على الرغم من أن الحلم والابتكار أتاحا لي حرية التفكير والتصور بلا حدود، فإنهما قيداني في بعض الأحيان، يتمثل أحد أكثر القيود غير المتوقعة في فقدان جزء من هويتي. بمجرد أن تلاشى الحماس الذي شعرت به عند مغادرتي شركة ذات اسم تجاري مشهور، بدأت أدرك أنني لم أعد أستطيع أن أعرّف بنفسي عندما أتصل بشخص ما بقول: “ويتني جونسون، من شركة ميريل لينش”؛ أصبح اسمي ويتني جونسون فقط، وعدت إلى القلق بشأن تأمين لقمة العيش وأنا أخوض رحلة العمل الريادي ذي الدخل المعدوم.

لا بد أن ثمة عدالة كونية في خضم هذه الأحداث؛ كنت أتحدث لسنوات طويلة عن أهمية تأسيس عمل تجاري مستقل دون الحاجة إلى موارد مالية خارجية، لكن لم تكن لدي أي فكرة عن مواجهة القيود المالية والتحديات التي تتطلب التقشف. بعد مرور عقد من الزمن تقريباً، وجدت نفسي معجبة بالقيود. إذا كنت تشعر مثلي بالتردد في التعامل مع القيود واتخاذ خطوات جديدة، فعليك التفكير في النقاط التالية:

تؤدي قلة الموارد إلى التقارب بين الأفراد، ما يسهم في تعزيز التعاون والابتكار

عندما كنت أعمل في شركة كبيرة في شارع وول ستريت (Wall Street)، كانت عائلتنا تعيش في منزل كبير جداً، فكانت حياة كل منا منعزلة تماماً عن الآخرين ولم يكن بيننا أي تفاعل اجتماعي. عندما قررت ترك وظيفتي لأصبح رائدة أعمال، انتقلنا إلى منزل أصغر حجماً تعادل مساحته ربع مساحة المنزل السابق. أحياناً، كنت أشعر بالحزن والحنين للمنزل السابق في ظل عدم وجود مساحة كافية للترفيه في المنزل الجديد، لكن في معظم الأيام، كنت أشعر بالسعادة في هذه المساحة الصغيرة التي تجعل التواصل بين أفراد العائلة أكثر حميمية. كنا نصطدم بعضنا ببعض بسبب ضيق المساحة، ونتفاوض حول مكان جلوس كل شخص وتوزيع المهام المنزلية مثل غسل الأطباق، بالإضافة إلى تحديد ما يمكن مشاهدته على التلفاز. يمكن أن يؤدي هذا التقارب إلى التوتر بين أفراد العائلة، ولكن يمكن أن يكون أيضاً مصدراً للدفء والانسجام بينهم.

يمكن أن يكون التقارب في مكان العمل مفيداً بالقدر نفسه. افتتحت شركة التكنولوجيا العملاقة أدوبي (Adobe) مبنى جديداً مذهلاً في مدينة ليهاي بولاية يوتا، بتصميم يهدف إلى تشجيع التعاون والابتكار العفوي والمنظم بين موظفيها. تبلغ نسبة مساحة العمل الداخلية المفتوحة 85% فقط، وتشغل المكاتب 15% من المساحة فقط. يتضمن المبنى ملعباً كاملاً لكرة السلة ومناطق واسعة للياقة البدنية وطاولات بلياردو ومقهى ومنطقة لتناول الطعام والاسترخاء، كل ذلك لتشجيع الموظفين على التواصل والتفاعل فيما بينهم. تأمل شركة أدوبي أن يلتقي الموظفون بعضهم ببعض أكثر بإخراجهم من المكاتب، ما يؤدي إلى توليد أفكار وحلول بطريقة عفوية وتلقائية.

غالباً، تتولد روح التعاون المباشر والسريع عندما يضطر الأشخاص، الذين يفتقرون إلى السيولة النقدية أو الموارد اللازمة (مثل الموظفين الشباب ورواد الأعمال المؤسسات غير الربحية)، إلى التفاوض ومعرفة ما يمكنهم تقديمه وما يحتاجون إليه من الآخرين لتوفير الموارد المطلوبة لتحقيق الأهداف. أعتقد أن هذا النوع من التفاوض يعزز التفاعل والمشاركة بطريقة أعمق مقارنة باستخدام المال. غالباً، لا نكون مستعدين للتواصل الاجتماعي أو الاقتراب من الآخرين ما لم تجبرنا ضرورة مُلحة على ذلك، وإذا كنت ترغب في تكوين علاقات مفيدة تؤدي إلى تعاون وابتكار مثمرَين، فاحرص على توفير المجال لمزيد من التفاعلات المباشرة مع الآخرين.

القيود تؤدي إلى ردود فعل أسرع

يمكن للقيود في الحياة، سواء تعلقت بالمساحة أو الوقت أو المال أو الموارد الأخرى، أن تحسن قدرتنا على التكيّف وتعزز سرعة استجابتنا العقلية للتوصل إلى حلول إبداعية للتحديات التي نواجهها. يعتقد الكاتب دانيال كويل أن ممارسي رياضة التزلج هم أسرع المتعلمين في العالم، لأنهم يتلقون ردود فعل سريعة ومفيدة جداً؛ كل حركة أوخطوة يخطونها لها نتائج فورية. بالإضافة إلى ذلك، يعمل العديد من المدربين في مختلف الألعاب الرياضية (مثل كرة القدم والسباحة والبيسبول)، على تقليص المساحة التي يتدرب فيها الرياضيون لزيادة عدد التمارين وتحسين ردود الفعل. عندما لا يتوافر لنا الوقت للتفكير والتخطيط لتجنب الفشل، يصبح الابتكار ضرورة.

من الأمثلة القوية على ذلك في عالم الأعمال هو شركة ليت موتورز (Lit Motors)؛ موّل مؤسس الشركة الناشئة، دانيال كيم، مشروعه لصنع سيارة كهربائية عن طريق طلبات الحجز المسبّق بدلاً من اللجوء إلى جمع التمويل من شركات رؤوس الأموال المغامرة، متبعاً منهجية “الشركة الناشئة الرشيقة” (Lean Start-up methodology) التي طرحها الكاتب ورائد الأعمال، إريك ريس. بعد امتلاكها نموذجاً أولياً مكتملاً، أثبتت شركة ليت موتورز قوة القيود المالية: يقول كيم في مقابلة حديثة مع مجلة ذي أتلانتيك (The Atlantic): “على الرغم من أن شركة تيسلا استثمرت نحو 7 ملايين دولار لتحقيق التقدم في تكنولوجيا السيارات الكهربائية، فإن شركة ليت موتورز استثمرت 780,000 دولار فقط لتحقق التقدم نفسه بتكاليف أقل، كنا مبدعين جداً في استثمار الموارد”. من الواضح أن كيم اضطر إلى اتخاذ قرارات ذكية للحفاظ على تكاليف شركته الناشئة منخفضة، لذلك يتوق المستثمرون إلى التعاون معه. بغض النظر عن الموارد المحدودة التي نمتلكها والقيود التي نواجهها، فالاستعداد للعمل معها قد يكون العامل الحاسم لإطلاق أفكار مبتكرة وتطبيقها على أرض الواقع.

يمكن أن تكون القيود أداة لا غنى عنها في عملية الإبداع

أنا أحب الكتابة، أو بالأحرى، أحب ما أكتبه عندما أنتهي من الكتابة؛ عملية الكتابة هي تحدٍ عقلي يتطلب جهداً كبيراً، لذلك، يمكن أن يعاني الكاتب بعض الصعوبات ويتعرض للإحباط أحياناً، وهذا طبيعي، لكن تصبح عملية الكتابة أسهل وأكثر إثارة للحماس عندما يقول لك شخص ما: “إليك هذا الموضوع، اكتب الآن”، كما حدث معي عندما طلب مني أحد المحررين كتابة مقال كان عنوانه “احلم، بدلاً من وضع القواعد الشخصية” (Instead of Making Resolutions, Dream). كتبت الروائية ماري آن إيفانز، التي اشتُهرت باسمها المستعار، جورج إليوت، في رواية دانيال ديروندا (Daniel Deronda)، أن الحياة التي تفتقر إلى الالتزامات والضغوط والمسؤوليات قد تكون عرضة للتدهور، ففي غياب الالتزام، نتدهور جميعنا.

عندما يتعلق الأمر بالكتابة، أو بناء عمل تجاري، فقد نشعر بالاستياء من القيود سواء فُرضت علينا أو فرضناها على أنفسنا طواعية؛ عندما نكون غير مقيدين نبدع أشياء من العدم، لكن من الممكن أن يؤدي غياب القيود إلى فقدان البوصلة أو الانحراف عن الهدف المرجو. على الرغم من هذا التناقض، يمكن أن تتحول القيود إلى أداة مهمة في عملية الإبداع. مثال جميل على ذلك هو قطعة موسيقية تسمى “أفي ماريا” (Ave Maria)، وهي من تأليف الموسيقي شارل غونو. كان بإمكان غونو أن يبدأ المقطوعة بأي لحن أو قطعة موسيقية، لكنه اختار أن يقيّد نفسه بأن يبدأ بتأليف لحن فوق مقدمة مقطوعة البريلود الأول الشهيرة ليوهان باخ، فكتب واحدة من أشهر المقطوعات الموسيقية وأروعها على الإطلاق.

يمكن أن تكون القيود الصارمة خانقة، فتحفزنا على البحث عن أساليب غير تقليدية للتحرر منها، والتفكير في أفضل الطرق لاستثمار الموارد المتاحة لدينا والطرق الأقل تكلفة والأعلى فعالية ومرونة لأداء عمل ما على مستوى الفرد والشركة. قد تدفعنا القيود إلى استكشاف حلول جديدة أو الانتقال إلى مجالات أخرى حيث يمكننا تحقيق النجاح على الرغم من التحديات. إذا استفدنا من القيود والحواجز التي نواجهها، فستدفعنا إلى التغيير والابتكار.