سيد القوم خادمهم: كيف يمكن للقيادة الخادمة التغلب على الاحتراق الوظيفي؟  

5 دقيقة
القيادة الخادمة
unsplash.com/ Austin Kehmeier

كان مؤسس شركة تيمز روك، جريج جريجوري، يصعد على متن رحلة تابعة لشركة ساوث ويست تغادر من فلوريدا في أميركا. في مقدمة طابور الصعود، لاحظ رجلاً يرتدي قبعة بيسبول كبيرة. لم يفكر كثيراً في الأمر حتى دخل الطائرة ورأى أن الرجل جلس في الصف الأخير من الطائرة. شركة ساوث ويست لا تتبع نظاماً رسمياً لتعيين المقاعد، فالأشخاص في مقدمة الطابور يحصلون على اختيار أي مقعد يريدونه في الطائرة، وعادةً ما يختارون المقاعد في مقدمة الطائرة ويفضلون مقعداً بجانب النافذة. هذا الرجل ليس فقط اختار آخر صف في الطائرة، بل اختار أن يجلس في المقعد الأوسط. بدا هذا غريباً لجريجوري.

عندما ارتفعت الطائرة، لاحظ جريجوري أن الرجل صاحب القبعة مشى إلى مقدمة الطائرة ثم تحدث إلى مضيفات الطيران لفترة، ثم استدار ومشى في الممر وبدأ يساعد المضيفات في تقديم الطعام والمشروبات للجميع. في النهاية، اقترب من مقعد جريجوري وقال: "مرحباً، اسمي هيرب كيلهر. شكراً لاختياركم خطوطي الجوية. هل يمكنني أن أقدم لك شيئاً للشرب؟". هيرب كيلهر هو من أحد مؤسسي شركة ساوث ويست للنقل الجوي ورئيسها التنفيذي السابق، ومن أشهر أتباع سياسة القيادة الخادمة في العالم.

"هذا بالنسبة لي كان تعريف القيادة"، قال جريج جريجوري وهو يختتم قصته. لم ينسَ هذه القصة قط. وحمل معه هذا الدرس في القيادة المتواضعة طوال مسيرته المهنية. بغض النظر عن منصبهم، يخدم القادة العظماء الآخرين. يقودون بالقدوة، ويفعلون ذلك بتواضع.

في بيئات العمل السريعة التغير والتي تفرض ضغوطاً هائلة على القادة والمدراء، أصبحت ظاهرة الاحتراق الوظيفي شائعة بصورة متزايدة. إذ يمكن أن يكون لها عواقب واسعة النطاق ليس فقط على القادة والمدراء أنفسهم بل على فِرقهم والمؤسسات التي يديرونها أيضاً. يمكن أن يؤدي الاحتراق بين القادة إلى تأثير سلبي على مستويات أداء المؤسسة كافة، ما يؤثر على الروح المعنوية والإنتاجية والرفاه العام لموظفيها.

يتمثل الاحتراق الوظيفي، وهو مصطلح يعبّر عن حالة نفسية تصيب الموظف تؤدي به إلى فقدان الرغبة في العمل، وتترافق مع انخفاض مستوى الإنتاجية، فضلاً عن الإرهاقين الجسدي والعقلي الناجمين عن ضغط العمل. وغالباً ما يواجه القادة جانباً كبيراً من هذا الضغط، لأنهم يتعاملون مع مسؤولية اتخاذ القرارات، وضغط تحقيق الأهداف، وتحدي إدارة فرق متنوعة. واجتماع هذه العوامل قد يقود إلى شعورهم المستمر بالإرهاق، وانخفاض مستوى حماسهم وكذلك مستوى طاقتهم.

ومع ذلك، هناك نهج واعد للتخفيف من هذه المشكلة وهو ممارسة القيادة الخادمة.

القيادة الخادمة هي العلاج

تعد القيادة الخادمة طريقة قيادية قائمة على مجموعة من الممارسات التي يتولى بها الفرد القيادة من موقع الخادم، وذلك على خلاف الممارسات القيادية "التقليدية" التي تهدف إلى التحكم في السلطة وممارستها من جانب واحد فقط وبالتالي يُركز هذا النهج على نمو الموظفين ورفاههم، كما يركز على خدمة المجتمع الذي ينتمي إليه. فمن خلال التركيز على احتياجات أعضاء الفريق؛ يمكن للقائد الخادم خلق بيئة عمل أكثر دعماً وتعاطفاً ويمكنها أن تقلل كثيراً من الإجهاد المتعلق بالعمل. يُبنى هذا الأسلوب القيادي على الاستماع الفعال، والتعاطف، والرعاية، والالتزام بكل من التطوير الشخصي والمهني للموظفين.

تشير الأبحاث إلى أن القيادة الخادمة لا تعزز فقط رضا الموظفين وأداءهم ولكنها يمكن أن تعمل مضاداً فعّالاً للاحتراق الوظيفي. يمكن للقادة الخدّام، من خلال إعطاء الأولوية لرفاهة الموظفين وتطويرهم، أن يعززوا ثقافة مكان عمل أكثر إيجابية تسهم في زيادة تفاعل الموظفين وانخفاض معدلات الاستقالة وتحقيق مستويات رضا وظيفي أعلى. ما يخلق قوة عاملة أكثر مرونة وإنتاجية قادرة على التعامل مع تحديات بيئة العمل على نحو أفضل، لينعكس ذلك بالفائدة على مستوى المؤسسة ككل.

وإليكم مثالاً واقعياً، يمكننا النظر إلى غاري ريدج، الرئيس التنفيذي لشركة دبليو دي 40 (WD-40) الشهيرة، وهي شركة أميركية لتصنيع المنتجات المنزلية والمنتجات المتعددة الاستخدامات وتنتشر منتجاتها في أكثر من 175 دولة، وتصل إيراداتها إلى 380 مليون دولار. أكد غاري ريدج في إحدى مقابلاته التزام الشركة بالقيادة الخادمة وأهمية تعزيز ثقافة التعلم. وأوضح أن أسلوب القيادة في الشركة كان أكثر استبداداً قبل نحو 25 عاماً ولكنه تطور منذ ذلك الحين. العنصر الرئيسي لهذا التحول هو مفهوم "لحظات التعلم" بدلاً من الأخطاء، ما يشجع على مشاركة التجارب على نحو مفتوح لتحقيق الفائدة للمؤسسة. كما تحدث الرئيس التنفيذي عن التحول من استخدام مصطلح "الفريق" إلى "القبيلة"، مؤكداً الحاجة الإنسانية للانتماء ومتماشياً مع فكرة أن القائد يجب أن يكون متعلماً ومعلماً في الوقت نفسه. وأضاف قائلاً: "إن الفرق بين مصطلح الفريق والقبيلة هو أن ولاء الإنسان وإحساسه بالانتماء يكون أقل مقارنةً مع استخدام مصطلح القبيلة؛ أي أن العامل أو الموظف يشعر بقدر أكبر من الولاء والانتماء في "القبيلة" مقارنة بالـ "فريق". لاحظ أن ثقافة الشركة ترتكز على الرعاية والصدق والمسؤولية والمساءلة، متأثرة بقيمها تأثراً عميقاً. يُشجع القادة الجدد على تبني هذه الثقافة، وإذا واجه شخص ما صعوبات داخل المؤسسة، يُدعم لتجاوزها بنجاح أو مساعدته على الانتقال إذا لم تكن الثقافة مناسبة له.

المرونة النفسية: العلاقة الوسيطة

تُعرف المرونة النفسية، وهي القدرة على التعافي بسرعة من الصعوبات أو الشدائد، بأنها عامل حاسم ومتزايد الأهمية في مكافحة الاحتراق الوظيفي. في سياق ديناميكيات المؤسسات، تزود المرونة النفسية الموظفين بالقدرة على التعافي من التحديات والضغوط والمواقف الصعبة في بيئات العمل الحديثة. وبذلك تتجاوز فكرة المرونة مجرد التحمل؛ فهي تشمل التعلم والنمو وأن تصبح أكثر قوة في مواجهة الشدائد.

تؤدي ممارسات القيادة الخادمة دوراً حيوياً في تعزيز هذه المرونة النفسية بين الموظفين. فمع تركيزها على التعاطف والاستماع الفعّال وإعطاء الأولوية لرفاهية الموظفين، تخلق بيئة عمل داعمة. هذه البيئة لا تغذي النمو الفردي فحسب، بل تُزود الموظفين أيضاً بالأدوات النفسية والموارد اللازمة للتعامل مع ضغوطات العمل بفعالية أكثر. من خلال التركيز على تطوير الموظفين وتمكينهم، يغرس القادة الخُدّام شعوراً بالثقة والاستقلالية والقدرة على مواجهة التحديات وإدارتها. علاوة على ذلك، فإن المرونة في مكان العمل ليست فقط حول القدرات الفردية ولكن أيضاً حول خلق ثقافة تنظيمية مرنة. تسهم القيادة الخادمة إسهاماً كبيراً في ذلك من خلال تعزيز التواصل المفتوح وتشجيع التعاون الجماعي وخلق بيئة تعليمية يتبادل فيها الموظفون المعرفة ويدعم بعضهم بعضاً ويطورون حلولاً مبتكرة للمشكلات. تعزز هذه المرونة الجماعية قدرة المؤسسة على التكيف مع التغيير والتغلب على العقبات والحفاظ على مستويات عالية من الإنتاجية حتى في مواجهة الشدائد.

في إحدى المؤسسات الخيرية التي شاركتُ فيها متطوعاً لسنوات عدة، كان لرئيس المؤسسة تأثير بالغ الأهمية يلهمني دائماً. كان يبرز دائماً في كل مناسبة أو ورشة أو فعالية كنا نقوم بها، خصوصاً في وقت ترتيب المكان وتنظيفه أو حتى في وقت تناول الطعام. لفت انتباهي دائماً أنه كان يؤخر تناوله للطعام حتى يتأكد من أن الجميع أكلوا، وفي أحيانٍ كثيرة، لم يتناول شيئاً لأن الطعام انتهى قبل أن يأتي دوره. من خلال هذا النهج القيادي، لاحظتُ أن العديد من المتطوعين الذين عانوا ظروفاً صعبة، مثل فقدان أحد الوالدين أو المرور بفترة حزن وإرهاق، وجدوا في المؤسسة ملاذاً يساعدهم على التكيف وتجاوز الصعاب. كان الرئيس يتواصل معهم شخصياً، يقدم لهم الدعم والمساعدة، ما كان له بالغ الأثر في تحسين حالتهم النفسية وكذلك المعنوية.

القيادة الخادمة في المنطقة العربية

في العالم العربي، هناك عدة أمثلة حية على تطبيقات القيادة الخادمة. في المؤسسات التعليمية على سبيل المثال، كشف بحث نشرته المجلة الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية بعنوان "القيادة الخادمة في مؤسسات التعليم العام في الدول العربية" أن مستوى ممارسة القيادة الخادمة في المدارس العربية مرتفع جداً، إذ أثبتت 35 دراسة أن الإدارة المدرسية تمارس أبعاد القيادة الخدمية بدرجة عالية، في المقابل، كشفت 15 دراسة أخرى أن ممارسة القيادة الخادمة كانت بدرجة متوسطة في مدارس بعض الدول العربية، ووجدت دراستان فقط انخفاض ممارستها في المؤسسات التعليمية. وفي القطاع المصرفي على سبيل المثال، أثبت بحث صادر عن المجلة الدولية للعلوم التربوية والنفسية فائدة تطبيق أبعاد القيادة الخادمة في القطاع المصرفي بالمملكة العربية السعودية، إذ شمل البحث عيّنة من 80 موظفاً من القطاع المصرفي بالمملكة وأظهر تحسناً في استخدام القيادة الخادمة فيه، وبيّنت النتائج وجود علاقة إيجابية بين تطبيق القيادة الخادمة وزيادة الإبداع الوظيفي في هذا القطاع.

يُعد اعتماد القيادة الخادمة استراتيجية أساسية للمدراء الذين يسعون لمكافحة الاحتراق الوظيفي وزراعة قوة عاملة مرنة ومنتجة. هذا النهج، الذي يُركز على التعاطف والاستماع النشط وإعطاء الأولوية لرفاهة الموظفين، لا يقتصر على تخفيف مخاطر الاحتراق الوظيفي فحسب، بل يعزز أيضاً الرضا العام للموظفين وصحة المؤسسة.

للتوصيات المستقبلية، من الضروري للمدراء

  1. تبنّي الاستماع النشط والتعاطف: تطوير مهارات الاستماع النشط والتعاطف لفهم احتياجات الفريق ومعالجتها، ما يخلق بيئة داعمة يمكن أن تقلل كثيراً من الضغط والاحتراق في مكان العمل.
  2. تعزيز ثقافة التعلم: تشجيع ثقافة التعلم والنمو المستمرين. يمكن أن يساعد النظر إلى التحديات على أنها "لحظات تعلم" في بناء قوة عاملة مرنة وقابلة للتكيف.
  3. التواضع: على المدير أو الرئيس القيادة من الصف الأول والتواضع عند موظفيه من دون تكبر أو رئاسة.
  4. تعزيز الممارسات الأخلاقية والمستدامة: اعتماد ممارسات تجارية مستدامة وأخلاقية.
  5. تشجيع التعاون الجماعي: خلق بيئة يشعر فيها أعضاء الفريق بالراحة في مشاركة المعرفة ودعم بعضهم لبعض. يعزز هذا الجهد الجماعي حل المشكلات والابتكار.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي