كان تشارن في أواخر عام 2007 في معسكر بوهرينج في الكويت يستعد للطيران على متن طائرة هليكوبتر من طراز "كيوا واريور" (Kiowa Warrior) فوق الحدود العراقية، حيث تعتبر الكويت آخر محطة يُنهي فيها الجنود الأميركيون تدريباتهم اللازمة قبل إرسالهم إلى أرض المعركة. وتعتبر الرمال جزءاً غير آمناً من أرض الكويت فهي عميقة وناعمة للغاية ويكون المشي عليها مرهقاً وبطيئاً. وفي صباح أحد الأيام، بينما كان تشارن يشق طريقه عبر الرمال متوجهاً إلى المطار، رأى لافتة كُتب عليها عبارة "نحتاج إلى القيادة وليس إلى نيل الإعجاب".
يصف تشارن رد فعله على هذه العبارة بقوله:
بصفتي ملازماً شاباً على وشك أن أقود الجنود في ساحة القتال للمرة الأولى، كنت أعرف جيداً ما تعلمته، وهو أنّ القيادة لا تنطوي على نيل الإعجاب بل على أن تكسب احترام أتباعك وثقتهم. إلا أنني آمنت أيضاً بأهمية أن يكون القائد محبوباً. وكان السعي إلى تحقيق هذه المحاور الثلاثة في القيادة أمراً صعباً. إلا أنه كان من الواضح للغاية أن الجيش قد اعتنق مبادئ القيادة التقليدية التي لا تتضمن نيل الإعجاب، والذي تبلور بوجود هذه اللافتة.
وبالانتقال سريعاً إلى عام 2019، نجد أن تشارن يعمل اليوم أستاذاً جامعياً في مجال السلوك التنظيمي، كما نشر مؤخراً بحثاً إلى جانب عدة مؤلفين آخرين في "مجلة علم النفس التطبيقي" (Journal of Applied Psychology) والذي دفعه إلى التشكيك في فرضية "نيل الإعجاب"، سواء في ساحة المعركة أو في مكان العمل.
ويوجد توجه حديث في البحوث التي تتناول مفهوم القيادة يتمثّل في تحديد أنماط جديدة للقيادة، كالقيادة الأخلاقية والقيادة الأصيلة، ومن ثم إثبات أن اتباع مبادئ هذه الأنماط الجديدة يحسّن من أداء القائد. وعلى هذا النحو، تولّدت أعداد غير متناهية من أنماط القيادة التي تبناها الباحثون والممارسون على حد سواء. ووجدنا ضمن أفضل المجلات الإدارية الستة الأولى على مدى السنوات الخمس الماضية 134 مقالة تتناول موضوع القيادة وتروّج لما لا يقل عن 29 نظرية مختلفة للقيادة، بما في ذلك القيادة "الأصيلة" والقيادة "التحويلية" والقيادة "الجاذبة" والقيادة "الأخلاقية" والقيادة "الخادمة". كما أسفر بحث مماثل أجريناه خلال السنوات الخمس الماضية على مقالات هارفارد بزنس ريفيو عن حصولنا على 161 مقالة على الأقل مكرسة لمناقشة نظريات القيادة المختلفة وأنماطها. كانت أشكال القيادة التي جرى تبنيها في هذه المقالات مماثلة لتلك التي وجدناها في المجلات الأكاديمية، ولكنها تضمنت أيضاً أنماطاً فريدة أخرى، بما في ذلك القيادة "المحنّكة" والقيادة "المتواضعة" وغيرها الكثير.
وعلى الرغم من الأدلة التي تدعم كل شكل من أشكال القيادة والتي تتنبأ بأداء كلّ من القائد وأتباعه، بدأنا نستشعر وجود مشكلة. وساعدتنا خبراتنا السابقة في إجراء بعض البحوث القيادية المشابهة في اكتشاف أن قيام المرؤوسين بتصنيف عنصر ما في استبانة القيادة بشكل إيجابي، قد يسفر عن منحهم العناصر الأخرى في الاستبانة تقييماً مماثلاً. على سبيل المثال، إذا صنّف أحد المرؤوسين قائده على أنه أخلاقي للغاية، على سبيل المثال، "لا يُعرّف قائدي النجاح بالنتائج فحسب وإنما بكيفية تحقيق هذه النتائج"، فمن المحتمل جداً أن يصنف قائده أيضاً أنه قائد "تحويلي"، مثل: "يساعد قائدي الموظفين في تحديد مكامن قوتهم وتطويرها". خلاصة القول، إذا ما مُنح القادة تصنيفاً عالياً في مجال ما، سيحصلون على تصنيف مماثل في جميع المجالات الأخرى.
إلا أنّ هذه الممارسة قد تثير بعض المشكلات على اعتبار أن هذه الأنماط القيادية هي عناصر متمايزة من الناحية النظرية. إنّ ميل المرؤوسين إلى منح قائدهم تصنيفاً مماثلاً لكل نمط قيادة مختلف يدعم فكرة وجود عامل أساسي مشترك في تقييماتهم. بمعنى آخر، بدت التصنيفات وكأنها تعكس مقدار حب المرؤوسين لقائدهم بدلاً من أن تقدّم تقييماً لسلوكيات القادة بعينها. نتيجة لذلك، بدأنا نشك في أن تكون قوة الإعجاب هي ما يكمن وراء تقييمات القادة.
ولوضع هذه الشكوك موضع الاختبار، طوّرنا استبياناً يدعى "استبيان سلوكيات القادة"، وهو عبارة عن استبيان صغير مكون من 5 عناصر يقيس مدى إعجاب الموظف بقائده.
وصنّف المرؤوسون قادتهم أو مشرفيهم على مقياس يتراوح من 1 إلى 7 كما يلي: 1) أعارض بشدة 2) أعارض إلى حد ما 3) أعارض قليلاً 4) محايد 5) أوافق قليلاً 6) أوافق إلى حد ما 7) أوافق بشدة. وفي حال رغبت في اختبار ذلك بنفسك، قيّم كل عبارة باستخدام هذا المقياس، ثم اجمع النقاط، وقسّم الناتج الإجمالي على خمسة.
ينتابني شعور إيجابي تجاه مشرفي.
أحب مشرفي.
أحب العمل مع مشرفي.
أقدّر العلاقة التي تربطني بمشرفي.
لقد كنت سعيداً بالعمل مع مشرفي.
بلغ متوسط "درجة" الإعجاب بالقائد حوالي 5.2 في كلّ عينة من عيناتنا، وحصولك على درجة أعلى من هذا المعدّل تعني أنك تحب قائدك أكثر من الموظف العادي.
وأجرينا خلال بحثنا سلسلة مؤلفة من 10 دراسات شملت 3,056 موظفاً، وقارنّا نتائج "استبيان سلوكيات القادة" مع نتائج استبيانات القيادة النموذجية، وشملت هذه الاستبيانات مقاييس لتقييم الإشراف التعسفي وجودة العلاقة بين القائد والموظف والقيادة التحويلية والقيادة الأصيلة والقيادة الأخلاقية.
وأشارت النتائج إلى صحة الفرضية التي وضعناها والتي تؤكد ميل المرؤوسين إلى تقييم القادة بناء على إعجابهم الشخصي بهم بدلاً من سلوكياتهم الفعلية. وكدليل على ذلك، ارتبط مقياس الإعجاب بالقادة، وهو مقياس موثوق للغاية، إيجاباً بمقاييس قيادية تقليدية، مثل القيادة الأصيلة والقيادة التحويلية والقيادة الأخلاقية وجودة العلاقة بين الموظف والقائد، وارتبطت سلباً بممارسات الإشراف التعسفية. وهذا يعني أنه عندما يظهر المرؤوسون حبهم لقادتهم يمنحونهم تقييماً أعلى لنهج القيادة التحويلية والأصيلة والأخلاقية، وتقييماً أدنى لممارسات الإشراف التعسفية.
وعلى الرغم من أنّ الاستبانات التي استُخدمت لقياس أنماط القيادة المختلفة تبدو مختلفة تماماً إلا أنها مرتبطة مع بعضها البعض بشكل كبير، وجميعها مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً باستبانة سلوكيات القادة. وهذا دليل يشير إلى أنّ العامل المشترك الذي يكمن وراء تصنيف المرؤوسين لقادتهم هو مدى إعجابهم بهم، فإذا أحب المرؤوسون قادتهم، سيقولون أيضاً أنهم يتمتعون بسمات القيادة التحويلية والأخلاقية والأصيلة وأنهم لا يظهرون أي ممارسات تعسفية، وأنهم يتمتعون بعلاقات جيدة معهم. ووجدنا أيضاً أن استبانة سلوكيات القادة قد تنبأت بنتائج مثل رضا المرؤوس وسلوك المواطنة التنظيمية لديه، بمعنى تجاوز الوصف الوظيفي للفرد، ورفاهه وأدائه، إضافة إلى مقاييس أخرى. ومن المنطقي طبعاً أن يكون الموظفون أكثر رضاً إذا كان قائدهم محبوباً وأن يقدموا أداءً أفضل حتى.
ويشير بحثنا إلى أن نيل الإعجاب لا يتعارض مع مفهوم القيادة، بل قد يكون الإعجاب أحد المكونات الرئيسة في صيغة القيادة الفاعلة. إنّ النتائج واضحة للغاية، فلا يوجد أي ضرر في أن يعجب المرؤوسون بقائدهم، بل يؤكد بحثنا أن إعجاب المرؤوسين بقائدهم يشير إلى فعالية القائد. وبالتالي، يمكن للقادة المحبوبين أن يتوقعوا من مرؤوسيهم تقييماً إيجابياً في سمات القيادة الأصيلة والتحويلية والأخلاقية، وألا ينظروا إليهم كقادة تعسفيين. وبالمثل، تكون الفرق التي تحب قادتها أكثر سعادة في عملها وتتجاوز ما هو مطلوب منها وتحظى بمستويات أعلى من الرفاهة وتقدم أداء بسوية أعلى.
وعلى الرغم من أهمية أن يكون القائد محبوباً، إلا أن هذه السمة ليست الحل الوحيد للقيادة الفاعلة. وعلى الرغم من أن نيل الإعجاب يمثل جزءاً كبيراً من سمات القيادة الفاعلة، إلا أنها بالتأكيد ليس السمة وحيدة، وفي حين يوضح تحليلنا أن محبة المرؤوسين تُعتبر عاملاً مهماً فيما يتعلق بالنتائج التنظيمية الإيجابية، يوجد عوامل أخرى، مثل المناخ الاقتصادي والموارد والقوانين الحكومية ترتبط بتلك النتائج التي تتجاوز مجرد ما إذا كان الموظفون يحبون قادتهم أم لا. وبالتالي، لا ينبغي اعتبار هذه الدراسة أنها دعوة للقادة لنيل حب مرؤوسيهم على حساب تحقيق هدفهم أو نزاهة المهمة الموكلة إليهم. ولا شكّ أن القادة ذوي الخبرة سيدركون الصفقة المتمثلة في محاولة إقامة علاقات صداقة مع مرؤوسيهم، إلا أن تجاهلهم لحب مرؤوسيهم لهم سيثبت أثره على نجاحهم بلا شك.
إنّ القول المأثور المتمثّل في أن القيادة لا تتعلق بنيل الإعجاب وإنما بالأداء فقط ليس صحيحاً تماماً في عصر المؤسسات الحديثة التي يجري فيها سماع وجهات نظر الموظفين وآرائهم. صحيح أن القادة يحتاجون إلى القيادة، إلا أنهم بحاجة أيضاً إلى موازنة التركيز أحادي التفكير على النتائج من خلال بناء علاقات وفاق مع موظفيهم وإظهار التقدير لهم. ويخلص تحليلنا إلى التأكيد على أن القادة الذين لا يتمتعون بحب مرؤوسيهم سيدفعون ثمناً باهظاً، ذلك أنه من شبه المؤكد أن تمنحهم فرقهم تقييماً سلبياً على جوانب أخرى من الأداء.