إليك ما لا تعرفه عن القيادة المبدعة وحقيقتها. هناك نوع خاص من المدراء. ذاك النوع الذي يملأ كل غرفة بشخصيته الطاغية وبقلبه الكبير. من يعرض عليكم الحقائق الصعبة دون أن يجعلكم تفقدون الأمل، ويجعلكم تعملون بجدية أكبر دون أن تشعروا بوجود عبء على صدوركم. غالباً ما نسمي هؤلاء القادة "نجوم الروك" للتأكيد على جاذبيتهم وشعبيتهم. بعض الشركات لديها بعض منهم فيما لدى شركات أخرى عدد أقل. ومن بين نجوم موسيقى الروك الحقيقيين، كان هناك مدير واحد فقط هو بروس سبرينغستين الذي عاد واتجه إلى أداء عروض منفردة في خريف 2017 في مسرح برودواي، استمرت حتى نهاية 2018.
تضمنت عروض سبرينغستين الأخيرة التي وصفها بأنها منفردة وحميمية، قراءات من سيرته الذاتية "خُلقنا للحركة الدائمة" (Born to Run)، مع مجموعة مختارة من الأغاني. ومثل كتابه، كان العرض بمثابة برنامج مكثف في القيادة المبدعة والإدارة ولكن بلغة شاعرية أكثر من تلك التي تعرض سير رواد أعمال مشهورين أو سياسيين أو جنرالات.
القيادة المبدعة
الفنانون هم مدراء وقادة أيضاً. يتطلب الأمر إدارة جيدة للحفاظ على تماسك الفرقة واستمرارية العمل. لكن قيادتهم مختلفة عن القيادة التي نراها على رأس الشركات أو البلدان أو الجيوش، وتكون في أكثر الأحيان متعارضة معها. العمل الفني، كما يصفه سبرينغستين هو "تخريب طبيعي". فمن خلال الفن يُعبَّر عما لا يُباح به وما لا يُسمع في محافل أخرى، ولم يُسمع به من قبل. قد يثني قادة المؤسسات على الفن ويرعونه، لكنهم لا يستطيعون التحكم فيه. ولهذا السبب تكون قيادة الفنان عادة جديرة بالثقة: فهي إما أن تتحدث بلغة الناس وبصوتهم، أو أنها لا تتمتع بأي سلطة على الإطلاق.
سبرينغستين، الذي استندت قدرته على البقاء على سرد تاريخ وحكايات ما يسميه "صدمة أميركا بعد الحقبة الصناعية"، يعد مثالاً رائعاً على ذلك. لقد رثى في كلمات أغانيه الحلم الأميركي قبل وقت طويل من توثيق الاقتصاديين زواله. لقد غناه في ألبومه "النهر" (The River) طيلة عشرات السنين قائلاً: "هل الحلم كذبة إذا لم يتحقق، أم أنه أسوأ من ذلك؟" مع ذلك، وبينما كان يغني تلك الكلمات المحبَطة الخالية من أي أوهام، أبقى ذاك الحلم بالذات حياً. كانت مسيرته المهنية تمثل رمزاً له بقدر ما مثل ذلك الأبطال في أغانيه. وفي أعماله المهنية، والكتاب ليس استثناءً، يفقد الناس منازلهم وأعمالهم وأحبتهم ولكنهم لا يفقدون رغباتهم وعزَّتَهم.
ومن ثم، فلا عجب أن تكون سيرته الذاتية عبارة عن كتاب توجيهي حول الفضيلة التي يتحلى بها أفضل المدراء ويوجه بها أفضل القادة: الأمل الذي لا يخبو. إنه ذاك النوع من الأمل الذي ينشأ من النظر إلى الحقيقة، ولا سيما حقيقة الخسارة والخوف، دون فقدان الإيمان، الأمل الذي يمضي بك عبر الصعاب، وليس بعيداً عنها. لقد تعلمتُ ثلاثة دروس من خلال العمل حول غرس هذا الأمل ورعايته.
لأَسْر انتباه الناس، قدم لهم ما يأسر خيالهم
من حيث أسلوبه الإداري، ينتمي سبرينغستين إلى مدرسة المدراء القديمة، فهو يتصرف بحزم ولكن بإنصاف، ويتبع قوى السوق. كتب في سيرته: "على فرق موسيقى الروك أند رول التي تنجح في الاستمرار أن تدرك مسألة إنسانية"، وطبع بخط مائل ما قد يكون أعظم فضيلة بالنسبة إلى فنان أو ثقافة أو مؤسسة في نظرته الواقعية إلى عالم تطبعه الخسارة. (من وجهة نظره، "الخروج من المنصة تحت رايات المجد مجرد هُراء").
أما ما يجب أن تدركه فهو: أن "الرجل الذي يقف بجانبك هو أكثر أهمية مما تعتقد. ويجب أن يتوصل ذلك الرجل أو المرأة إلى الإدراك نفسه حول الرجل أو المرأة الواقف أو الواقفة بجانبه، أي عنك أنت. وإلا: سيكون الجميع مفلسين، ويعيشون فوق مستوى إمكاناتهم ويحتاجون إلى عملة صعبة. أو: كلاهما". تدرِّس أفضل مناهج كليات إدارة الأعمال مزيجاً مماثلاً من هذا التعاطف وهذه الحوافز في الوقت الحاضر.
