بين الغرب والشرق: الفرص والتحديات الخاصة بالشركات العائلية الخليجية

6 دقائق
المنشآت العائلية
shutterstock.com/tomertu
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يُعد علم الشركات العائلية علماً حديثاً نوعاً ما، إذ بدأ العلماء بدراسة الشركات العائلية بوصفها مجالاً بحثياً في الثمانينيات من القرن الماضي. وأمضى الباحثون في البدايات عقوداً في دراسة الفروقات بين الشركات العائلية والشركات غير العائلية، حتى توصلوا إلى أن الفروقات بين الشركات العائلية فيما بينها هي الأكثر أهمية لفهم هذا النوع من الشركات، إذ تفوق هذه الفروقات من حيث الحجم والأهمية الفروقات بين الشركات العائلية وغير العائلية، وبالتالي تحوَّل تركيز الباحثين عبر الزمن إلى بحث أوجه الاختلاف بين الشركات العائلية فيما بينها وتجنُّب تأصيل مفهوم تشابه الشركات العائلية الذي قد يعزز فكرة غير صائبة بوجود حل أمثل للجميع.

إن قائمة أوجه الاختلاف بين الشركات العائلية فيما بينها طويلة جداً، ونذكر منها، على سبيل المثال، تبايناً في أهداف العائلة أو الشركة، وفي قيم المؤسس/ين أو العائلة، وفي الجيل الذي يدير الشركة أو يسيطر عليها، وفي هيكل الملكية والحوكمة، وفي الموارد المتاحة للشركة وغيرها من الاختلافات. وقد يكون أحد أهم هذه الاختلافات هو اختلاف سياق الدول وما تتضمنه من اختلافات قانونية واقتصادية وثقافة محلية، الذي يشكل أهم مصادر الاختلاف بين الشركات العائلية حول العالم ما يخلق فرصاً وأيضاً تحديات خاصة الشركات العائلية في كل دولة نحو تحقيق الاستمرارية التي تسعى لها العائلات التجارية في أغلب الدول والاقتصادات حول العالم.

فيما يخص الاستمرارية، وبغضِّ النظر عن الاختلافات بين الشركات العائلية، فقد أجمع الباحثون على أهمية وجود رؤية مشتركة بين أفراد العائلة للحفاظ على كيان العمل العائلي لأجيال قادمة. فالالتزام بتحقيق رؤية مشتركة يؤثر إلى حد كبير على الأهداف والاستراتيجيات التي يتبّعها أفراد العائلة وعلى كيفية اتخاذهم القرارات معاً مقارنة بالعائلات التي لا تملك رؤية مشتركة. وأثبتت الدراسات أهمية وجود رؤية مشتركة لدى أفراد العائلة وثقافة منفتحة يسودها إحساس بالعدل في تشكيل فلسفة الحوكمة والتأثير في تصرفات الأفراد وبالتالي نجاح تعاقب الأجيال واستمرارية الشركة.

نركز في هذا المقال على توضيح مواطن الاختلافات الثقافية والهيكلية بين العائلات التجارية الخليجية عن غيرها من العائلات حول العالم، التي تشكل فرصاً وأيضاً تحديات خاصة بالمنطقة، قد تؤثر في الموارد المتاحة للعائلات التجارية وتمكّنهم من خلق رؤية مشتركة وإجراءات عادلة تسهم في استمرارية العمل العائلي، ونستند في هذا الطرح إلى خلفيتنا العلمية وخبرتنا العملية في العمل مع العديد من الشركات العائلية الخليجية.

إن فهم الاختلافات في الشركات العائلية بين الدول والثقافات أمراً جوهرياً لدعم الشركات العائلية في دول الخليج العربي، حيث إن الفرص والتحديات مختلفة، فالنماذج والحلول التي قد تنجح في دول الغرب والشرق قد لا تكون بالضرورة ناجعة في منطقتنا التي تتسم بثقافة محلية أصيلة ومتجذرة وهيكل عائلي يعتبر واسعاً ومتشعباً، وتمر بمرحلة تحول اقتصادي كبير.

