يشهد العالم المعاصر تغيُّرات متلاحقة تستلزم من القادة التحلي بالقدرة على التكيف وعدم الجمود كي يحققوا النجاح والازدهار. ووفقاً لأبحاث ماكنزي، يرى 92% من المسؤولين التنفيذيين أن التكيف عنصرٌ أساسي للنجاح في القيادة. وبصفتي مدرساً في قسم التطوير المهني والتنفيذي بجامعة هارفارد، حيث أدرِّس مقرر "شغل منصب قيادي: تطوير أسلوبك وصناعة قرارات سليمة" (Becoming a Leader: Developing Your Style + Making Sound Decisions)، ألاحظ حقيقة واضحة وهي أن أنجح القادة يشبهون الحرباء من حيث قدرتهم على تغيير أسلوب قيادتهم بما يتناسب مع متطلبات الموقف الذي يواجهونه والفريق الذي يقودونه والرسالة التي يؤدونها.
تشير الأبحاث الرائدة التي نشرها أستاذ الذكاء العاطفي، دانيال غولمان، في هارفارد بزنس ريفيو إلى وجود 6 أساليب للقيادة: الأسلوب المتبصّر (ويُسمى أيضاً الأسلوب القيادي الواضح الرؤية)، الأسلوب الديمقراطي، الأسلوب المتناغم، الأسلوب الموجّه، الأسلوب المحدد لوتيرة العمل، الأسلوب المتسلّط. لكن معرفة هذه الأساليب لا تكفي؛ فالقائد العظيم هو مَن يختار الأسلوب المناسب في الوقت المناسب.
عندما تحتار، ابدأ بالقيادة المتبصّرة
إذا شعرت يوماً بالحيرة، فإنني أنصح بالبدء بأسلوب القيادة المتبصّر أو الواضح الرؤية؛ إذ تشير بيانات غولمان إلى أن هذا الأسلوب القيادي يحقق أقوى الآثار الإيجابية في بيئة العمل، بنسبة ارتباط إيجابي تبلغ 0.54، ما يجعله أكثر الخيارات موثوقية عندما يخيّم عدم اليقين على عملية صناعة القرار؛ فالقائد المتبصّر يُلهِم مَن حوله من خلال رسم صورة واضحة للمستقبل ودعوتهم للإسهام في تشكيله. وفي لحظات الغموض، يصبح الوضوح والتوجيه من أقوى أدواتك.
أساليب القيادة الفعالة الأخرى
في حين تتصدر القيادة المتبصّرة المشهد، تظل أساليب القيادة الديمقراطية والمتناغمة والموجّهة بدائل ممتازة؛ إذ يسعى القائد الديمقراطي إلى جمع الآراء والتوصُّل إلى الإجماع، بينما يعطي القائد المهتم بتحقيق التناغم أولوية للانسجام والروابط العاطفية، ويركّز القائد الموجّه على التطوير الشخصي والنمو على المدى البعيد. ولكلٍّ من هذه الأساليب مجاله المناسب، وفقاً لاحتياجات الفريق والتحديات القائمة.
من الأفضل أن تتجنب الاعتماد التلقائي على هذه الأساليب
يجب حصر استخدام أسلوب القيادة المحدد لوتيرة العمل مع الفرق الشديدة التميُّز، أي الفرق الاستثنائية التي تتبع أعلى المعايير وتمتلك القدرة على التوجيه الذاتي المستمر؛ لكن عند استخدامه مع الفرق العادية، يؤدي إلى الإصابة بالاحتراق الوظيفي وفقدان الحافز. أما القيادة المتسلّطة، المعروفة أيضاً بالإدارة التفصيلية، فيجب تجنُّبها تماماً في معظم الأحيان. قد يكون هذا الأسلوب القيادي ضرورياً في حالات الطوارئ، لكن الإفراط في استخدامه يخنق الإبداع ويقوِّض الثقة؛ فأصحاب الموهبة والكفاءات المتميزة يفضِّلون عادةً مغادرة مكان العمل الذي يفتقر إلى الاستقلالية.
اعرف نفسك أولاً
قبل محاولة التكيف مع الآخرين، ابدأ بالوعي الذاتي. وبما أن الذكاء العاطفي هو أساس القيادة القادرة على التكيُّف مع البيئة المحيطة، فإنني أنصح القادة بتقييم نمطهم وفقاً لاختبار مايرز بريغز وطرح السؤال التالي على أنفسهم: "ما هو الأسلوب الذي أحب أن يعاملني به الآخرون؟" قد يفضل الشخص الانطوائي نيل التقدير سراً، بينما يفضل المُنفتح غالباً الاحتفال به علناً. ومعرفة تفضيلاتك الشخصية يساعد في تجنب فرضها على الآخرين.
ثم اعرف فريقك
بعد أن تحدد مواطن قوتك وتفضيلاتك، حدّد مواعيد لعقد جلسات ثنائية مع كلٍّ من أعضاء فريقك في بيئات آمنة ومريحة بعيداً عن قاعات الاجتماعات التقليدية؛ فالتنزُّه في الحديقة أو اللقاءات غير الرسمية مع احتساء فنجان قهوة تساعد على فتح الحوار. اسأل عضو الفريق خلال هذه الجلسات عن الطريقة التي يفضل معاملته بها وعن الكيفية التي يفضل تقديم إسهاماته من خلالها. وإذا لم تكن لديه إجابة جاهزة، فاطرح عليه أسئلة محددة، مثل: "هل تفضل نيل التقدير علناً أم سراً؟" "هل تفضل الاستقلالية أم المتابعة الدورية؟" "هل تفضل العمل عن بُعد أم بنظام هجين أم من المقر المكتبي؟"
تعريف بنود المخطط البياني
- المرونة: قدرة الفريق والمؤسسة على التكيف مع المتغيّرات والاستجابة للتحديات الجديدة.
- المسؤولية: مدى شعور أعضاء الفريق بالمسؤولية تجاه أعمالهم ومساءلتهم عنها.
- المعايير: وضوح التوقعات المرتفعة فيما يخص الأداء والنتائج، ومدى الالتزام بتطبيقها.
- المكافآت: التقدير والحوافز المقدَّمة مقابل الإنجازات والإسهامات.
- الوضوح: مدى فعالية المؤسسة في تعريف الفريق بالأهداف والتوقعات والاتجاه العام.
- الالتزام: مستوى التفاني والانخراط الذي يُبديه الأفراد تجاه رسالة المؤسسة وأهدافها.
- الأثر العام في بيئة العمل: يشير إلى الأثر الكلي الذي يُحدثه كلٌّ من أساليب القيادة في بيئة العمل العامة ومعنويات الفريق.
معنى الأرقام
تمثّل هذه الأرقام معاملات الارتباط التي تقيس مدى قوة العلاقة بين أساليب القيادة ومكوّنات بيئة العمل المؤسسية. وتشير القيم الموجبة إلى وجود أثر إيجابي قوي، في حين تعبّر القيم السالبة عن وجود أثر ضار، بينما يُظهر "الأثر العام" الأثر التراكمي لكل أسلوب في مختلف عناصر بيئة العمل.
مثال واقعي: جلسات العصف الذهني
خلال جلسات العصف الذهني، يعبّر المنفتحون بسهولة عن أفكارهم ويهيمنون على وقت الحديث ويبدعون في هذا النوع من التفاعل، أما الانطوائيون فقد ينسحبون بصمت مُحبَطين من تجاهل أفكارهم؛ فما هو الحل، إذاً؟ اسمح للانطوائيين بعرض أفكارهم مسبقاً أو استخدام أو تفويض زميل محلّ ثقة لعرض أفكارهم في أثناء الاجتماع. امنحهم قنوات متعددة للمشاركة. وأُفضِّل شخصياً كتابة الأفكار كلها دون ذكر أصحابها على أوراق صغيرة ووضعها في سلّة واحدة، ثم يختار كل شخص فكرة واحدة من السلّة دون أن يعرف صاحبها، وتُناقش الفكرة مع الحفاظ على سرية هوية كاتبها. يساعد عرض الأفكار في البداية على الحيلولة دون انسحاب الأفراد من المشاركة لاحقاً إذا صدرت تعليقات محبطة تجاه اقتراحاتهم الأولى؛ فالحكم على الأفكار في هذه المرحلة يُقوّض الشعور بالأمان النفسي اللازم لطرح أفكار لم تكتمل ملامحها بعد.
تحويل القيادة الهادفة إلى سلوك مؤسسي فعّال
ينبغي أن يرتبط كل قرار وكل تفاعل بالرسالة والغاية الجوهرية. يجب أن يكون الثناء محدَّداً: أخبر عضو الفريق بما أنجزه على وجه الدقة وسبب أهميته ومدى اتساقه مع أهداف المؤسسة؛ فعندما يشعر الفرد بالتقدير القائم على أمور ملموسة، يزداد مستوى تفاعله واندماجه بدرجة ملحوظة.
الإتقان والاستقلالية والغاية
أثبتت أبحاث دانيال بينك أن الإنسان يزدهر حين يُمنح فرصة الإتقان (أي تمكينه من تحسين مهاراته أو أداء مهامه بإتقان) والاستقلالية (أي التحكم في طريقة عمله) والغاية (أي وجود سبب يدفعه للاهتمام بما يفعل). ضع توقّعات واضحة ومقاييس أداء دقيقة ومواعيد نهائية محددة، ثم أفسح المجال للفريق كي يعمل بطريقته. دع فريقك ينجز العمل بطريقته الخاصة، مع توفير شبكة أمان داعمة عبر التدريب وتوفير الموارد والاستعداد لتقديم المساعدة عند الطلب.
أهمية تحمّل المسؤولية
كن واضحاً بشأن النتائج؛ فإذا نجح أحد أعضاء الفريق، فكافئه بمنحه مزيداً من الفرص. وإن طلب المساعدة لكنه أخفق، فقدِّم له التدريب وامنحه فرصة جديدة. أمّا إذا فشل دون أن يسعى للحصول على الدعم، فكن واضحاً في أن الفرص ستكون محدودة إلى أن يُثبت استعداده لقبول الدعم وتحمُّل المسؤولية.
ذكِّره بأن من يساعد غيره يشعر بأنه ذو قيمة؛ فلا تحرم الآخرين من فرصة الإسهام في نجاحك والشعور بالرضا خلال الرحلة. إن قبول المساعدة ليس دليلاً على الضعف، بل على العكس، فمَن يقبل الدعم عن طيب خاطر يحقق النجاح بسرعة لأنه يصل إلى الحلول الصحيحة على نحو أسرع. ومن خلال خلق بيئة قائمة على المساءلة ومدعومة بالتوجيه، يمكنك بناء الثقة.
كلمة أخيرة
يقول مارشال غولدسميث: "الأساليب التي نفعتك في الماضي قد لا تنفعك لتجاوز تحديات المستقبل". كن كالحرباء، تكيّف مع البيئة المحيطة واستمع وتغيَّر ومارس القيادة برؤية بعيدة النظر؛ وعندها لن يتبعك فريقك فحسب، بل سيزدهر أيضاً.