على الرغم من إيلاء قدر أكبر من الاهتمام لأوجه التفاوت بين الجنسين في أماكن العمل، إلا أن الفوارق التي لا يمكن تبريرها في الأجور بين النساء والرجال لا تزال قائمة في القطاع الطبي. إذ توصلت إحدى الدراسات التي أجريت على الصعيد الوطني في الولايات المتحدة، وشملت الأطباء العاملين في الحقل الأكاديمي في 24 كلية طبية، إلى أن الطبيبات يتبوأن مناصب أكاديمية أقل من نظرائهن الأطباء الرجال بنسبة 10% تقريباً، حتى بعد أخذ عوامل مثل التخصص وساعات العمل والمتغيرات الأخرى في الاعتبار. بل إن "تقرير أجور الأطباء" (Physician Compensation Report) الذي أصدرته منصة "ميدسكيب" (Medscape) في عام 2019 توصل إلى أوجه تفاوت أوسع، حيث وجد أن طبيبات الرعاية الأولية اللواتي يعملن بدوام كامل يحصلن على أجور تقل عن نظرائهن الأطباء الرجال بنسبة 25%، وأن الطبيبات المتخصصات اللائي يعملن بدوام كامل أيضاً يحصلن على أجور تقل عن الأطباء الرجال بنسبة 33%.
وهذه الفوارق لافتة للانتباه ومخيبة للآمال بصفة خاصة بالنظر إلى أن الطبيبات، في واقع الأمر، يتفوقن على الأطباء الرجال في بعض المجالات. إذ إن إحدى الدراسات، التي شملت 1.5 مليون حالة من حالات الإدخال إلى المستشفيات في نظام الرعاية الطبية "ميديكير"، بالولايات المتحدة، توصلت إلى أن حالات الوفاة بين المرضى الذين يخضعون للعلاج على يد طبيبات منخفضة بدرجة كبيرة، كما أن حالات عودة المرضى إلى المستشفيات لتلقي العلاج مجدداً أقل بشكل كبير. ومن الصعب تصور، بأي علم حساب، أن تدفع مؤسسات الرعاية الصحية أجوراً للطبيبات تقل من أجور الأطباء الرجال مقابل النتائج الأفضل التي يحققونها.
وتعتبر الحلول اللازمة لسد هذه الفجوة في الأجور معقدة، لكن يمكن تحقيقها. وبالاستناد إلى الأبحاث الموجودة والدروس المستفادة من المجالات الأخرى، وإلى تجاربنا بصفتنا باحثين وقادة ملتزمين حيال المساواة بين الجنسين، فإننا نعتقد أنه يجدر بالمؤسسات اتباع ثلاثة نُهُج للتصدي لهذه المشكلة. وتتمثل هذه النُهج فيما يلي:
تعزيز البيانات المتعلقة بالرواتب
إذ يعرقل انعدام البيانات الدقيقة المتعلقة بالرواتب، بدرجة كبيرة، كلاً من القادة الذين يلتمسون معالجة أوجه الإجحاف، والطبيبات عندما يتفاوضن بشأن الرواتب. كما أن من شأن عمليات مراجعة الأجور وزيادة الشفافية أن يساعدا في هذا الصدد، حيث إن المؤسسات التي تعمل في قطاعات أخرى بخلاف القطاع الطبي قد استخدمت بشكل فعال عمليات المراجعة للكشف عن الفوارق في الأجور وتعزيز العدالة فيها. على سبيل المثال، بعد أن أجرت شركة "سيلز فورس" (Salesforce) تحليلاً في عام 2015 لما يزيد عن 17 ألف راتب بالشركة، تبيّن لها أن 6% من موظفيها (ينقسمون بالتساوي تقريباً بين الرجال والنساء) طالبوا بتعديل في الرواتب، بما في ذلك "عدد كبير من النساء" اللائي كنّ يحصلن على رواتب أقل من الرجال، حسبما أخبر الرئيس التنفيذي للشركة مارك بينيوف شبكة "سي إن إن" الإخبارية.
لإنشاء عمليات تدقيق أكثر فائدة في قطاع الرعاية الصحية، سيكون من الأهمية بمكان لهذه العمليات أن تحدد الأجر الكلي. حيث إن الكثير من الأطباء، لاسيما أولئك الذين يمارسون المهنة في مجالات أكاديمية، يحصلون على أجر من الأنشطة السريرية وغير السريرية. وتشير الأدلة المستقاة من خارج القطاع الطبي إلى أن من المرجح أن تتطوع النساء، أو يُرشحن للتطوع لأداء أعمال لا يترتب عليها الحصول على ترقيات. وفي القطاع الطبي، فإن النساء يدركن أن من المرجح أن تُسند إليهن أعمال بلا أجر (مثل اللجان ووظائف التدريس ومشاريع التحسينات على المكاتب غير مدفوعة الأجر) إلى جانب أعباء الرعاية السريرية التي يقمن بها. ولن يكون من شأن مقارنة الأجر الذي يتقاضاه الطبيب نظير الأنشطة السريرية وحدها تحديد هذه الفوارق، مما يساهم في انخفاض إجمالي الرواتب نظير مقدار العمل المبذول.
وفضلاً عن ذلك، ينبغي أن تأخذ عمليات مراجعة الأجور في الاعتبار المطالب التي يقدمها المرضى الذين يخضعون للعلاج على أيدي الطبيبات قياساً إلى المطالب التي يقدمها مرضى الأطباء الرجال. إذ توجد أدلة توضح أن الطبيبات يعالجن عدداً أكبر من المرضى الإناث وعدداً أكبر من المرضى الذين يعانون مشكلات نفسية مقارنة بنظرائهن الأطباء الرجال. وغالباً ما يتطلب المرضى في كلتا المجموعتين أوقات زيارة أطول والمزيد من الوقت المخصص للتعامل مع حالاتهم خارج المستشفى. وعلاوة على ذلك، يبيّن أحد الأبحاث أن المرضى غالباً ما يبحثون عن نوعية مختلفة من الرعاية، التي تستغرق الكثير من الوقت بدرجة أكبر، من الطبيبات، وأنهم غالباً ما يتحدثون إليهن أكثر ويكشفون المزيد عن حالتهم ويتوقعون درجة أكبر من التجاوب العاطفي عند إصغائهن إليهم. ويتعين على عمليات المراجعة أن تراعي الطابع المعقد للمريض، فضلاً عن عدد المرضى الذين يقابلهم الطبيب أو عدد المرضى على قائمة كل طبيب لتقييم الأعباء الطبية بدقة.
ويعتبر إرساء الشفافية فيما يتعلق بالرواتب، الذي سلكته بعض القطاعات الأخرى، نهجاً مثار خلاف بدرجة أكبر إزاء تعزيز تكافؤ الأجور. إذ إن أنظمة الجامعات العامة، مثل نظام جامعة كاليفورنيا، جعلت البيانات الخاصة بالأجور متاحة للاطلاع العام منذ سنوات عديدة. وفي كندا، أسفر الإفصاح العلني عن رواتب أعضاء هيئة التدريس، التي تزيد عن حد أدنى معين، عن تقليل الفجوة في الأجور بين الجنسين. وقد التحقت بعض كيانات القطاع الخاص بهذا الاتجاه السائد. بيد أن نشر البيانات الخاصة بالرواتب بصورة علنية، في شركة البرمجيات الناشئة "بافر" (Buffer) لم يقضِ على أوجه التفاوت في الرواتب القائمة على النوع الاجتماعي، لكنه دفع الشركة إلى تحديد المصادر المحتملة للتفاوت ومعالجتها، مثل الاعتبارات الذاتية في تقييم الخبرة والجاهزية للترقية. وفي حين أنه لا توجد حالة لنظام صحي نشر البيانات الخاصة بالرواتب بصورة علنية وأظهر الآثار المترتبة على ذلك، إلا أن التجارب المستمدة من القطاعات الأخرى توضح أن هذا النهج يستحق النقاش بشأن استخدامه. وندرك أنه توجد العديد من الآثار السلبية المحتملة لإرساء الشفافية فيما يتعلق بالأجور التي ستترتب على الديناميات التنظيمية، وأنه ينبغي التحلي بالحذر عند تنفيذ أي مبادرة لإرساء الشفافية. إذ إن المؤسسة الطبية التي تدرس إرساء الشفافية فيما يتعلق بالأجور سيلزمها التأكد من إجراء عملية مراجعة متأنية للبيانات قبل نشرها، وأن تمتلك خططاً مدروسة بعناية للتعامل مع النزاعات المحتملة التي يمكن أن تنشأ بين الموظفين، وكذلك بين الموظفين والإدارة.
وتوضح البيانات المستمدة من كلية هارفارد كينيدي أن النساء يتفاوضن للحصول على رواتب أقل من رواتب الرجال في ظل انعدام المعايير المهنية الواضحة، لكنهن يتفاوضن للحصول على رواتب مكافئة عندما تكون المعلومات الموحدة للرواتب متاحة، وهو ما يشير إلى قيمة خلق بيئات مؤاتية يجري فيها تشارُك المعلومات المتعلقة بالرواتب بين الجنسين.
إشراك الحلفاء في التوجيه والرعاية
ركز قدر كبير من التوجيه والدعم بين النظراء، الذي تتلقاه الطبيبات، على الإرشاد بواسطة مرشد من النوع الاجتماعي نفسه، وعلى مجموعات النظراء. وفي حين أن هذه الطرق توفر للطبيبات القدوة الحسنة المماثلة لهن وتتيح فسحة للتفكير، إلا أنه ينبغي لهن الانخراط بصفتهن حليفات بطرق منهجية بالنظر إلى الأدلة التي توضح أن من المرجح أن يحصل الرجال على معلومات واضحة بشأن المسارات المؤدية إلى التطور في الإدارة، أو أن يتلقوا الإرشاد أو الرعاية من الأساس. ويمكن أن يعمل الرجال بصفتهم رعاة يرشحون النساء للفرص الجديدة السانحة أو بصفتهم موجهين يطرحون وجهة نظر مختلفة فيما يتعلق بالتفاوض حول الراتب أو أفكاراً بشأن الفرص التي تُعرض على الرجال المستفيدين من الإرشاد. وتبيّن الدراسات المتوفرة في القطاعات الأخرى أن الرعاية الرجالية تعتبر من الأهمية بمكان لسد الفجوة في الأجور بين الجنسين، وأن هناك من الأسباب ما يحمل على الاعتقاد بأنها ستُحدث أثراً مماثلاً في قطاع الرعاية الصحية. ويمكن أن توفر مجموعات التوجيه بين النظراء المختلطة بين الجنسين فرصاً مماثلة لتبادل البيانات الخاصة بالرواتب أو البيانات التكتيكية.
وفي حين أن أكثر المصادر الطبيعية في توظيف مرشدين وموجهين في المؤسسات يوجد داخل إطار المؤسسة نفسها، إلا أنه يمكن أن يكون من المفيد الاستعانة بموجهين خارجيين متنوعين كذلك. وقد بدأنا، في مستشفى "برغهام آند ومنز" (Brigham and Women’s Hospital) التعليمي في كلية الطب بجامعة هارفارد، في إتاحة الإمكانية لأعضاء هيئة التدريس من الإناث للحصول على موجهين خارجيين في مجالات القيادة وإقامة العلاقات المهنية وإدارة الوقت واستخدام التكنولوجيا، فضلاً عن زيادة الدعم من النظراء والتوجيه الفردي التقليدي.
وأدركنا أنه في فترة حركة #أنا_أيضاً، فقد أحجم الرجال عن إرشاد النساء أو توجيههن نهائياً، وهو ما يعد خسارة لجميع الأطراف المعنية. والأمر يعود إلى مؤسسات الرعاية الصحية لتشجيع الإرشاد المختلط بين الجنسين وتوفير التدريب والمبادئ التوجيهية اللازمة للقيام بالإرشاد على نحو أمثل وبيان العواقب الواضحة التي ستترتب على السلوك غير اللائق أو إساءة استغلال علاقة الإرشاد.
إتاحة الفرص المتكافئة في الترقيات
يستند قدر كبير من التفاوت في الأجور في المراكز الطبية الأكاديمية إلى الفوارق في الوظائف الأكاديمية، وهو ما يجعل إتاحة الفرص المتكافئة في الترقيات تشكل إحدى الأولويات. إذ إن النساء لا يشكلن سوى نسبة صغيرة من أساتذة الطب في شتى أنحاء الولايات المتحدة، على الرغم من زيادة نسبة تمثيل النساء الطبيبات في أعضاء هيئة التدريس وبين خريجي الكليات الطبية (في عام 2017، تجاوز عدد النساء اللائي التحقن بكليات طبية عدد الرجال للمرة الأولى).
وتشير هذه البيانات إلى أنه توجد حاجة إلى اتباع نُهج جديدة لضمان حصول النساء على ترقيات في الأوساط الطبية الأكاديمية. ويمكن أن تشمل هذه النهج الجديدة ما يلي: 1) تنقيح المبادئ التوجيهية للترقيات لإيجاد مسارات تكافئ الأنشطة بصرف النظر عن الأبحاث الممولة بمنح، مثل التدريس، والتي لا تُعطى اعتباراً في الترقيات التقليدية، لكنها تعتبر ذات أهمية محورية في الأوساط الطبية الأكاديمية. 2) المطالبة بإدراج الطبيبات في جميع لجان البحوث والترقيات. 3) ضمان الإعلان عن الوظائف القيادية المتاحة على نطاق واسع بدلاً من توجيهها بشكل شخصي إلى مجموعة منتقاة من المرشحين. 4) تقديم منح لدعم الارتقاء المهني للنساء، بما في ذلك منح السفر العائلية التي تتيح للنساء حضور المؤتمرات مع أطفالهن ومقدمي خدمات رعاية الأطفال. 5) توفير توجيه خارجي بصورة فردية لمساعدة الطبيبات في وضع خارطة طريق لمسارهن المهني وتصميم سيرتهن الذاتية للحصول على الترقية وتحديد ما يلزمهن تحقيقه لكي يتسنى لهن الاستعداد للخطوة التالية في مسار الترقيات.
وفي حين أنه لا توجد مؤسسة طبية بعد تعمل باعتبارها منارة يسترشد بها في مسائل العدالة في الترقيات، إلا أن العديد من المؤسسات الطبية قد أرست برامج من شأنها أن تساعد في تقليص فجوة التقدير والترقية. على سبيل المثال، يطلق معهد "دانا فاربر للسرطان" (Dana Farber Cancer Institute) في مدينة بوسطن على أكثر أطبائه براعة اسم "كبار أطباء المعهد"، للدلالة على أن الأطباء الذين يبرعون في الرعاية السريرية يحظون بالتقدير نظير جهودهم التي يبذلونها. وتتسم الكثير من المؤسسات، مثل جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس وجامعة ديوك بالعديد من مسارات الترقيات لأعضاء هيئة التدريس للترقي لمستوى أعلى، ويشمل ذلك مسارات تركز على الرعاية السريرية بدلاً من الأبحاث.
ولا تشكل المبادرات التي نقترحها سوى بداية لحل مشكلة معقدة ومزمنة، وما هي إلا بيانات بشأن تحديد بالنُهج التي ستكون أكثر نجاحاً. وقد حان الوقت لكي تنخرط مؤسسات الرعاية الصحية بقوة - وتقيِّم بدقة - المساعي المبذولة لسد الفجوة غير المثمرة وغير المبررة في الأجور بين الجنسين في القطاع الطبي.