الفرص – التحول الاقتصادي

تشهد المنطقة تحولاً اقتصادياً كبيراً تصاحبه تغييرات وتطويرات شاملة، ما يفتح أفاقاً جديدة وفرصاً واعدة للشركات العائلية، ويقابل ذلك ركود وأحياناً تدهور في بقية مناطق العالم. وتعتبر رؤية المملكة 2030 دافعاً قوياً للتحول والابتكار، ويتمثل أحد أبرز جوانب هذا التحول في دعم القطاع الخاص وتهيئة بيئة أعمال جاذبة. وتقدِّم الحكومة السعودية حوافز ومزايا متعددة للقطاع الخاص، وتولي اهتماماً كبيراً للشركات العائلية واستدامتها مثل إنشاء المركز الوطني للمنشآت العائلية وتمكين الشركات العائلية من إضافة دستور العائلة في عقد التأسيس في نظام الشركات الجديد. إضافة إلى ذلك، تشهد المملكة نمواً في البنية التحتية يصحبه بناء شراكات استراتيجية مع شركات محلية وعالمية، ما يخلق فرصاً تجارية ويسهم في تعزيز الاستثمار في سوق كبيرة ومتنامية. يشكّل هذا التحول غير المسبوق فرصة لبناء رؤية مشتركة لدى الملاَّك أو تجديدها ومراجعة استراتيجيات الشركات العائلية والدخول إلى أنشطة وأسواق جديدة لم تكن متاحة سابقاً ما يسهم في تحقيق نمو الشركات لتواكب نمو العائلات وازدياد عدد الملاَّك واحتياجاتهم.

الفرص – الجيل القادم

يمثل الجيل الجديد مستقبل الشركات العائلية، وتتمتع المنطقة بنسبة عالية من فئة الشباب، ففي السعودية وبحسب نتائج الإحصاء الوطني الذي أجرته الهيئة العامة للإحصاء في عام 2022، بلغ متوسط عمر السعوديين 25 عاماً وبلغ عدد الشباب دون سن 30 عاماً 63% من سكان المملكة. يقابل ذلك ارتفاع في أعمار السكان في الدول الغربية، إذ تشير إحصاءات عام 2022 إلى أن نصف سكان أوروبا أكبر من 44 عاماً.

هذه النسبة العالية من فئة الشباب المسلح بالعلم والوعي والطاقة الذي يتحدث لغة العصر تمثل رأس مال بشري فريد في المنطقة، واستثماراً استراتيجياً للشركات العائلية، يسهمان في النمو، ويمتلك الشباب طاقة هائلة لتحقيق التغيير والاستفادة من الفرص المتاحة إذا استُثمرت قدراتهم وتوفرت البيئة المناسبة التي تسمح لهم بتحويل طاقتهم وإبداعهم إلى استدامة شركاتهم العائلية ونجاحهم. كما تتسم فئة الشباب بثقافة منفتحة تتقبل وتقدّر العمل المؤسسي والمُحَوْكم المبني على مفهوم الجدارة ما يشكل فرصة فريدة لكثير من العائلات في المنطقة لتطوير نظام للحوكمة يسهم في تنظيم انتقال الملكية والإدارة بين الأجيال بسلاسة وفعالية.

التحديات – حجم العائلة وهيكليتها

يؤثر حجم العائلة من حيث عدد الأفراد في عملية بناء رؤية مشتركة والقيام بإجراءات عادلة يقبلها جميع الأطراف، فكلما زاد عدد الأفراد، أصبح من الصعوبة بناء توافق حول رؤية يتشاركها الجميع، فالأفراد بطبيعتهم مختلفون بالأولويات والاهتمامات. إذا ما قارنا حجم العائلات في الدول الأخرى مع العائلات الخليجية، نجد أن العائلات بالمنطقة أكبر حجماً من ناحية عدد الأفراد نظراً لطبيعة السكان القبلية، وكثرة الأفرع وتشعبها، وامتداد مفهوم العائلة في الثقافة المحلية لتشمل العائلة الأكبر من الأعمام وأبناء العم وما يقابل ذلك من أنظمة الوراثة التي تحكم انتقال الملكية لكل الورثة ما يوسّع دائرة الملاك من العائلة بشكل كبير من جيل لآخر بغض النظر عن اختلافات أفراد العائلة، تشاركهم القيم والأولويات أو عدمه، انتمائهم للعائلة أو لا (في حال دخول الأنساب للملكية عن طريق التوريث)، تمكّنهم من العمل معاً كملاَّك واتخاذ قرارات مشتركة أم لا. بناءً على ذلك، ليس من النادر وجود عائلة يزيد عدد أفرادها على 150 وعدد الملاَّك من العائلة على 100 وهي لا تزال بالجيل الثالث. قد لا تنمو العائلات في الدول الأخرى، خاصة الغربية منها بهذا الحجم نظراً لاختلاف مفهوم العائلة (التركيز على العائلة الأصغر المكونة من الوالدين والأشقاء)، وأيضاً لوجود ممارسة تشذيب شجرة العائلة في العائلات التجارية الغربية؛ إذ يتم اختيار أحد الأبناء لتملّك الشركة العائلية ما يُبقي عدد الملاك من العائلة منخفضاً عبر الأجيال. فمثلاً يبلغ متوسط حجم الأسرة في السعودية 408 أفراد مقابل 202 في أوروبا.

من ناحية أخرى، تعتبر هيكلية العائلات التجارية بالمنطقة أكثر تعقيداً نظراً لتفرعها ليس فقط عن طريق الإخوة وأبنائهم، ولكن أيضاً تفرعها عن طريق تعدد الأمهات غير الأشقاء ما قد يضفي بعض الصعوبات على صعيد العلاقات بين الإخوة، التي قد تنعكس على علاقاتهم كملاَّك للشركة العائلية وقدرتهم على إيجاد رؤية مشتركة وأنظمة عادلة يتقبلها الجميع.

وعليه، يشكل حجم العائلات وهيكليتها بالمنطقة تحديين إضافيين لما تواجهه العائلات التجارية بشكل عام حول العالم، نحو بناء رؤية مشتركة وتوافق حول إجراءات عادلة تسهم في استمرارية الشركات عبر الأجيال.

التحديات – الثقافة المحلية

تتشكل الثقافة المحلية في دول الخليج العربي من الثقافتين العربية والإسلامية حيث تطغى قيم العدل والصدق والأمانة والكرم والشجاعة وغيرها من مكارم الأخلاق. وعادة ما تسود ثقافة الاحترام بين أفراد الأسرة وهو أمر إيجابي في كثير من الأحيان ولكن قد تسبب المبالغة في الاحترام الكثير من التعقيدات في سياق الشركات العائلية. فمن واقع تعاملنا مع العديد من أفراد الجيل الجديد من الملاَّك في شركات عائلية محلية، كان الاحترام المبالغ به لأفراد الجيل الأكبر سبباً رئيسياً في انعدام التواصل والإحساس بالتهميش، إذ يعاني أفراد الجيل الجديد من الملاَّك عدم القدرة على التواصل الشفاف وإبداء الرأي والسؤال عن أمور معيّنة خوفاً من الظهور بمظهر الشخص العديم الاحترام. هذا الانعدام في التواصل الفعال يعتبر من أكبر مسببات غياب الرؤية المشتركة بين الأجيال التي تسهم في استمرارية العمل العائلي لأجيال قادمة.

وقد تؤثر اعتبارات ثقافية في إمكانية مناقشة عملية تعاقب الأجيال بانفتاح، فمع أهمية موضوع تعاقب الأجيال في الشركات العائلية، وعلى الرغم من وجود نماذج لشركات عائلية خليجية نجحت في التخطيط والتنفيذ لتعاقب الأجيال، فإن معظم العائلات قد لا تتطرق إلى هذا الموضوع إما لانشغالها بأعمالها اليومية، أو لأن أفراد العائلة الذين يدركون أهمية هذا الموضوع يتحرجون من مناقشته خوفاً من أن تُفهم هذه المناقشة فهماً سلبياً، إذ قد يعتبرها البعض شؤماً والبعض الآخر قد يفسرها على سبيل الجشع، فيفضلون الصمت الذي قد يطول إلى أن يتم التعامل مع موضوع التعاقب بشكل مفاجئ وسريع دون تهيئة وتخطيط، ما قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى عواقب سلبية.

إن الثقافة المحافظة التي تسود العوائل الخليجية والتي تتجنب الحديث عن الاختلافات وتفضّل الصمت لتجنّب نشوب الخلافات أو الظهور بمظهر قلة الاحترام تختلف عن ثقافة العوائل الغربية التي تتسم بالانفتاح في إبداء الرأي، والاختلاف مع الآخر، ومواجهة الخلافات والتعامل معها. نحن هنا لا نعزز توجهاً على الآخر، فكلا التوجهين متطرف، فانعدام التواصل الفعال وكبت المشاعر يؤديان إلى تراكمات من الإحساس بالتهميش ما قد يؤثر على بناء شخصية قيادية ويسهم في توليد مشاعر سلبية تجاه العمل العائلي في المستقبل، وإبداء الرأي والاختلاف مع الآخر دون حدود قد يولد نزاعات تنعكس على العلاقات العائلية وتفتح باباً لشخصنة الأمور.

وبما أننا “أمة وسط”، فإن الوسطية في السماح بالنقاش وإبداء الرأي ولكن بموضوعية واحترام هما الوصفة السحرية لبناء ثقافة الشفافية والتواصل الفعال بين أفراد العائلة. فالتواصل الفعال من أهم ركائز وجود رؤية مشتركة بين أفراد العائلة وبناء ثقافة منفتحة يسودها إحساس بالعدل. لذلك، من المهم إيجاد قنوات لأفراد العائلة تمكّنهم من الاطلاع على جميع أمور العمل التجاري وإبداء الرأي دون الخوف أو التحسس من إبداء قلة الاحترام. تختلف هذه القنوات بناءً على العائلة وطبيعتها، ويحتاج بناؤها وتفعيلها إلى وقت وجهد فتغيير الثقافة السائدة يعتبر من أصعب أوجه التغيير على الإطلاق.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .