يتعلق بالمواهب ذات الأداء الرفيع والفئات التي لا يتم تمثيلها بما يكفي، احرص على أن يحصلوا على علاقات تعزز أداءهم على جميع المستويات. اجمع معلومات من الموظفين بشأن علاقات العمل التي يعتبرونها الأقوى لديهم، كي تضمن وجود من يدعم أهم المواهب.
شجع مكامن القوة والأساليب المتنوعة. تقول مؤسسات كثيرة أنها ترغب بموظفين يملكون خلفيات متنوعة ضمن فرقها، ولكنها في الوقت ذاته تقوم بتدريب موظفيها كي يكون سلوكهم موحداً. أما المؤسسة المتنوعة بحق التي تجني فوائد التنوع من خلال تقديم خدمات أفضل للعملاء أو الزبائن في مواقف مختلفة، فيجب عليها تثمين امتلاك مجموعة من أساليب التواصل والعمل. ويجب أن يعتمد التقييم على مكامن القوة المتباينة لدى الموظفين بدلاً من نقاط ضعفهم.
تعمل "بوسطن كونسلتينغ جروب" اليوم على نشر نموذج برنامج التدريب المهني (AiA) خارج أميركا الشمالية، آملة أن تنشره حول العالم، كما نمتلك خططاً لتقديم البرنامج للشركات الأخرى عن طريق عملنا مع عملائنا. وعلى الرغم من أنه مصمم أساساً ليركز على مسألة الفروقات بين الجنسين، إلا أنه قدم الفائدة للرجال والنساء على حد سواء مع إمكانية تطبيقه بصورة أوسع على شبكات التنوع الأخرى بما فيها الموظفين القدامى.
نحن ندرك أن هناك الكثير من العمل قبل أن نصل إلى المساواة التي نطمح إلى تحقيقها بين الجنسين. ولكن مع ذلك، تقدم تجاربنا مثالاً نادراً عن التقدم طويل الأمد في تحقيق أهدافنا فيما يخص التنوع. وتدفعنا النتائج التي توصلنا إليها حتى اليوم للتفاؤل بأن تغيير خبرة التدريب المهني اليومية أمر أساسي لتطوير رضا قوتنا العاملة وتقدمها والاحتفاظ بها.