هل تؤثر الخلفية الثقافية للقائد على صنع القرار لديه؟ هناك الكثير من البحوث حول كيفية تصرف القادة الذين يعيشون في بيئات ثقافية مختلفة، بيد أنه هناك القليل من البحوث حول كيفية تشكيل الموروث الثقافي للقادة، حتى وإن بدا لذلك المغزى والدلالة بالنسبة لأداء الأعمال مثلما يكون للعوامل الأخرى من قبيل الخبرة والتعليم.
لقد سعينا إلى سد هذه الفجوة. لذلك قمنا بإجراء دراسة ركزنا فيها بشكل خاص ومحدد على ما إذا كانت القيم الثقافية التي يرثها الرؤساء التنفيذيون من آبائهم وأجدادهم تؤثر على صنعهم للقرار وعلى أداء شركاتهم ومؤسساتهم.
تناولت عينتنا 610 رؤساء تنفيذيين في مصارف أميركية ممن ولدوا في الولايات المتحدة الأميركية، والذين قمنا نحن بتقسيمهم إلى ثلاث مجموعات: أولئك الذين كان آباؤهم من المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وأولئك الذين كان أجدادهم من المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وأخيراً أولئك الذين ولد آباؤهم وأجدادهم في الولايات المتحدة (وهؤلاء هم مجموعتنا المرجعية). لقد اخترنا هذا التصميم كطريقة لعزل آثار الموروث الثقافي: في حين أنّ الرؤساء التنفيذيين المولودين لأبوين مهاجرين أو لأجداد مهاجرين عرضة لنفس التأثيرات القانونية والاجتماعية والمؤسسية مثلهم مثل الرؤساء التنفيذيين الآخرين، فمن المحتمل أن يكون لديهم موروث ثقافي مميز. لقد أظهرت البحوث منذ زمن بعيد أنّ القيم الثقافية متجذرة بعمق، وأنّ المهاجرين إلى الولايات المتحدة يُظهرون درجة من التباين والتميز الثقافي على مدار عدة أجيال. على سبيل المثال، لقد وُجد أنّ الترتيبات المعيشية لعوائل المهاجرين الأميركيين ومعتقداتهم بشأن دور المرأة في المجتمع تتوازى مع تلك الموجودة في الأوطان الأم، حيث نشأ أسلافهم.
قاد الرؤساء التنفيذيون في عينتنا 441 مصرفاً أميركياً مسجلاً كشركة عامة في الفترة بين 1994 و2006. من بين هؤلاء، كان 293 إما أبناء أو أحفاداً لمهاجرين، وأطلقنا عليهم مسمى الرؤساء التنفيذيين من الجيلين الثاني والثالث.
قمنا بجمع البيانات حول الدولة التي نشأ فيها أسلاف الرئيس التنفيذي من موقع (ancestry.com)، وهو أكبر قاعدة بيانات خاصة بالأنساب في العالم، حيث تغطي قاعدة بيانات الموقع قرابة 20 مليار تاريخ عائلي. لقد تتبعنا أسلاف الرئيس التنفيذي عن طريق البحث باستخدام اسمه ومحل ميلاده وسنة ميلاده لتحديد أبويه، ثم استخدمنا نفس الأسلوب لتحديد أجداده، وهكذا. بالنظر إلى مجموعة من مصادر البيانات ـ من سجلات الإحصاء (السكاني) إلى وثائق الزواج إلى قوائم المسافرين على سفن الهجرة التي أبحرت من أوروبا إلى الولايات المتحدة ـ استطعنا رسم أشجار العائلة الخاصة بهم. استطعنا أن نحدد بدقة هؤلاء الأسلاف وصولاً إلى ستة أجيال لهؤلاء الرؤساء التنفيذيين الأميركيين العاملين في المصارف وعددهم 610. وحددنا الدولة التي هاجر منها سلفه، وعدد الأجيال التي مضت منذ أن انتقل سلفه مهاجرين إلى الولايات المتحدة. على سبيل المثال، وجدنا أنّ جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لمصرف جيه بي مورغان (JP Morgan)، هو أحد أفراد الجيل الثالث لمهاجرين يونانيين إلى الولايات المتحدة.
للتوصل إلى الاستنتاجات المسببة والواضحة حول أثر الموروث، كان لزاماً علينا أن نتأكد من أنّ الخلفية الثقافية كانت هي الدافع وراء القرارات التي صنعها التنفيذيون وكذلك أداء شركاتهم ومؤسساتهم ـ وليست مهارات أو سمات أخرى والتي كان يمكن أن تؤهلهم للتعيين في مركز القيادة في المقام الأول. لذلك اعتمدنا على وضع أو موقف واجهت فيه الشركات صدمة تنافسية غير متوقعة، صدمة ما كان ليتوقعها المدراء، وتم اختيار مجموعة محددة من الرؤساء التنفيذيين لإدارتها، صدمة أجبرت الرؤساء التنفيذيين على اتخاذ قرارات معقدة، غير تقليدية، وغير هيكلية ـ قرارات يُحتمل أن يكون للسمات الشخصية الخاصة بالرؤساء التنفيذيين أثر على كيفية التعاطي معها.
تعرّض القطاع المصرفي لسلسلة من الصدمات التنافسية القاسية في التسعينيات. كانت الصدمة التي استخدمناها في قانون كفاية الأعمال المصرفية وإنشاء الفروع بين الولايات (Interstate Banking and Branching Efficiency Act) لعام 1994، والذي نظم إنشاء الفروع في بعض الولايات الأميركية، مثل ولاية ميشيغان أو ولاية كارولينا الشمالية، حيث زادت الضغوط التنافسية من جراء هذا القانون في هذه الولايات دون غيرها من الولايات الأخرى.
كانت فكرتنا أنه إذا كان للموروث الثقافي للرئيس التنفيذي دور وقيمة بالنسبة لنتائج الشركة، عندها سوف نلاحظ وجود فروق واختلافات نظامية بين الشركات التي يقودها رؤساء تنفيذيون من الجيلين الثاني والثالث والشركات التي كانت تقودها المجموعة المرجعية، عقب الصدمات التي أحدثتها المنافسة. وكان هذا ما استنتجناه. أظهرت بياناتنا أنّ المصارف التي كان يقودها رؤساء تنفيذيون هم أبناء وأحفاد لمهاجرين كانوا ـ في المتوسط ـ مرتبطين بأداء فائق ـ قياساً بالعائد على الأصول لدى المصرف ـ عقب منافسة أكبر في القطاع المصرفي من إلغاء القيود على فتح الفروع بين الولايات. أما الشركات التي كانت صاحبة أقوى أداء، فهي تلك الشركات التي كان رؤساؤها التنفيذيين من الجيل الثاني، في حين راح الأثر يزداد ضعفاً مع كل جيل لاحق.
ومن المثير لاهتمام، فإنّ آثار الموروث الثقافي التي أزحنا النقاب عنها كانت مرتبطة ارتباطاً فريداً بالرئيس التنفيذي، وتعذّر اكتشافها بالنسبة لآخرين من كبار المدراء التنفيذيين. قمنا بتكرار تحليلنا للمدراء الماليين (CFO) لكل مصرف ولأعضاء آخرين من فريق الإدارة العليا، ولكننا لم نجد علاقة بين موروثهم الثقافي وبين أداء الشركة. وقد أكد هذا دور الرئيس التنفيذي على أنه أهم صانع للقرار في المصرف. بينما لم نستطع استبعاد أنّ الموروث الثقافي للتنفيذيين من غير الرؤساء التنفيذيين قد يشكل صنع القرار في مجالات مسؤولية بعينها، فإنّ نتائجنا تشير إلى أنه، في حالة وجود تلك الآثار، ليس بالإمكان تتبعها لتحديد أثرها على العائد على الأصول.
ليس كل أبناء المهاجرين حديثاً من الذين تفوقوا في الأداء تحت الضغط. فقد اختلف التأثير حسب الدولة التي نشأ فيها سلف الرئيس التنفيذي. دلّت النتائج التي توصلنا إليها على أنّ الرؤساء التنفيذيين الذين جاء أسلافهم من ألمانيا وإيطاليا وبولندا وروسيا ارتبطوا بأداء أفضل في العمل المصرفي تحت الضغط التنافسي. ومع ذلك، فإنّ الرؤساء التنفيذيين من أسلاف بريطانيين أو أيرلنديين لم يكن أداؤهم مختلفاً عن أداء باقي أفراد العينة. مثلت هاتان الدولتان 90% من المهاجرين الأجانب إلى الولايات المتحدة من عينتنا، إذ أنّ معظم المهاجرين الذين أتوا إلى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر جاءوا من أوروبا.
ولكن هل هي القيم الثقافية المختلفة التي تفسر تأثير المهاجرين على أبنائهم وخلفهم؟ حاولنا الإجابة عن هذا التساؤل من خلال تحديد القيم الثقافية التي كانت سائدة في هذه الدول التي سكنها الأسلاف. ونظرنا على وجه الخصوص، إلى كيفية مقارنة الدول المختلفة بالنسبة للقيم الثقافية البالغ عددها 16 والتي قام بتطويرها كل من عالمي النفس غيرت هوفستيد وشالوم شوارتز، ومشروع الجلوب (GLOBE Project)، واستبيان القيم العالمية (World Values Survey). تشمل هذه القيم المواقف السائدة من الناحية الثقافية تجاه الفردية، وصنع القرار على المدى الطويل، وتجنب المخاطر.
لقد وجدنا أنّ بعض هذه القيم الثقافية مرتبطة إحصائياً بأداء أفضل تنافسية، وبعضها مرتبط بأداء سلبي. على سبيل المثال، وجدنا أنّ المصارف ذات الأداء الأقوى بعد هذه الصدمة كان رؤساؤها التنفيذيين ممن جاء آباؤهم وأجدادهم من ألمانيا وإيطاليا وبولندا وروسيا ـ وهي بلدان تحتل تصنيفاً مرتفعاً من حيث الأبعاد الثقافية المتمثلة في ضبط النفس والتوجه طويل الأجل وتجنب عدم اليقين والانسجام. على النقيض من ذلك، فإنّ الشركات التي كان أداؤها أكثر ضعفاً بعد الصدمة كان رؤساؤها التنفيذيين ممن جاء أسلافهم من بلدان كانت تحتل مرتبة عالية من حيث الفردية والتوجه نحو الأداء وأهمية الحرية والاستقلال الفكري وأهمية الإيثار وإنكار الذات، وحب الوطن.
يمكن تمييز هذه القيم الثقافية في الأغلب وتقسيمها إلى فئتين: الثقافات الموجهة نحو الجماعة، مقابل الثقافات الموجهة نحو الذات. عندما احتدمت المنافسة، وجدنا أنّ المصارف التي كان يقودها رؤساء تنفيذيون جاء آباؤهم وأجدادهم من ثقافة موجهة نحو الجماعة اتخذت قرارات استثمارية أكثر حذراً ولكنها كانت أكثر تفوقاً. في المتوسط، فإنّ هؤلاء الرؤساء التنفيذيين: انخرطوا في عمليات استحواذ أقل، وحققوا عوائد أكبر في ما يتصل بالإعلان عن عمليات الاستحواذ، وتعرضوا لمخاطر مصرفية أقل، وكانوا أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكاليف.
على وجه العموم، يتوافق عملنا مع وجهة النظر القائلة أنّ ثقافة أسلاف الرئيس التنفيذي تؤثر على صنعه للقرارات، واختياراته بشأن سياسات الشركة، وفي النهاية أداء الشركة. بيد أننا لا نفسر النتائج التي توصلنا إليها على أنها تُظهر بعض ثقافات بعينها أرفع منزلة من ثقافات أخرى. إنّ نقاط القوة ونقاط الضعف في ما يتصل بالثقافات تعتمد على المحيط البيئي نفسه.
وبشكل أكثر توسعاً، فإنّ النتائج التي توصلنا إليها تُظهر أنّ الموروث الثقافي له أهميته، وأنه من النافع والمفيد بالنسبة للشركة أن تكون متنوعة وأن توظف أشخاصاً من أصحاب المواهب الذين يأتون من خلفيات متعددة ومختلفة. في وقت عندما كانت المزايا الاقتصادية للهجرة محل شك بشكل متزايد، قدمت دراستنا لمحة عن المساهمة الإيجابية والمستمرة في عالم الأعمال التي تأتي من جانب الأشخاص الذين لديهم موروث ثقافي ناتج عن كونهم مهاجرين.