في زمن الذكاء الاصطناعي: ما يمكن قياسه يمكن أتمتته

9 دقيقة
المجالات القابلة للقياس
يوجين ميمرن/غيتي إميدجيز

الذكاء الاصطناعي ليس بحاجة إلى تحديث يجعله مثل تكنولوجيا أفلام الخيال العلمي ليقلب الاقتصاد رأساً على عقب؛ فالنماذج الحالية والإصدارات الأقل تكلفة والأكثر قدرة قيد التنفيذ حالياً ستزعزع كل ركن من أركان سوق العمل تقريباً. من المحتمل أن الأداء المدهش لهذه التكنولوجيا في معالجة النصوص والصور ومقاطع الفيديو سيحدث تغييراً جذرياً في طرق إنجاز العمل في صفوف المبدعين من الكتاب والمصممين والمصورين والمعماريين ورسامي الرسوم المتحركة ومعلني العلامات التجارية، بالإضافة إلى مستخدمي جداول البيانات من خبراء التحليل المالي وشركات الاستشارات والمحاسبين وخبراء الضرائب. حتى المجالات المعتمدة مثل القانون والطب والأوساط الأكاديمية ستتأثر بهذه التكنولوجيا؛ إذ تتمتع بالقدرة على مراجعة كميات هائلة من المحتوى وتقديم نصائح أو دورات دراسية مخصصة بتكلفة منخفضة جداً، وبجودة تقترب بسرعة من الجودة المطلوبة.

هناك تساؤلات مهمة حول الكفاءة القصوى المحتملة لأدوات الذكاء الاصطناعي، والزمن اللازم حتى تصل إليها. يزعم كل من الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبك، داريو أمودي والرئيس التنفيذي لشركة أوبن أيه آي، سام ألتمان أن الذكاء الاصطناعي العام قد يصبح واقعاً بعد عام أو عامين فقط. أما نائب رئيس شركة ميتا، يان لو كون، فهو أكثر تشككاً؛ إذ يجادل بأن النماذج الحالية تفتقر إلى الفهم المادي الراسخ والذاكرة الدائمة والتفكير المتماسك والاستشراف الاستراتيجي، ومؤخراً نشرت شركة آبل بحثاً جديداً تزعم فيه أن النماذج الحالية تؤدي المهام في حدود البيانات التي تدربت باستخدامها فقط. مع ذلك، حتى لو توقف التقدم غداً، فإن الزعزعة حدثت بالفعل.

للتعامل مع هذا المشهد الجديد، يجب أن يفهم القادة تأثير الأتمتة في أعمالهم ويخططوا له. يتطلب ذلك فهم المهام والمسؤوليات التي من المرجح أن تؤتمت ووضع خطة لجعل مؤسساتهم تستفيد من قيمة الذكاء الاصطناعي قبل فوات الأوان.

ما هي المهام التي لن يؤتمتها الذكاء الاصطناعي؟

خاض الباحثون الأكاديميون والممارسون نقاشات عميقة حول الوظائف والمهام الأكثر عرضة للأتمتة. هناك بعض التهديدات الواضحة، مثل السيارات الذاتية القيادة التي قد تحل قريباً محل ملايين سائقي النقل التشاركي والحافلات والشاحنات. في الوقت نفسه، يتولى الذكاء الاصطناعي الآن مهام الترجمة اللغوية والعديد من المهام في مجالات الكتابة الإبداعية والتصميم وحتى الترميز البرمجي البسيط.

في فبراير/شباط 2025، شاركت شركة أنثروبك إحصائية مستخدمين مهمة تبين أنه على الرغم من أن أسلوب الدردشة يحفز المستخدمين على التفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي باعتبارها أدوات تعزز قدرات البشر، فإن 43% من التفاعلات مثلت نوعاً من أنواع الأتمتة، يطلب ضمنه المستخدمون من أداة الذكاء الاصطناعي أداء مهمة مباشرة بدلاً من مساعدتهم على أدائها بأنفسهم وإعادة التفكير فيها. ستستمر هذه النسبة في الارتفاع مع دخول وكلاء الذكاء الاصطناعي التجميعيين في القوى العاملة، وهي أدوات قادرة على تبادل البيانات وتنسيق المهام من خلال بروتوكولات مثل بروتوكول السياق المعياري (إم سي بي). المجالات التي يمكن قياسها أو ترميزها بدرجة مرتفعة، سواء من خلال التشريعات أو القوانين الضريبية أو بروتوكولات الامتثال أو تدفقات بيانات أجهزة الاستشعار، هي الأكثر عرضة للأتمتة على المدى القريب.