عندما يتعلق الأمر بالقيادة، فهناك الكثير من الأفكار الجديدة. "وفق أسلوبٍ عَملي"، يكتب سبرينغستين مقدماً تعريفاً رائعاً للقيادة: "أنت تخدم بوحي مما يتطلبه خيال جمهورك". (خادم الخيال هو النقيض التام لتعريف نابليون الكلاسيكي للقادة بصفتهم وكلاء الأمل).
وإذا كنت محظوظاً بما فيه الكفاية لتكليفك بالقيادة، أي بأن تطلق العنان للخيال نيابة عن الآخرين، فسبرينغستين واضح فيما يجب أن تفعله: "أنا هنا لتقديم برهان على أن ما هو بعيد المنال حي، ما لا يمكن تصديقه مطلقاً أبداً، ألا وهو "نحن"".
أنا هنا، على هذا المنوال، وهذا شرط مسبق لكل ما يحدث بعد ذلك. أن تكون هناك، في المكان وأن تنتمي إلى ذاك المكان، من هنا تبدأ القيادة المبدعة بالفعل. ثم يجب عليك أن تواصل الحركة. تحتاج الأغاني لمن يغنيها، والساحات لمن يملؤها. لكن هذه ليست سوى وسائل. وظيفة القائد هي تجسيد هوية مجتمع ما، بث الكلام والحياة في المُثل العليا بعيدة المنال. (داخل الجسد فقط يُصبح ما هو مثالي قصة). شرعية القائد، إذن، تعتمد على "إلى أي مدى [يمكنك] أن تجسِّد أغنيتك".
دع الهدف يجد حِرَفيتك
بينما كان الشاب سبرينغستين يصقل حرفته كل ليلة في محال جيرسي شور في فيلادلفيا، ويستمتع بنمو شعبيته المتزايدة، كان يشعر بأن هناك شيئاً ما مفقوداً. "جزء من الوصول إلى هناك"، وهو الأمر الأكثر مراوغة في جميع مُثُل سبرينغستين العليا، هو، كما كتب، "معرفة ما يجب عليك فعله بما لديك، ومعرفة ما يجب عليك فعله بما ليس لديك".
لا يحدد سبرينغستين بتاتاً في كتابه ما المقصود من: هناك، وربما ساعد ذلك معجبيه على إعطائه المعنى الذي أرادوه. بالنسبة إليه، يشير الكتاب إلى أن هناك هو مزيج من اتخاذ موقف، وجعله يستمر وامتلاك الحرية في مواصلة الحركة. هو التمسك بما هو ثمين مع ترك الطريق مفتوحاً أمامك. ولكن إذا كان هناك يبدو غامضاً، فالواضح في الأمر هو أن الوصول إلى هناك يتطلب عملاً شاقاً. يمكنك صقل حِرفتك وجعل الهدف أو الغرض يعثر عليك. ولكن لا يمكنك صقل غرضك ثم تأمل أن تجدك حِرفيتك.
والغرض هو ما لم يكن لديه سنوات عديدة، فالدافع الذي يأتي من معرفة عملك ذو مغزى لك وذو قيمة للآخرين. ويتذكر سبرينغستين أنه "بحلول عام 1977، بأسلوب أميركي حقيقي، نجوت من قيود المولد والتاريخ الشخصي، وأخيراً، المكان، ولكن كان هناك شيء ما غير صحيح... شعرتُ بوجود فرق كبير بين الحرية الشخصية والحرية الحقيقية..." لقد شعر بأن الحرية الشخصية كانت شيئاً لا يقارن بالحرية الحقيقية وكان ذلك تذكيراً جيداً له بأن الغرض مسألة حملها طويل وهي محمَّلة بالإجراءات والمواجهات، وليس فقط بالطموح والشكوك.
خلال السنوات القليلة التالية، حدث تحول كبير في علاقة سبرينغستين بعمله. وعن ذلك كتب: "بحلول نهاية جولة ألبوم "النهر" (The River) فكرت أن إظهار... المسافة بين الحلم الأميركي والواقع الأميركي ربما يكون الخدمة التي علي تقديمها، خدمة يمكن أن أؤديها، وسترافق التسلية والأوقات الممتعة التي أوفرها لمعجبيِّ. كنت آمل أن يعطي ذلك جذوراً ورسالة لفرقتنا".
هذا هو ما يفعله الغرض. يمنح الحرفة جذورها ورسالتها، قصة يمكن تذكرها وتخيلها، ومكان يمكن الانطلاق منه. يدرك سبرينغستين الفرق بين العمل الذي يجب أن تفعله موسيقاه، أي جعل الناس يحضرون إلى محال جيرسي أو إلى الساحات الكبيرة في جميع أنحاء العالم، والغرض منها وهو إبقاء الحلم الأميركي حياً وعدم تركه يخبو.
الغرض يعطي معنى ووجهة للحياة العملية التي تقضيها على الطريق، لكن، وكما تحذر قصة سبرينغستين، فهذا لا يعفيك من مشقتك وعذابك. لقد عانى الكثير طوال حياته وعمله: عذاب الاكتئاب والصراع مع عذاباته الخاصة، عذاب الموهبة والصراع مع نفسه وبأنه يستطيع دائماً فعل المزيد، وعذاب الخدمة والمكابدة مع تحمل آلام الآخرين. وإذا فشل في كثير من الأحيان في فهم هذا العذاب، فإنه على الأقل نجح في الاستفادة منه.
الحب سيجعلك أفضل. التأمل في الأمور سيجعلك تستمر.
يجب عليك تنمية الوعي بالذات لتحسين ملكة القيادة المبدعة لديك. لا يوجد تحذير أقل إثارة للجدل من ذلك، وفي حين يمكن بسهولة توقع أن تكون سيرته الذاتية توكيداً لذلك، بدلاً من ذلك، يقلب سبرينغستين هوسه بوعي الذات رأساً على عقب.
فكتابه ممتلئ بتأمل الذات، لكن القليل منه حاسم، ونادراً ما يساعد كثيراً. وتظل العذابات لغزاً وأحياناً تسود، في حياته المهنية وحياته الشخصية. ما يساعده حقاً هو الحب والأغاني. إنه يسعى للحصول على المساعدة، على الحب، حب الأصدقاء والعائلة والمعالِجين حتى يجد العذاب طريقه إلى لحن يمكن له مشاركته. لأنه كما يشير: "يمكنك الغناء عن بؤسك... ولكن في تجمُّع النفوس ما يزيل عنك الكدر".
يبدو أن تأمل الذات، كما يقول سبرينغستين، مردداً درس هاملت، ليس المقصود منه فقط المساعدة. فتأمل الذات يعذبك مع الشكوك. إنه يبطئك. ليس المقصود منه أن يجعل أداءك أفضل. المفترض أن يجعل أداءك يستمر. كيف؟ من خلال إجبارك على البقاء دون أن تفعل شيئاً عندما قد يكون من السهل أن تتصرف بشكل يسيء إليك. بجعلك تبقى حاضراً لأسئلتك حتى لا يتحول حلمك إلى هوس.
فهم دواخل سبرينغستين والإجابة عن أسئلته أتاح له في النهاية فهم حياة الآخرين وغناءها. "معظم كتاباتي هي سيرة ذاتية عاطفية": هذا ما يعلنه وما يظهر في أعماله. لا يمكن رؤية الصور الأكثر وضوحاً فيما يتعلق بقيم سبرينغستين ومن يكون في تأملات كتابه وإنما في الوصف الذي يتضمنه لشخصيات الآخرين التي ترد متسلسلة في أكثر الأحيان.
وهو ينسب الفضل لبوب ديلان في أنه فتح عينيه على "رؤية صادقة للمكان الذي عشتُ فيه. الظلام والنور كانا كلاهما هناك، فيما مُزِّق حجاب الوهم والخداع وطُرح جانباً". ويصف عازف البيانو الراحل الذي رافقه داني فيدريتشي بأنه "قدريٌّ ينظر دائماً إلى الجانب المشرق من الأمور" و"يعزف بكل جوارحه". أما فرقة "يو تو" (U2) "فتجازف بكل ما لديها في كل مرة". إذا كانت هذه الأسطر تُقرأ كما لو أنها تنطبق عليه وعلى فرقته كذلك، فذلك لأن سبرينغستين، مثل العديد من القادة، يصب تركيزه بشكل أفضل بمجرد أن يحوّل نظرته إلى الخارج. هذا ما يجعل القادة أصيلين، ما يجعل عملهم يُظهر من أي طينة هم.
مع تقديمه عروضه في برودواي كان سبرينغستين يتوجه إلى أصغر قاعة أدى فيها منذ عقود. إنه تحوُّل له صدى الماضي، صدى المحال والقاعات التي تَمكن من الخروج منها والانطلاق. ذكّرني اختياره هذا المسرح بشيء آخر باح به في كتابه، وربما كان الأروع، وهو لا يأتي إلا في المشهد الأخير.
الرجل الذي علمنا أننا وُلدنا لنبقى في حركة دائمة لم يقل الكثير عن "ذاك المكان الذي نريد حقاً الذهاب إليه". وبيَّن لنا أن الأمل في "الوصول إلى هناك" يبقى حتى وإن لم نعرف إن كان هناك مثل هذا المكان. لكنه عندما يركب دراجته النارية وينطلق على الطريق، يصل إلى هناك تقريباً. استغرق الأمر 40 عاماً وجولة أخرى مع ألبومه "خُلقنا للحركة الدائمة" ليقول أين هو: في موطنه. هذا هو ما تفعله القيادة المبدعة تحديداً، على المدى الطويل، عندما تمضي بنجاح. تبني موطناً جديداً لحكاياتنا. موطناً لا يمكننا الهروب منه، بل نعود إليه فقط، لأنه يحررنا.
اقرأ أيضاً: