لقد كان علم البيانات، بمفهومه الواسع، في متناول أيدينا منذ أمد بعيد. ومع ذلك، ظلت معدلات إخفاق مشروعات البيانات الكبيرة بصورة عامة، ومشروعات الذكاء الاصطناعي بصورة خاصة مرتفعة بشكل مقلق. ورغم الدعاية المفرطة (مثلاً "البيانات هي الثروة النفطية الجديدة")، إلا أنّه لا يزال يتعين على الشركات أن تشير إلى إسهامات علم البيانات في صافي مبيعات الشركة. فما الذي يجري؟ و ما هي مهام علماء البيانات الدقيقة؟
مؤخراً، قُمنا – رون كينيت، عالم البيانات الشهير، وأنا – بتبادل الآراء والملاحظات حول النجاحات والإخفاقات الخاصة بنا، وتلك الخاصة بزملائنا، في إطار مساعدة الشركات في مجال علم البيانات. فتجلَّى لنا في الحال أنّ أعظم النجاحات لم تنبثق من التفوق التقني وحدَه، بل من عوامل أكثر نعومة: مثل الفهم العميق لمشكلات العمل التجاري، وبناء الثقة لدى صناع القرار، وشرح النتائج بطرق بسيطة وفعّالة، والعمل بأناة وصبر لمعالجة عشرات المخاوف المتراكمة. وفي المقابل، فقد قُضِي على العمل الفني الممتاز في مهده بطريقة مختلفة عندما فشلنا في التواصل مع الأشخاص المناسبين، في الأوقات المناسبة، أو بالطرق المناسبة.
اقرأ أيضاً: هل نجرؤ على الدخول إلى عصر البيانات؟
في كثير من الشركات لا ينهمك علماء البيانات بما يكفي في هذا العمل شديد النعومة من جهة، والأصعب من جهة أخرى. وثمَّة سببان ساهما في هذا الأمر. أولاً: يهتم كثير من علماء البيانات اهتماماً كبيراً بمزاولة أعمالهم الحِرفية، أي العثور على المعلومات المفيدة الكامنة في البيانات، أكثر من اهتمامهم بحل مشكلات الأعمال التجارية. وهذا أمر طبيعي من بعض النواحي، ومع ذلك كله، فهم يتعلمون تسليط التركيز على البيانات وعلى الأدوات اللازمة لاستكشافها، مما يساعدهم على نَيْل تقدير أقرانهم. إضافة إلى ذلك، فإنّ تطبيق التقنيات المتقدمة يُعدّ أكثر متعةً من التعامل مع الأوضاع الفوضوية للحياة المؤسسية.
السبب الثاني: هناك ندرة في المواهب، من وجهة نظر الشركة، لذا فإنّ حماية علماء البيانات من فوضى العمل اليومي تبدو منطقية للغاية. ولكنّ هذا الأمر يزيد من اتساع الهوة بين علماء البيانات وبين أهم المشكلات التي تعاني منها الشركة وفرصها بسبب عدم معرفة مهام محلل البيانات بشكل دقيق. ومما يزيد الطين بلَّة بالنسبة للكثير من المؤسسات، أنها حديثة عهد بعلماء البيانات، ولا تزال الشركات تتعلم كيفية إدارتهم. وإنه لمن المغري أن تُثبّت علم البيانات داخل مؤسستك الحالية ثم ترجو الخير بعد ذلك.
الاستفادة من مهام علماء البيانات
إذاً، ما الذي ينبغي أن يفعله المدراء للحصول على أقصى استفادة ممكنة من برامج علم البيانات لديهم؟ وكيف يمكن تحديد مهام محلل البيانات؟
أولاً، توضيح الأهداف التجارية، وقياس مدى تقدمك نحوها
بينما يحتاج علم البيانات إلى استثمارات مبدئية، إلا أنه ينبغي عليك أن تتوقع نتائج حقيقية في غضون عامين، من ناحية توفير النفقات، أو العائدات الجديدة، أو تحسين مستوى رضا الزبائن، أو الحد من المخاطر. وتبدو النتائج بالغة الأثر كما هو واضح. بالنسبة لأكثر الناس، فإنّ هذا يعني الإقرار بأنك لست مستعداً بعد لاستخدام التكنولوجيا المبالَغ في الترويج لها، مثل قدرة الآلة على التعلُّم، والتركيز أولاً على المزيد من الفرص الأساسية، مثل وضع العمليات التشغيلية تحت السيطرة، وتحسين جودة البيانات، وابتكار طرق أعمق لفهم الزبائن.
ثانياً، الاستعانة بعلماء البيانات الأنسب للمشكلات التي تواجهها، وشَغلهم على الدوام في العمل الذي تقوم به مؤسستك
إنّ الكفاءة الفنية مسألة مهمة بلا شك. ولكن عليك أيضاً أن تسعى إلى توظيف أولئك الحريصين على عملك، المتحمسين لمساعدتك في جعله أفضل حالاً. ثم تحقق بعد ذلك من ارتباطهم الوثيق بأصحاب المصلحة المهمين، وانهماكهم في فوضى العمل وزحامه. واحذر من عزل علماء البيانات في صوامع منعزلة. وبدلاً من ذلك، فكّر في دمجهم في الإدارات التي يدعمونها.
ثالثاً، المطالبة بتولي علماء البيانات المسؤولية الكاملة لعملهم
ولست أبالغ إذ أؤكد على أهمية العمل الذي يسبق التحليل، لا سيما فهم المشكلة. فبدون عرض واضح ومفصَّل للمشكلة، يصبح العمل الذي يعقب ذلك مجرد رحلة لتقصي الحقائق وجمع المعلومات. إنّ فرز ذلك العرض المفصَّل للمشكلة يُمكن أن يكون معقَّداً بسبب جداول الأعمال المتضاربة والخوف والتفكير المشوَّش لأولئك المسؤولين عن المشكلة. فالأمر يحتاج إلى المهارة والصبر، لا سيما من علماء البيانات الجدد المتحمسين لإثبات وجودهم. والخبراء يعرفون هذا الأمر بشكل أفضل. فالمشكلة إذا صيغت بشكل واضح يمكن لها أن تخترق الضباب السياسي، كما أنها تطرح أسهل وأنجع الحلول التي ربما لا تحتاج حتى إلى علم البيانات. لقد اكتشفت كثيراً، خلال عملي كمستشار للشركات، أنّ مساعدة تلك الشركات في فهم مشكلاتها الحقيقية تمثّل أكثر من نصف القيمة التي أضفتُها إليها.
كذلك فإنّ العمل اللاحق للتحليل له الأهمية نفسها، إذ يجب أن تصمد الرؤى الثاقبة والخوارزميات أمام قسوة الحياة الواقعية. وتعتبر القضايا السياسية الصغيرة، على ما يبدو، من الأهمية بمكان، فهي تختبر مرة أخرى صبر علماء البيانات الناشئين عديمي الخبرة. ويعرف علماء البيانات الأقدم أن السياسة أيضاً يمكن أن تعمل لمصلحتهم، وهم يخصصون وقتاً لإشراك المتضررين من أعمالهم جميعاً.
أخيراً، الإصرار على أن يُعلّم علماء البيانات الموظفين الآخرين، داخل إداراتهم وعلى امتداد الشركة
فجميع الناس ينتفعون حين يستخدمون علم البيانات بشكل أكبر قليلاً في وظائفهم، ولكنّ أكثرهم لا يملكون المهارات اللازمة. لذلك فإنّ التدريب الجيد، إذا كان في محله المناسب، يمكن، مع القليل من التشجيع، أن يقطع شوطاً طويلاً في مساعدة الموظفين لإتمام المشروعات البسيطة. ولقد وضِع علماء البيانات ببراعة في مواقعهم المناسبة في شركتك لتقديم ذلك التدريب، وتعليم الموظفين على امتداد الشركة. كذلك فإنّ هذا الأمر سوف يساعد علماء البيانات في تعلم الأعمال التجارية.
إنّ الثقة هي الخيط الناظم لتلك التوصيات كلها، ولا مفر للمديرين من الإصرار على أن يعمل علماء البيانات لنيل تلك الثقة. ولابد من منحهم فرصة عادلة لتحقيق ذلك.
ولتوضيح تلك النقاط الأربع، تأمّلْ في بعض علماء البيانات ممن تم توظيفهم في أحد الأقسام الجديدة بإحدى شركات التكنولوجيا الفائقة، فأُسنِدت إليه مهمة تخطيط القدرة الاستيعابية لشبكة الاتصالات في القسم الذي يعمل به (وقد عملت أنا كمرشد غير رسمي له). إنّ تخطيط شبكة اتصالات أمر معقد كما هو معروف. فالشبكة التي تعمل "على مدار الساعة تقريباً" تعني حدوث بعض التأخيرات في أوقات ذروة الطلب، مما يُغضب الزبائن، ويهدد اتفاقيات مستوى الخدمة، ويدمر السمعة. ولكنّ تكاليف تحسين الأداء خلال أوقات الذروة يمكن أن تزيد بوتيرة مخيفة. لذلك كان من الضروري أن يفهم قادة الشركة مبدأ الموازنات.
اقرأ أيضاً: هل تنتفع ببياناتك أم تجمعها فحسب؟
فعالم البيانات يطرح مبدأ الموازنات لكبار قادة القسم على النحو التالي "علينا أن نقرر أولاً أي نوع من الشبكات نريد. نستطيع، مجازاً، أن نحصل على "شبكة الدب الأب"، أو "شبكة الدب الأم"، أو "شبكة الدب الابن". وها هي ذي الآثار المترتبة على كل واحدة منها". إنّ المقارنة التي عقدها عالم البيانات ساعدت صناع القرار المؤسِّسين وجعلتهم يُفكرون في تبعات العمل التجاري بطريقة مختلفة، كما ساعدتهم في فهم السبب وراء حاجتهم لفهم الرسوم البيانية لما يُسمى "بالتكلفة في مقابل التوفر". وعلى الفور حاز عالم البيانات على قدر من الثقة لدى كبار القادة. وبدوره، وكمشارك أساسي في النقاشات فقد نشأ لديه احترام عميق للشركة، ولخطتها طويلة الأجل، والموقع المنشود في السوق، والقيم الأساسية لها.
اقرأ أيضاً: يمكنك تحسين بيانات مبيعاتك بالقليل من التنظيم
إنّ من السهل أن نرى المبادرة التي قام بها عالم البيانات هذا. وأنا أنصح الآخرين في الواقع أن يقتفوا أثره. لاحظ أيضاً أنّ هذا القسم عيّن الرجل لأجل ما لديه من إمكانات فنية، وبالقدر ذاته، لأجل ما لديه من مهارة في العمل مع الآخرين، وحرص على تعلم ثقافة العمل التجاري، واستعداد تام للمشاركة في حل المشكلات العويصة. وقد ساعده رؤساؤه في ذلك.
إنّ علم البيانات يشبه الرياضة الجماعية، غير أنه ليس لعبة. ويتعين على المدراء أن يوضحوا أنّ الهدف هو تحسين الأعمال التجارية، كما يتعين عليهم أيضاً الاستفادة من مهام علماء البيانات إضافة إلى توظيف من يساعدهم في القيام بذلك. عليهم أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم لضم علماء البيانات إلى فرقهم، وعليهم أن يصروا على أن يشارك علماء البيانات بشتى السبل الممكنة، قبل العمل الفني وأثنائه وبعده.
اقرأ أيضاً: هل تنتفع ببياناتك أم تجمعها فحسب؟