جادل رواد أبحاث الذكاء الاصطناعي أجاي أغراوال وجوشوا غانز وآفي غولدفارب عام 2018 بأنه مع تقدم الذكاء الاصطناعي، المجال الوحيد الذي سيتمتع فيه البشر بالأفضلية هو مجال إطلاق الأحكام؛ أي القدرة على تقييم الخيارات واتخاذ القرارات في ظل الظروف التي يسودها عدم اليقين. مع ذلك، فإن هذه الرؤيا تضعنا أمام مهمة مستحيلة، وهي تمييز الأحكام تبعاً للموقف بدقة.

قد يتولى الذكاء الاصطناعي قريباً المهام التي تتطلب الحكم البشري، مثل اختيار علاج طبي أو مراجعة عقد قانوني أو تأليف نص لفيلم متوافق مع روح العصر، بينما تزداد قدرة النماذج على الحوسبة ومعالجة بيانات أكثر ثراء. يبين بحث جديد أنه لا يمكننا أيضاً أن نفترض أن الناس سيفضلون دائماً الاستعانة بالمعالجين والمستشارين والوسطاء من البشر؛ إذ إن أدوات الذكاء الاصطناعي تعمل على مدار الساعة وبتكلفة أقل بكثير، كما أن أداءها متماسك أكثر، باستثناء بعض البشر المميزين.

إذاً، كيف يمكننا التمييز بين المهام التي سيؤديها الذكاء الاصطناعي وتلك التي ستتطلب ابتكارات تكنولوجية جديدة لفعل ذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نراجع المبادئ الرئيسية ونعيد النظر في نشأة الذكاء الاصطناعي.

من مسابقة مختبرية إلى ثورة في التصنيع

في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، لاحظت عالمة الكمبيوتر في-في لي أن مجال الرؤية الحاسوبية، الذي يركز على منح أجهزة الكمبيوتر القدرة على رؤية الصور وتفسيرها، يعاني معوقاً كبيراً؛ إذ إن الخوارزميات لم تكن تتلقى ما يكفي من البيانات البصرية (البيكسلات) ليصبح أداؤها قريباً من أداء البشر. كان الحل الذي ابتكرته شاملاً على نحو محفز؛ إذ صممت قاعدة بيانات إميدج نت، التي تضم مجموعة ضخمة من الصور الموسومة بدقة جمعتها باستخدام منصة ميكانيكال تورك من أمازون. لكن إنجاز في-في العبقري جاء عام 2010، عندما أضافت لوحة تصنيف عالمية إلى مجموعة البيانات هذه، محولة مجال التعرف على الصور إلى مسابقة شرسة بين الباحثين.

كان التقدم في هذا المجال بطيئاً وصعباً على مدى سنتين.

لكن عام 2012، سحق كل من أليكس كريجفسكي وإيليا سوتسكيفر وجيفري هينتون المنافسين؛ إذ نجحوا في استخدام بطاقتي رسوميات جاهزتين من طراز جي تي إكس 580 من شركة إنفيديا لتدريب شبكة عصبية التفافية ثورية في غضون أيام قليلة، وهو نهج رائد أثبت أنه بالإمكان إحداث ثورة في مجال الرؤية الحاسوبية بميزانية منخفضة جداً.

أزال هذا الإنجاز المعوق الأكبر الذي وقف في طريق الذكاء الاصطناعي على مدى عقود، وجعل الشبكات العصبية مكوناً أساسياً لإحراز التقدم، كما أنه كشف القواعد الأساسية التي لا يزال الباحثون في هذا المجال يتبعونها حتى الآن. هذه القواعد ثلاثة، وهي جمع البيانات ذات الصلة (نحو 14 مليون صورة موسومة في مجموعة إميدج نت)، ثم استخدام المقاييس لقياس التقدم ودفعه، وأخيراً، إدخال كمية هائلة من البيانات إلى النموذج وتزويده بعدد كبير من وحدات معالجة الرسوميات حتى يعلم نفسه بنفسه. هذه هي الطريقة التي مكنت الذكاء الاصطناعي من الانتقال من تصنيف الأشياء إلى كتابة النثر بطلاقة، ومؤخراً إلى التفكير والتخطيط واستخدام الأدوات الخارجية في الأنظمة "المفكرة" الناشئة اليوم.

البيانات والنتائج الناجحة والحساب

إطار العمل الذي أدى إلى الابتكار في مجال التعرف على الصور أعم بكثير مما يدركه معظم الناس؛ إذ إنه قابل للاستخدام في أي حالة نستطيع فيها أ) تحديد الوسط الخاص بالمهمة وجمع البيانات ذات الصلة، سواء كانت مجموعة من النصوص أو الصور ومقاطع الفيديو أو المسافات المقطوعة الموثقة في أثناء القيادة أو البث التدفقي من الروبوتات، وب) تحديد النتيجة الناجحة المستهدفة، سواء كانت صريحة ("قدرة النموذج على التنبؤ بالكلمة التالية في الجملة") أو ضمنية (سلوك المستخدم يوحي بجودة الرد)، وج) توفير القدرة الحاسوبية التي تتيح للنظام تكرار العملية.

إذا توافرت هذه الشروط الثلاثة، فهي تمكننا من تصميم محرك أتمتة للأغراض العامة. هناك اتجاهان متعلقان بالبيانات يسرعان التقدم في هذا المجال. أولاً، تستطيع النماذج توليد أمثلة اصطناعية لا حصر لها، مثل "المسافات المقطوعة" الافتراضية التي تغطي كل سيناريو مهما كان نادراً بدلاً من الاعتماد على البيانات المستخلصة من السائقين. ثانياً، يستخدم البشر الآن الذكاء الاصطناعي في مجموعة متنوعة من الأجهزة والمستشعرات على نحو متزايد (مثل الهواتف والسيارات وغيرها) على أنه ماسح منخفض التكلفة؛ إذ إنه يجمع الإشارات الواقعية التي كان قياسها باهظ الثمن أو غير عملي ويقيسها.

إذا كان بإمكانك تمثيل ظاهرة ما بالأرقام، فالذكاء الاصطناعي قادر على تعلمها وإعادة إنتاجها على نطاق واسع، كما أن التكنولوجيا تستمر في خفض تكلفة عملية التمثيل هذه، ما يجعل القياس أسرع وأقل تكلفة وقابلاً للتطبيق في أي مجال. مع ازدياد عدد الظواهر القابلة للقياس، يمكننا تكرار هذه العملية، ويستمر نموذج الذكاء الاصطناعي في إعادة التوليد. يعني ذلك أن أي وظيفة قابلة للقياس قابلة للأتمتة من الناحية النظرية.

قياس أرخص من أن نفوتره

تعطينا الدراسة التاريخية التي أجراها الخبير الاقتصادي زفي غريليشس عام 1957 عن تبني زراعة الذرة الهجينة نظرة ثاقبة لما سيحدث في المستقبل. زرع المزارعون هذه البذور المرتفعة التكلفة أولاً في أعلى الأراضي جودة فقط (أي التي يغطي الارتفاع في المحصول المستخرج منها التكلفة الإضافية ويوفر الوقت مقابل الوقت المستهلك في تعلم استخدام منتج جديد). مع ازدياد جودة البذور الهجينة وشهرتها، تجاوزت الفوائد التكاليف بسرعة حتى في الأراضي ذات هامش الربح المنخفض. في مجال الذكاء الاصطناعي، يتمتع منحنى مردود الاستثمار في قياس الظواهر بالشكل نفسه. في الحالات التي يكون فيها تمثيل بالبيانات مكلفاً، تميل الشركات إلى الاستثمار فقط في المجالات الأكثر ربحية (مثل كشف الاحتيال في بطاقات الائتمان وخلق السوق الخوارزمية والتنبؤ بحالات فشل المحركات النفاثة).

لكن الذكاء الاصطناعي الآن يخفض تكلفة عملية القياس الدقيقة، جاعلاً الاستشعار المستمر والدقيق هو القاعدة. تعمل النماذج البسيطة إلى جانب أجهزة الاستشعار وتخفض عرض نطاق تردد البيانات وزمن الكمون، بينما تملأ البيانات الاصطناعية الفجوات عندما يكون القياس في العالم الحقيقي بطيئاً أو صعباً. يؤتي كل ازدياد ضئيل في دقة عملية القياس ثماره بسرعة؛ إذ سرعان ما يتراكم أثر خفض الأخطاء الناجم عن ملايين القرارات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي مهما كان ضئيلاً. وكلما أصبح القياس الدقيق أقل تكلفة، أصبحت العوائد مهما كانت ضئيلة تحتسب وتعتبر مجدية اقتصادياً، وتدخل المهام التي كانت أقل أهمية من أن نقيسها سابقاً إلى مجال الأتمتة.

قد لا نحصل قريباً فقط على أدوات ذكية منخفضة التكلفة لدرجة أن يصبح تقاضي المال لقاء استخدامها غير ضروري، بل سنتمكن من قياس عدد أكبر بكثير من الظواهر لتوسيع نطاق هذه الأدوات وتطويرها. نحن نعيش بالفعل في عصر "ذكاء المقاييس الاصطناعي"، الذي يحكم على أي ظاهرة قابلة للقياس فيه بالأتمتة.

الازدهار على الرغم من الجهل

البشر خبراء غير متخصصين في التطور بطبيعتهم، وتمكنوا من البقاء في ظروف يجهلون فيها الكثير. نحن لا نستطيع البقاء على الرغم من أننا نجهل ما نجهل فقط، بل نزدهر على الرغم من أننا نجهل ما نجهل، وهذه القدرة على التكيف هي ما يميزنا. تكيفت أدمغة البشر الاجتماعية وحبالهم الصوتية على مدى أجيال لا حصر لها حتى ظهرت اللغة، ما فتح المجال لمراكمة المعارف وظهور التفكير المجرد والأفكار الرمزية. بعد ذلك، تجاوزنا حدودنا البيولوجية وصنعنا أدوات عززت حواسنا ووسعت ذاكرتنا وضاعفت قدراتنا.

لكن أساس تفوقنا هو قشرة الجبهة الأمامية الشديدة المرونة والكثافة التي نتمتع بها. يتيح لنا مركز القيادة العصبية هذا التفكير بعدد لا يحصى من السيناريوهات المحتملة والتحضير لحالات بديلة وتغيير الاستراتيجيات التي نتبعها في اللحظة التي تتغير فيها الظروف. ليس من المبالغة أن نصف هذه القدرة بأنها معجزة؛ إذ إن الآلات الكمومية نفسها تواجه صعوبة لمواكبة موهبتنا في التخطيط غير المحدود والمتعدد المجالات.

بينما يسرع الذكاء الاصطناعي التقدم، فإنه يخلق المزيد من الجوانب المجهولة التي لا نعلم حتى أننا نجهلها، ما يفرض علينا إعادة النظر في كل شيء. في الوقت نفسه، تجعل هذه التكنولوجيا العمليات القابلة للتنبؤ روتينية، مثلما حررتنا الزراعة الآلية من حياة الكفاف، ما يمكننا من استخدام قدراتنا العقلية الفريدة للتفكير في مسائل أعمق.

سيواجه الذكاء الاصطناعي صعوبات أيضاً في المجالات التي يكون فيها القياس شبه مستحيل. على سبيل المثال، تطلب التقاط صورة واحدة لثقب أسود باستخدام تلسكوب إيفنت هورايزن جهداً عالمياً استغرق عقداً من الزمن، وهناك مسائل غير محلولة بعد في مجالات مثل فيزياء المقاييس المتطرفة وجيولوجيا الوشاح العميق للأرض ومحيطاتها السحيقة والتفاعلات الخلوية الحية داخل الدماغ البشري. ستكون هذه التكنولوجيا قاصرة أيضاً في المجالات التي يكون فيها القياس مقيداً باعتبارات الخصوصية والأخلاقيات والقوانين؛ أي التي يطالب فيها البشر بتبريرات واضحة، وذلك على الأقل حتى تزيد قابلية تفسير النماذج، وفي الحالات التي يفضل فيها البشر التعامل مع البشر الآخرين. مع ذلك، كما حدث عند تبني الذرة الهجينة، ستستمر الأجيال القادمة في إعادة النظر في عملية حساب التكلفة والفائدة في كل مجال يكون فيه الذكاء الاصطناعي قاصراً، وربما سيتوصل البشر في المستقبل إلى استنتاجات مختلفة تماماً عن استنتاجاتنا.

