هرول يوسف عائداً إلى مكتبه وكلماته الغاضبة ما زالت تتردد في ذهنه، وكأنه يسمع صداها. قبل بضع دقائق فقط، وبّخ يوسف أحد مسؤولي المنتج علناً بعد فشل نتائج اختبار الجودة، واصفاً إياه بـ"عديم الكفاءة" و"المخزي" أمام الفريق بأكمله. والأسوأ من ذلك أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يفقد فيها يوسف السيطرة على أعصابه بهذه الطريقة المُبالغ فيها، حتى أصبح نمطه المتكرر من نوبات الغضب الحادة التي تتبعها حالة من الندم ومحاولة التكفير عن سلوكه التعسفي مألوفاً جداً لزملائه الذين غالباً ما يتساءلون عن الوجه الذي سيُظهِره لهم في ذلك اليوم؛ هل سيُظهِر لهم "وجه يوسف الطيب" أم "وجه يوسف الشرير"؟
عندما انهار يوسف على كرسيه، بدأ الشعور بالذنب يتسلل إليه. تمتم في سرّه: "سأعوّضه"، محاولاً إقناع نفسه بأنه يستطيع محو الضرر الناجم عن غضبه من خلال التصرف بلطف وإنصاف خلال الأيام المقبلة، بيد أنه لم يكن يدرك أنه كان يلعب لعبة خطرة؛ إذ كانت المخاطر أعلى بكثير مما كان يتصور فيما يتعلق بأداء فريقه. على الرغم من التصورات السائدة والأبحاث الحالية التي تدعم في أغلب الأحيان فكرة أن المدراء بمقدورهم محو آثار السلوك التعسفي من خلال اتباع سلوكيات أخلاقية لاحقاً، فثمة دراسة حديثة توصلت إلى نتيجة مختلفة تماماً مفادها أن أداء الموظف يتأثر بتذبذب القادة بين سلوكيات تعسفية وأخرى أخلاقية أكثر من تأثره بالتعسف وحده؛ إذ يؤدي هذا الأسلوب الدال على ازدواج شخصية القائد إلى تفاقم الحيرة والإرهاق العاطفي والغموض والتعب النفسي بين الموظفين، ما يُضعِف قدرتهم على أداء واجباتهم بفعالية ويقلل استعدادهم للانخراط في السلوكيات المؤسسية المهمة الدالة على الانتماء (مثل مساعدة زملاء العمل)، ويزيد احتمالية انخراطهم في السلوكيات المذمومة التي تضر بالعمل (مثل سرقة اللوازم المكتبية).
ما توصلت إليه الأبحاث حول ازدواج شخصية القادة
أردنا استكشاف أثر ازدواج شخصية القائد الذي يتذبذب بين الأسلوب القيادي التعسفي والأسلوب القيادي الأخلاقي بمرور الوقت (أي ممارسة أساليب قيادية تعسفية وأخلاقية في آنٍ معاً)؛ فأجرينا مؤخراً 3 دراسات شملت أكثر من 650 موظفاً بدوام كامل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة باستخدام كلٍّ من البيانات الاستقصائية والتجريبية. وقد نُشرت النتائج التي توصلنا إليها في مجلة علم النفس التطبيقي (Journal of Applied Psychology). تعبّر السلوكيات التعسفية في هذا البحث، أي التصرفات العدائية الصادرة عن القائد سواء كانت لفظية أو غير لفظية، عن الظلم القيادي. وعلى النقيض من ذلك، فالقيادة الأخلاقية تجسِّد العدالة القيادية من خلال المعاملة المُنصفة وتعزيز السلوك اللائق. وعلى الرغم من استبعاد صدور هذه التصرفات المتناقضة عن القائد ذاته، فثمة أدلة تشير إلى إمكانية تذبذبه بين هذه السلوكيات العادلة وغير العادلة في تفاعلاته مع الموظفين في أوقات ومواقف مختلفة. على سبيل المثال، قد يصدر عن القائد سلوك تعسفي تجاه أحد موظفيه عند ارتكابه أخطاء في مشروع يتولى مسؤولية تنفيذه، لكنه يُظهِر اهتمامه بهذا الموظف في اليوم التالي. قد يبدو هذا التناقض مقبولاً على المدى المنظور، إلا أن تكرار التذبذب بين هذه السلوكيات له عواقب وخيمة، وهو ما ركَّز عليه بحثنا.
من المؤكد أن التعسف سيئ في حد ذاته، ولكن يمكن للموظفين على الأقل توقع تصرفات القائد الذي يسيء إليهم باستمرار، وبالتالي إما يحاولون تجنبه أو التفاعل معه بأساليب تتيح لهم حماية أنفسهم ورفاهتهم؛ بيد أن تذبذب القائد بين السلوكيات التعسفية والأخلاقية يُزيد من عدم يقين موظفيه بشأن سلوكه المستقبلي، ما يؤدي إلى إصابة الموظفين بالإعياء العاطفي وتراجع الأداء المهني.
بالإضافة إلى ذلك، فهذه الآثار السلبية التي تعود بالضرر على أداء الموظف تُعدّ شديدة الوضوح حتى لو لم يكن هو شخصياً هدفاً لهذا السلوك القيادي غير المتسق؛ فعندما يعلم الموظفون أن المدراء ذوي المناصب الأعلى يبدون تجاه مشرفيهم المباشرين سلوكاً متعسفاً تارة وسلوكيات قيادية أخلاقية تارة أخرى، يساورهم الشك في قدرة هؤلاء المشرفين على أن يكونوا حلقة وصل فعالة بين الفريق والمدراء رفيعي المستوى. وهكذا يشك الموظف في قدرة مشرفيه على تمثيل الفريق والتأثير في المدراء رفيعي المستوى (مثل تأمين الموارد المهمة)، ما يؤدي إلى تراجع حافزه للأداء والإسهام في نجاح الفريق؛ فقد أثبتت أبحاثنا أن تذبذب مسؤولي الإدارة العليا بين السلوك القيادي الأخلاقي والسلوك التعسفي تجاه المشرف الذي يعمل تحت رئاستهم المباشرة يؤدي إلى خلق حالة من عدم اليقين لدى مرؤوسي هذا المشرف حول قدراته تفوق ما يحدث لو تعرّض للتعسف فقط من جانب المدراء رفيعي المستوى.
الحد من انتشار السلوك التعسفي
الرسالة الأساسية هنا واضحة كالشمس: لا يستطيع السلوك القيادي الأخلاقي حماية الموظفين من الآثار السلبية الناتجة عن السلوكيات التعسفية الصادرة عن المدير أو المشرف، بل إنه قد يزيد الطين بلة. في ضوء هذه النتائج، ما الذي يمكن أن يفعله القادة والمؤسسات والموظفون للحد من انتشار السلوك القيادي التعسفي؟
نقترح على القادة من أمثال يوسف تجنب أي سلوكيات تعسفية في المستقبل أو إعادة النظر في فوائد محاولة تحسين سمعته بعد تصرفاته التعسفية المتكررة. على القادة أن يدركوا أن محاولات محو آثار سلوك سلبي اتبعوه في السابق من خلال حُسن معاملة مرؤوسيهم، دون التخلص تماماً ونهائياً من السلوكيات التعسفية في المستقبل، تأتي بنتائج عكسية تؤدي إلى تفاقم الوضع بدلاً من تحسينه. لا سبيل أمام القائد سوى الاتساق في السلوكيات القيادية الإيجابية والعادلة، وبما أن السلوكيات القيادية غير العادلة تنبع في كثير من الأحيان من ضعف القدرة على التحكم في الانفعالات العاطفية، فثمة أساليب، مثل اليقظة الذهنية وإدارة الضغوط والاستراتيجيات السلوكية المعرفية، بمقدورها مساعدة القادة على التحكم في انفعالاتهم العاطفية على نحو أفضل، وبالتالي منع حدوث الإشراف التعسّفي، خاصة في المواقف الحافلة بالضغوط.
وعلى المؤسسات استخدام أدوات الموارد البشرية المتاحة كلها، مثل التدريب وحُسن الاختيار والمكافآت والإجراءات التأديبية، لمعالجة ازدواج شخصية القائد. يجب أن يتلقى القادة على مختلف المستويات الإدارية تدريباً على الضبط الذاتي الفعّال لمنع السلوك التعسفي الذي قد يحدث بعد تصرفاتهم الأخلاقية، أو العكس. بالإضافة إلى ذلك، فاختيار أفراد يتمتعون بالقدرة على ضبط النفس والثبات الانفعالي يساعد على ضمان السلوك القيادي المتسق والعادل. على المؤسسات أيضاً إنشاء قنوات للموظفين للإبلاغ عن السلوك التعسفي وأن تكون لديها قواعد واضحة لمحاسبة القادة على تصرفاتهم. وعلى المؤسسات اعتماد سياسات عدم التسامح مطلقاً مع السلوك التعسفي، مع اتباع قواعد فعالة للتعامل مع مثل هذه الحالات لضمان سلامة موظفيها ورفاهتهم.
أخيراً، على الرغم من أن القادة ومسؤولي المؤسسات يتحملون نصيب الأسد من مسؤولية منع ازدواج شخصية القائد، فإن الموظفين يؤدون دوراً مهماً أيضاً في هذا السياق. قد يعتقد بعض القادة أن حُسن المعاملة يمحو أثر السلوك العدائي، ما يؤدي إلى تكرار السلوك الدال على ازدواج شخصياتهم. من المهم في مثل هذه الحالات أن يعالج الموظفون مخاوفهم وعدم ارتياحهم في التعامل مع القائد من خلال التواصل المفتوح والصادق. ففي حين يشير بعض الأبحاث إلى أن إبلاغ الموظفين مباشرة عن انزعاجهم من سلوكيات قائدهم يخفف من محنتهم، ثمة سبب أيضاً للاعتقاد بأن القائد سينتقم منهم، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلة. وإذا انتقم القائد منهم أو لم يعدل سلوكه بعد هذه المحادثات، فعلى الموظفين تصعيد المشكلة إلى قسم الموارد البشرية أو القيادة العليا، بل وبإمكانهم أن يطالبوا بتغيير القيادة. وإذا أثبتت هذه التدابير عدم جدواها، فمن الضروري أن يفكر الموظفون في الاستقالة من المؤسسة حفاظاً على رفاهتهم وفرص نجاحهم في المستقبل.
خلاصة القول: لا تعتمد القيادة الفعّالة على محاولة الموازنة بين الصواب والخطأ، بل تتعلق ببناء الثقة من خلال الالتزام الدائم بالثبات والاتساق. وعندما يحاول القادة محو آثار الإجراءات التعسفية باتخاذ أخرى أخلاقية، فإنهم يخاطرون بتعميق انعدام الثقة والإضرار بفرقهم ومؤسساتهم على نحو قد يكون ذا أثر طويل الأمد وواسع النطاق. وإن أراد القائد أن يكون مديراً فعالاً، فعليه أن يلتزم بالمبادئ الأخلاقية والإنصاف والعدالة باستمرار، علماً بأن مَن يجسّدون هذه الاستمرارية في السلوك هم وحدهم مَن ينجحون في الأدوار القيادية ويستطيعون تكوين فريق من الموظفين ذوي الأداء المتميز على المدى البعيد.