إليك هذا المقال الذي يتحدث عن القائد الجيد تحديداً. في كثير من الأحيان لا أبدأ مقالاتي حول القيادة بأقوال مستوحاة من روائيين فرنسيين، ولكن في هذه الحالة يبدو أنّ هذا الأمر مناسباً. حيث كتب مارسيل بروست: "لا يكمن الاستكشاف الحقيقي في العثور على أراض جديدة، بل الرؤية بعيون جديدة". وفي عالمنا المعاصر، لا تتفوق الشركات الأكثر نجاحاً على منافسيها فحسب، بل إنها أيضاً تعيد تعريف شروط المنافسة من خلال تبني أفكار خلاقة في عالم يكثر فيه تقليد الأفكار. وهذا يعني أنّ أفضل القادة يرون أشياء لا يراها القادة الآخرون.
ليس هذا أمراً سهلاً كما يبدو، خاصة بالنسبة للقادة الذين قضوا عدة سنوات في نفس الشركة، أو في نفس المجال. وبدون أي قصد منهم، يترك القادة أصحاب الخبرة الفرصة للأشياء التي يعرفونها بأن تحد من رؤيتهم لما يمكنهم تخيله للمستقبل؛ أي أنّ معارفهم يمكنها واقعياً أن تقف حجر عثرة أمام مسيرتهم نحو الابتكار. ولهذا السبب، وتكريماً لروح الروائي بروست، من المهم للغاية أن يرى القادة شركاتهم وتخصصاتهم بعيون جديدة - ما يعني النظر إلى أعمالهم بطرق جديدة.
وقد تبين أنّ الفن يمكن أن يكون أداة مهمة لتغيير كيفية رؤية القادة لعملهم. فقد تم مؤخراً تنظيم تمرين ممتع لتشجيع القادة أصحاب الخبرة على تحدي الطرق المعتادة في النظر إلى أعمالهم. وكان ذلك في مدينة بروفيدنس، في متحف كلية رود آيلاند للتصميم، وضمن فعاليات برنامج يجرى تنظيمه سنوياً بعنوان "كوبس أند دوكس"(Cops and Docs) . وفي هذا البرنامج، الذي بدأ عرضه منذ 10 سنوات، يلتقي متخصصون في المجال الطبي من ذوي الكفاءة العالية مع ضباط شرطة مدربين تدريباً عالياً، أي الأشخاص الذين يعملون في وظائف تتطلب منهم سرعة البديهة والإلمام السريع بما يدور في العالم من حولهم، ويدركون حجم المشاكل، ويبتكرون حلولاً فعالة للمشاكل المعقدة (التي غالباً ما تهدد الحياة). وخلال الفترة المسائية، تنظر مجموعات مختلطة من رجال الشرطة والأطباء إلى اللوحات والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى، ثم يتشاركون في الإجابة عن سؤال أساسي هو: ماذا ترى؟
وغني عن القول، أنّ ما شاهده المشاركون كان نابعاً من طبيعة عملهم ومن التجارب التي مرّوا بها، وهو ما يفسر الاستنتاجات المختلفة التي توصل إليها هؤلاء الأشخاص المختلفون حول الأعمال الفنية ذاتها. وفيما يلي تلخيص للنتائج التي خرج بها المشاركون في هذا البرنامج:
- اجعل الملاحظة الدقيقة عادة.
- تعلم أن تصف ما تراه.
- تقبل التفسيرات المختلفة لما تلاحظه.
- اعلم أنّ مشهداً واحداً يمكن أن يكون له عدة تفسيرات مقبولة.
- تجنب التشبث بوجهة نظر معينة.
- مارس مهارات التفكير الإبداعي.
هذه دروس رائعة للأطباء ورجال الشرطة، وهي كذلك أيضاً بالنسبة للمدراء التنفيذيين ورجال الأعمال والقادة في أي مجال.
وكما تبين، فإنّ برنامج "كوبس أند دوكس" ليس البرنامج الوحيد الذي يستخدم الفن كوسيلة لخروج القائد الجيد من "منطقة الراحة" (هي اعتياد الشخص على ممارسة عمله ضمن إطار روتيني محدد من دون رغبة بالمغامرة).
وقد أعدّت إيمي هيرمان، وهي مستشارة ومربية تم تدريبها كمحامية ومؤرخة فنية، برنامجاً مثيراً للاهتمام يحمل اسم "فن الإدراك"، والذي يصل إلى لب الخلاف المهم بين البصر والبصيرة. وفي هذا البرنامج، اصطحبت إيمي مجموعة من محققي الشرطة، وعملاء من مكتب التحقيقات الفيدرالي، وحتى بعض كبار المسؤولين التنفيذيين السريين ومن وكالة المخابرات المركزية إلى متحف متروبوليتان للفنون وغيرها من المتاحف والمعارض الشهيرة. هؤلاء المراقبون المتخصصون في الجريمة والإرهاب، والذين تم تدريبهم بطرق معينة للبحث عن أدلة حول جرائم القتل وتحديد التهديدات، بدلاً من يفعلوا ذلك وقفوا يحدقون في أعمال بيكاسو وكارافاجيو (Caravaggio) وإدوارد هوبر وغيرهم من أساتذة الفن. والتمرين كما تقول هيرمان للمشاركين "لا يتعلق بالنظر إلى الأعمال الفنية وإنما يتعلق بالحديث عما تراه أو في كثير من الأحيان، عما لا تراه".
مرة تلو الأخرى يخفق القائد الجيد في أن يلحظ العناصر المهمة في إحدى اللوحات، والتي ترسل رسالة مهمة، ويغفل القادة البارعون عن العلامات البارزة في أحد مشاهد عمل فني يحكي ما يحدث، أو لا يمكنهم الوصف الصحيح لما يرونه أمامهم. فكانت هيرمان تحث المشاركين قائلة: "لا يجب أن تخشى من تغيير وجهة نظرك". وكان المشاركون يقولون بأنّ الطرق الجديدة لرؤية الأمور، والتي اكتسبوها من خلال تلك الزيارات للمتاحف، قد فتحت أعينهم على طرق جديدة لتقييم الأدلة في عملهم. كما أوضح نائب لأحد القيادات في أحد التعليقات العديدة التي امتدحت البرنامج أنّ "كل شيء غير عادي في نيويورك هو أمر عادي بالنسبة لنا، ولذلك في التدريب نحن نتطلع دائماً إلى أن نكون أكثر وعياً كمراقبين".
يُعد برنامج إيمي هيرمان، كما هو حال برنامج "كوبس أند دوكس" خروجاً رائعاً عن روتين القيادة المتعب، واستخداماً مبتكراً وممتعاً للفن لتقوية المهارات وتصفية الأذهان. ولكن هناك طرق أبسط وأكثر "عملية" لتحقيق نفس الأهداف المنشودة. فقبل سنوات من الآن، وفي شركة فاست كومباني (Fast Company)، قمنا بإعداد قائد مبدع للغاية في شركة البترول رويال داتش شل (Royal Dutch Shell) يدعى ستيف ميلر. كان أحد أساليبه هو أن جمع فرقاً متنوعة من الزملاء القدامى والموظفين الجدد، وموظفي التسويق، وموظفي التكنولوجيا ثم جعلهم يركبون حافلات وينطلقوا في جولة في مواقع مختلفة في جميع أنحاء أوروبا، حيث كان يقع مقر عمله. وقاموا جميعاً بزيارة مركز عمليات شركة "شل" ومواقع عملاها ومواقع أخرى. ويقول ميلر: "ثم رجعنا إلى الحافلات وتحدثنا عما رأيناه وكتبنا جميعنا انطباعاتنا، وعندما عدنا قمنا بمراجعة ما تعلمناه من تلك الزيارات".
وغني عن القول، أنّ ما شاهده هؤلاء الأشخاص كان انعكاساً لوظائفهم وتخصصاتهم. وما تعلّمه الجميع معاً كان أغنى وأعمق بكثير مما كان يمكن لأي فرد أن يتعلّمه بمفرده. وهذه هي الحقيقة، سواء كان الموضوع الذي يتم ملاحظته هو قطعة فنية خالدة أو منشأة عميل. وبالنسبة إلى القائد الجيد أو القادة الذين يريدون أن يروا بأعين جديدة، تذكروا أنّ طريقة نظركم إلى أمر هي التي تشكل ما ترونه. وسترى بشكل أكثر إبداعاً عندما تنظر إلى العالم مع قادة آخرين لديهم خلفيات وخبرات مختلفة.
اقرأ أيضاً:
- كيف تكشف القائد غير الكفؤ؟
- في مديح القائد غير الكامل
- هل أنت قائد قادر على الصفح؟
- دليل القائد إلى الثقافة المؤسسية