هناك ظاهرة واحدة غير قابلة للقياس قد تكون حاسمة، وهي المهام التي نعجز عن قياسها لأن احتمالات نتائجها غير معروفة بالمطلق، وتندرج تحت تصنيف نايت لحالات عدم اليقين (نسبة للاقتصادي الأميركي فرانك نايت) التي لا نستطيع فيها حتى تحديد الاحتمالات لأن المخاطر نفسها غير محددة. على سبيل المثال، الحالات مثل توسع الشركات الناشئة وتخصيص رأس المال الاستثماري في مشروعات غير مضمونة إلى حد كبير واحتواء عامل ممرض جديد ووضع سياسة لبنك مركزي خلال فترة تحول في النظام المالي وصياغة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي واختراع وسيلة فنية جديدة وإشعال صيحة موضة جديدة وإنتاج فيلم جديد يحدث ثورة في مجاله الفني، كلها غير قابلة للتنبؤ. بعض الإنجازات والاكتشافات الإبداعية لا يعدو أن يكون مجرد إعادة تركيب ذكية لما هو مألوف، لكن الإنجازات الطموحة حقاً تعتمد على قدرتنا الفريدة على تصور عوالم جديدة ومعقدة لا تتوافق مع واقعنا.

قائمة المهام القابلة للأتمتة متغيرة؛ إذ إن المهام التي نتمكن من قياسها ستصبح قابلة للأتمتة مباشرة، بينما تظهر مهام جديدة بالسرعة نفسها. يفرض كل تحول الحاجة إلى إجراء تعديلات اقتصادية واجتماعية مكلفة، ما يزيد العمل المطلوب في الاقتصاد الذي يهيمن عليه الأفراد المميزون ويركز المكافآت الضخمة في المجالات التي تتطلب الحد الأعلى من الإبداع والموهبة ورأس المال. مع ذلك، يقدم الذكاء الاصطناعي هبة تبدو وكأنها مفارقة؛ إذ إنه يجعل التعليم متاحاً للجميع ويؤدي دوراً مساعداً للجميع، كما أنه يوفر لعدد من الناس أكبر من أي وقت مضى الأدوات اللازمة للوصول إلى هذا الحد الأعلى. ستستمر الوظائف نفسها في التطور، وأي اختراق يحول المجهول إلى ظاهرة قابلة للقياس سيتوسع ويقلد بسرعة هائلة.

بالنسبة للقادة الذين يقودون مؤسساتهم خلال فترة التحول المضطربة هذه، ما هي المجالات التي لن تدخل مجالات الأتمتة؟ هي المجالات التي لا يمكن تمثيلها بالبيانات، مثل المهارات غير القابلة للقياس والمشكلات الجديدة غير المحددة والأشياء غير الملموسة مثل الثقة والذوق ونواحي الجودة والخبرة الدقيقة، كما أن عليهم الاقتناع بالمضي قدماً حتى عندما تبين المقاييس أنه عليهم التوقف. إذا تعاملت مع المجالات التي يمكنك قياسها فقط، فستتخلى عن المجالات القيمة التي قد يتمكن منافسوك من الاستفادة منها. أثبت مهندس الصوت والكهرباء الذي أسس شركة بوز، أمار بوز، هذه النقطة؛ فبينما كان الآخرون محصورين بأرقام جداول المواصفات، ركز هو على انطباع الناس عن الموسيقى في الواقع، وهي سمة لا يستطيع أي مقياس حالي قياسها، ما مكنه من إحداث ثورة في قطاع الصوتيات.

الآلية التي يجب تطبيقها اليوم فيما يتعلق بالتوجه واضحة؛ إذ عليك أن تدعم المشروعات غير المتوقعة ذات العوائد غير الواضحة على الاستثمار، وتكافئ الفرق التي تعيد صياغة المشكلات وتعتمد على العوامل المجهولة، كما عليك إعادة توزيع أصحاب المواهب على أدوار يضطرون فيها للتعامل مع حالات عدم اليقين في مختلف الأقسام، من البحث والتطوير والأسواق الجديدة إلى التفاعلات المعقدة مع العملاء والشركاء والسياسات. خصص وقتاً للراحة ونسق اجتماعات بين الفرق لإعادة تركيب الأفكار وزيادة احتمال الاكتشافات غير المخطط لها المفيدة. لا تتعامل مع نواحي الغموض المخطط له هذه على أنها مسؤوليات، بل تعامل معها على أنها أصول استراتيجية.

القادة الذين ينتبهون إلى المجالات القابلة للقياس، والأهم من ذلك، المجالات غير القابلة للقياس، هم الذين سيكونون مؤهلين للنجاح عندما يحدث التحول التالي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي