الدالاي لاما يتحدث عن الأسباب الكامنة وراء ضرورة تحلّي القائد باليقظة والغيرية والتعاطف

4 دقائق

على مدار قرابة 60 عاماً مضى، انخرطت مع العديد من قادة الحكومات والشركات والمؤسسات الأخرى، ولاحظت كيف تطورت مجتمعاتنا وتغيرت. ويسعدني مشاركة بعض ملاحظاتي علّني أقدّم من خلالها الفائدة للآخرين مما تعلمته.

إنّ للقادة، مهما كان المجال الذي يعملون فيه، تأثيراً قوياً على حياة الناس وعلى كيففية تطور العالم. وينبغي علينا تذكر أننا زوّار على هذا الكوكب، ونقطنه لمدة 90 أو 100 عام على الأكثر، ويتعين علينا العمل خلال هذا الوقت لجعل هذا العالم مكاناً أفضل.

ما الذي قد يبدو عليه ذلك العالم؟ أعتقد أنّ الإجابة واضحة، إنّ العالم الأفضل هو العالم الذي يعيش فيه الناس وهم يشعرون بالسعادة. لماذا؟ لأنّ جميع البشر يسعون لأن يكونوا سعداء ولا أحد يرغب بالمعاناة، إذ إنّ رغبتنا في العيش بسعادة هو أمر مشترك بيننا جميعاً.

لكن في أيامنا هذه، يبدو العالم وكأنه يواجه أزمة عاطفية، إذ إنّ معدلات الإجهاد والقلق والاكتئاب في أعلى مستوياتها أكثر من أي وقت مضى، والفجوة بين الأغنياء والفقراء وبين الرؤساء التنفيذيين والموظفين وصلت إلى مستوى غير مسبوق. والتركيز على تحقيق الربح؛ غالباً ما يحرف مسار الالتزام تجاه الناس أو البيئة أو المجتمع.

أنا أعتبر نزعتنا لرؤية بعضنا البعض من زاوية "نحن" و"هم" ناجمة عن الجهل بالترابط الذي يجمعنا. بصفتنا أطرافاً مشاركة في الاقتصاد العالمي نفسه، فنحن نعتمد على بعضنا البعض، في حين تؤثر التغييرات التي تحصل في المناخ وتلك المتعلقة بالظروف العالمية علينا جميعاً. أضف إلى ذلك تشابهنا نحن البشر من الناحية الجسدية والعقلية والعاطفية.

خذ مثالاً مجتمع النحل الذي ليس لديه دستور أو شرطة ولا يخضع لتدريب يتعلق بالسلوك الأخلاقي، لكن "أفراده" يعملون معاً من أجل البقاء. وعلى الرغم من أنه قد ينشب النزاع أحياناً فيما بينهم، بيد أنّ المستعمرة تنجو بحكم التعاون السائد. في المقابل، لدينا نحن البشر دساتير ونظم قانونية معقدة وأجهزة شرطة، ونتمتع بذكاء ملحوظ وقدرة عظيمة على الحب والرحمة. وعلى الرغم من العديد من السمات الاستثنائية التي نمتلكها، إلا أننا نُظهر قدرة أقل على التعاون.

في المؤسسات، يعمل الناس عن قرب سوياً بصورة يومية، ولكن على الرغم من ذلك، يشعر الكثيرون منهم بالوحدة والتوتر. ومع أننا كائنات اجتماعية، إلا أننا نفتقر إلى الإحساس بالمسؤولية تجاه بعضنا الآخر. نحن بحاجة إلى سؤال أنفسنا عن السبب الكامن وراء حدوث كل ذلك.

أظن أنّ تركيزنا القوي على التنمية المادية وتكديس الثروات قد دفعنا إلى إهمال حاجة الإنسان الأساسية المتمثلة في تقديم وتلقي الإحسان والرعاية. إنّ تجديد الالتزام بوحدة البشرية والإيثار تجاه إخواننا وأخواتنا هو أمر جوهري للمجتمعات والمؤسسات والأفراد لتحقيق نمو على المدى الطويل، وكل شخص فينا يتحمل مسؤولية تحقيق ذلك.

ما الذي يمكن للقادة فعله؟

كن يقظاً

ازرع الطمأنينة في قلب من حولك. باعتبارنا بشراً، فإننا نتمتع بذكاء ملحوظ يسمح لنا بالتحليل والتخطيط من أجل المستقبل، ولدينا لغات تمكننا من نقل ما فهمناه للآخرين. ونظراً لأنّ المشاعر المدمرة مثل الغضب والتعلّق تعطّل قدرتنا على استخدام ذكائنا بصورة واضحة، فإننا بحاجة إلى معالجتها.

إنّ مشاعر الخوف والقلق تفسح المجال بسهولة لحدوث انفعالات تتمثل في الغضب والعنف، أما الشعور المعاكس للخوف فهو الاطمئنان المرتبط بالتعاطف الذي يعزز ثقتنا بأنفسنا. إنّ التعاطف يحد من الخوف ويعكس الاهتمام برفاه الآخرين، بالإضافة إلى أنّ المال والسلطة ليسا ما يجذبان الأصدقاء حقاً. عندما نكون تحت تأثير الغضب أو التعلّق، فإنّ قدرتنا على تكوين نظرة شاملة وواقعية على الموقف تكون محدودة. بينما عندما نكون عطوفين، نصبح هادئين وقادرين على توظيف المنطق بصورة عملية وواقعية وبكل عزم.

كن غيريّاً

نحن بطبيعتنا مدفوعين بالمصلحة الذاتية، إذ إنها ضرورية من أجل البقاء. لكننا نحتاج لأن نتحلى بالحكمة في توجيه مصلحتنا الذاتية لكي تتسم بالنبل وتكون قائمة على التعاون، وذلك مع مراعاة مصالح الآخرين. ينبع التعاون من الصداقة، والصداقة من الثقة، والثقة من صفاء القلب، وبمجرد أن يكون لديك إحساس حقيقي بالاهتمام تجاه الآخرين، فلا مجال للخداع أو التنمر أو الاستغلال، ويمكنك بالمقابل أن تكون نزيهاً وصادقاً وشفافاً في سلوكك.

كن عطوفاً

المنبع الأسمى للحياة السعيدة هو التعاطف، حتى الحيوانات تُظهر بعضاً من الشعور بالتعاطف. وعندما يتعلق الأمر بالبشر، فيمكن الجمع بين التعاطف والذكاء، ومن خلال استخدام العقل، يمكن أن يتوسع نطاق التعاطف على مستوى جميع البشر البالغ عددهم 7 مليارات نسمة. ترتبط المشاعر المدمرة بالجهل، بينما التعاطف هو شعور بنّاء مرتبط بالذكاء، وبالتالي، يمكن تدريسه وتعلّمه.

إنّ منبع الحياة السعيدة يكمن داخلنا، وغالباً ما يكون مثيرو المتاعب في أجزاء كثيرة من العالم على مستوى تعليمي جيد، لذلك ليس التعليم هو ما نحن بحاجة إليه فقط. بل نحن بحاجة أيضاً إلى أخذ القيم الداخلية بعين الاعتبار.

ويكمن الفارق بين العنف واللاعنف بدرجة أقل في طبيعة عمل معين وبدرجة أكبر في الدافع وراء ذلك العمل. إذ إنّ العمل المدفوع بمشاعر الغضب والجشع يميل لأن يكون عنيفاً، بينما ذلك المدفوع بمشاعر التعاطف ومراعاة الآخرين يسوده السلام بصورة عامة. لن نحقق السلام في العالم بمجرد الصلاة من أجله، بل ينبغي علينا اتخاذ خطوات لمعالجة قضايا العنف والفساد، فلا يمكننا توقع التغيير إذا لم نتخذ إجراءات.

يعني السلام أيضاً الهدوء والتحرر من الشعور بالخطر، إنه يرتبط بعقليتنا وما إذا كنا ننعم بهداوة البال. ومن الأهمية بمكان إدراك أنّ الطمأنينة تكمن بداخلنا في النهاية، والتي تتطلب امتلاك قلب دافئ وتوظيف ذكائنا. لا يدرك الناس غالباً أنّ التعاطف والرحمة والحب هي في الواقع عوامل تساهم في بقائنا.

تتناول التقاليد البوذية ثلاثة أنماط من القيادة العطوفة والمتمثلة في التالي: القائد الرائد، وهو الذي تتسم قيادته بالجرأة وتحمّل المخاطرة ويكون نموذجاً يُحتذى به؛ والقائد الملّاح، وهو الذي يلازم من هم في رعايته ويتحمل مسؤولية التقلبات التي تحصل خلال الرحلة ليصل بالآخرين إلى برّ الأمان؛ والقائد الراعي، وهو الذي يطمئّن على سلامة جماعته قبل الالتفات إلى نفسه. ثلاثة أنماط، أو ثلاثة نُهج، ولكن الأمر المشترك بينها هو رعاية القادة الشاملة لرفاه أولئك الذين يقودونهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي