تقع شركة "فيلا بون نوفيل" (Villa Bonne Nouvelle) والتي يطلق عليها ("بيت الأخبار الطيبة") واختصارها "في بي إن" في حي سيليكون سانتييه بباريس، وتبدو للوهلة الأولى مجرد مساحة مفتوحة للعمل المشترك. لكن ما يميزها هو أن نصف قاطنيها البالغ عددهم 60 شخصاً يعملون لحسابهم الخاص، أما الباقون فيعملون لصالح شركة "أورانج" التي تأسست باسم "فرانس تيليكوم" (née French Telecom) والتي أطلقت "في بي إن" في العام 2014 لتعليم مبرمجيها ومهندسيها كيفية العمل مع أشخاص من خارج الشركة والتعلم منهم.
ونجحت التجربة: فالفرق الموجودة هناك عملت مؤقتاً بشكل أفضل وأسرع من زملائهم في أماكن أخرى، وعبرت عن المزيد من الرضا والمشاركة (إلى جانب نوبات الاكتئاب عند العودة إلى المكاتب الأساسية). وفوجئ مدراء الموارد البشرية أنفسهم الذين يديرون المكان بالمودة التي اتسمت بها الفرق. وهذا ما أدى لانتشار المزيد من هذه الفلل الآن لتتحول إلى أماكن عمل مشتركة.
وتصف "أورانج" منهجها بأنه "عمل شركات مشترك" (corpoworking)، وهو شبيه بعمل الأفراد في أماكن مشتركة. وأورانج ليست وحدها التي تحاول اللحاق بتيار مساحات العمل المشتركة، التي يوجد منها الآن حوالي 19 ألف شركة في كل أنحاء العالم. فعشرات الشركات، بدءاً من شركات الاتصالات ("سبرينت"، "أيه تي آند تي")، إلى عمالقة التكنولوجيا ("ساب"، "آي بي إم")، إلى شركات صناعة السيارات وشركات التأمين ("ميني، "ستيت فارم")، أطلقت تجارب مماثلة. لدرجة أن الثورة الحقيقية في العمل ضمن المساحات المشتركة لم تعد تقاس بالأفراد العاملين لحسابهم الخاص أو الشركات الناشئة بل بموظفي الشركات الكبيرة الذين يعملون خارج مقرات مؤسساتهم ويجلسون في هذه المساحات المشتركة.
ومن الأمثلة على ذلك شركة "وي وورك" (WeWork)، وهي شركة توفر مساحات للعمل المشترك، نمت قاعدة عملائها من المؤسسات في العام 2017 بنسبة 370%. واعتباراً من يونيو/ حزيران 2018، يشكل شاغرو هذه المساحات الآتين من شركات ما يقرب من ربع أعضاء "وي وورك" وتجني منهم ربع عائداتها. كذلك تنشئ الشركة مواقع مستقلة للعملاء المخصصين مثل "آي بي إم" و"يو بي إس" و"فيسبوك".
قد يظن بعض الناس أن هذه الشركات ربما اعتمدت نموذج عمل موظفيها عن بعد عبر المساحات المشتركة كنوعمن الموضة. لكن بحوثنا وتقاريرنا تظهر أن الأمر ليس كذلك. فقد قمنا بجولات منفصلة وأجرينا مقابلات مستقلة مع مديري أكثر من اثنتي عشرة مساحة من مساحات العمل المشترك لشركات في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وأوروبا خلال السنوات الثلاث الماضية. ووجدنا أن هذه الشركات وموظفيها يبحثون عن المواصفات نفسها التي يذكرها العاملون المستقلون لحسابهم الخاص ورواد الأعمال من تجاربهم في مساحات العمل المشتركة - وهي مهارات التعلم بشكل أسرع واكتساب المزيد من المعارف والشعور بالإلهام والتحكم.
وبالإضافة إلى مساحات العمل المشترك للأفراد وتلك التي يتم مشاركتها مع أصحاب العمل، قمنا بتحديد نوعين من العمل المشترك للشركات. نسمي أحدهما البيوت المفتوحة، حيث تقدم الشركات مساحة عمل كمرافق عامة، وذلك عادة لبناء العلامة التجارية. ففي بروكلين، مثلًا، تشغل شركة "ميني"، حيث يعمل أحدنا مقراً للعمل المشترك يسمى "إيه/دي/ أو" (A/D/O)، وهو مزيج من مساحة للعمل المشترك، ومقهى ومخزن متخصص ومعمل للتصنيع. وغرض شركة "ميني" هنا لا يتمثل في بيع السيارات، بل في جذب المصممين المحليين والتعلم منهم.
ونسمي النوع الآخر المخيمات - وهي مساحات داخلية يجري الدخول إليها بدعوة فقط، وتتشارك هذه المساحة فرق من شركة محددة مع أقران آخرين. وتعتبر هذه المخيمات مؤقتة، وتوفر للعاملين المشتركين فرصاً للتعلم، وتتجاهل الهياكل التنظيمية، وتتعاون خارج حدود الشركة. وتُعتبر "في بي إن" التي تتبع "أورانج" مثالًا على ذلك؛ والمثال الآخر هو شركة اتصالات كبيرة في وادي السيليكون، تتزاحم فرقها مع العملاء وموظفي تطوير المنتجات والخدمات. ويتم خلال أسابيع الانتهاء من مشاريع يمكن أن تستغرق عدة أشهر من المكالمات، ما يدل على أهمية المشاركة في الابتكار.
وتختبر بعض الشركات كلا النوعين بقوة. يقع مقر العمل المشترك "هانا هاوس التابع" لشركة "ساب" في وسط مدينة بالو ألتو، وهو منزل مفتوح يفرض رسوم دخول قدرها 3 دولارات في الساعة، أو ما يساوي تقريباً تكلفة كوب من القهوة في مقهى من مقاهي "بلو بوتل". (ومن بين الزوار البارزين مارك زوكربيرغ). وعلى بعد بضعة أميال، في حرم الشركة في سيليكون فالي، يقع مقر "آب هاوس"، وهو واحد من خمسة مخيمات منتشرة في كل أنحاء العالم، حيث يعمل مهندسو "ساب" مع عملاء محليين وشركات ناشئة لاستكشاف برمجيات استهلاكية.
لكن ما هي أهداف مساحات العمل المشترك للشركات؟ ومن يستخدمها؟ وكيف تبدو؟ وهذا ما تعلمناه:
قد يختلف الغرض من هذه المساحات إلى حد كبير، لكنها تقع عادة في واحدة أو أكثر من مجموعات ثلاث: التحول والابتكار والحماية المستقبلية. وفي حالة التحول، تُصمم المساحة لتكون حصان طروادة، تتسلل عبره طرق جديدة للعمل في المؤسسات الجامدة. وهذا هو الهدف الواضح في "في بي إن" التابعة لـ "أورانج، والتي وصفتها آفا فيرجيتي، وهي أحد المسؤولين عن تجربة الموظفين في "أورانج"، بأنها "مختبر للموارد البشرية" لتجربة ومعرفة كيف تتصرف الفرق في ظل وجود شركات ناشئة أصغر حجماً وأكثر رشاقة.
والابتكار هو الهدف في مخيمات أخرى، حيث يجري تجميع الأطراف المعنية المتعددة مع إعطائهم مهام محددة ومرافق ومنهجيات خاصة (مثلًا، التفكير التصميمي) لتحقيق الابتكار. وتُعتبر التنبؤات المستقبلية متاحة أكثر؛ فقد صُمِّمت هذه المساحات لتوليد جهات اتصال أو أفكار جديدة، ويبدو أن هذا هو التفكير وراء "هانا هاوس".
ولهذه الأسباب، يكون المستخدمون في الأغلب متنوعين تماماً في الرتبة والدور الوظيفي والشركة التي يعملون فيها، ويأتون هنا لبضعة أشهر فقط قبل أن يتم تبديلهم مع موظفين آخرين أو العودة إلى الشركة. وهذه ميزة مهمة في المخيمات على وجه الخصوص - فتدوير الموظفين يعني تياراً مستمراً من الأفكار والخبرات الجديدة. وتستخدم "في بي إن" التابعة لأورانج" "مواسم" لمدة تسعة أشهر لبدء العمل في المساحة من الصفر؛ ويقوم الآخرون بتغيير المشاركين حسب الحاجة.
وفي حين يتعلق تركيز العديد من الأماكن على إنشاء منتجات وخدمات رقمية جديدة، إلا أن الأدلة من استبيانات العمل المشترك الأوسع نطاقاً تشير إلى أدوار أخرى قد تستفيد من هذه الممارسة. في غراند رابيدز، ميشيغان، مثلًا، يضم مقر العمل المشترك المسمى "غريد70" فرق التصميم والابتكار في الأعمال، وفرق لتطوير المنتجات من سلسلة لمتاجر البقالة، ومتاجر لبيع الأحذية بالتجزئة، ومصنع السلع الاستهلاكية - من دون الحاجة إلى الترميز.
والأهم هو تنظيم مزيج الموظفين والشركات الناشئة ورواد الأعمال والعاملين لحسابهم الخاص والباحثين وحتى الأكاديميين الحاضرين. وفي حين ترحب البيوت المفتوحة بالجميع تقريباً كجزء من جهودها في التسويق والتواصل، تختار المعسكرات المشاركين بعناية وفق الخبرة أو الشخصية أو الملاءمة الثقافية.
ويُعتبر العنصر الأخير حاسماً. ففي حين تختلف ثقافات هذه الأماكن باختلاف الصناعة والجغرافيا وما إلى ذلك، إلا أنها تختلف دائماً عن المؤسسات الأم (وتعارضها في الأغلب). وليس هذا مفاجئاً نظراً لهدفها المتمثل في تهريب فوائد العمل المشترك إلى الداخل. ومقابلة بعد أخرى، شدد مدراء المجموعات على أهمية مبادرة الأعضاء وانفتاحهم وفضولهم وثقتهم، بالإضافة إلى روح العمل، أو ما يسمى "روح العائلة".
ولا يمكن بأي حال التقليل من دور مدراء المجموعات في تعزيز هذه الثقافة. ويساعد مدراء المجموعات، الذين لم يكن لهم من وجود قبلاً في ثقافة الشركات الأميركية، في اختيار المستخدمين الجدد والتدقيق في خلفياتهم وتحضيرهم للعمل، وربطهم بالمستخدمين الحاليين أثناء تنظيم المساحة والتحكيم في النزاعات واستضافة الفعاليات. وتُصنّف استبيانات رضا المستخدمين هؤلاء المدراء باستمرار على أنهم الجانب المفضل في العمل المشترك للشركات.
ويتمثل الجانب الآخر المهم في إنشاء هذه المساحات في تصميمها المادي. فعلى غرار الثقافة، التي يكملها التصميم ويعززها، يكون تخطيط هذه المساحات ومزاياها مختلف تماماً عن أماكن العمل التقليدية. فلا شيء ثابت - ومن الشائع استخدام اللوحات البيضاء والجدران المتحركة وقطع الأثاث المتنقلة. وتُوضَع وسائل الراحة والمطابخ في موقع استراتيجي من أجل "هندسة المصادفات السارة" والمحادثات عبر المؤسسات. وتُشجع الكتابة على الجدران أو الأرضيات، إذ إن صنع الفوضى يُعتبر مقدمة للابتكار.
والآن، هل تعمل هذه المساحات على تشجيع الابتكار؟ يبدو أن هذا ما يحدث فعلاً، على الرغم من صعوبة قياس فعاليتها وعدم إمكانية قياسها كمياً إلا بشكل غير مباشر فقط من خلال استبيانات رضا المستخدمين والمقابلات، كما هي الحال مع العمل المشترك في شكل عام.
وقدمت أيضاً بعض الشركات التي تحدثنا معها بعض الأمثلة. لقد سجلت "في بي إن" التابعة لـ "أورانج" نسبة 92% من تأييد المستخدمين للمساحة، وأشارت إلى قائمة انتظار طويلة للمواسم المستقبلية. وفي "غريد70"، أبلغ أحد المستأجرين عن انخفاض بنسبة 30 إلى 40% في وقت تطوير المنتجات بعد إعادة تصميم مساحة العمل الخاصة به.
ووفق باحثين في جامعة ميشيغان، يتمثل أكثر الأسباب شيوعاً لبحث الناس عن أماكن العمل المشترك في التفاعل مع الناس (84%) والاكتشافات والفرص العشوائية (82%)، وتشارك المعرفة (77 %). ويبحث زملاء العمل في الشركات عن الأمور نفسها.
إن إثبات عائد الاستثمار، وكما قد يتوقع المرء، لهو أمر صعب، ومعظم المعنيين لا يفكرون حتى مجرد التفكير في ذلك. ويتجنب البعض المقاييس تماماً، ويراهنون على التعلم مع الوقت عندما يتعلق الأمر بقياس الأمور المهمة. ويفضل كثر المقاييس البسيطة كالرضا والمشاركة المذكورين أعلاه، ولا يزال آخرون يؤجلون القياس إلى المستقبل، ما يقلل من النفقات، فيما ينتظرون ظهور حالة أعمال.
ولهذا السبب (وغيره)، يحتل الرعاة من المدراء التنفيذيين الأقوياء أهمية خاصة بالنسبة للعمل المشترك للشركات. تأسست "هانا هاوس" بدافع شخصي من مؤسس "ساب" هاسو بلاتنر؛ وجرى تصميم "غريد70" من قبل مجموعة من الرؤساء التنفيذيين المحليين. وتتمتع "في بي إن" التابعة لـ "أورانج" بدعم قوي من كبار المسؤولين التنفيذيين للموارد البشرية، وما إلى ذلك. ونظراً إلى أن المقاييس غير واضحة إلى حد كبير، يُتّخَذ القرار في شأن ما إذا كانت هذه المساحات تستحق ذلك أم لا في كل حالة على حدة.
ومثلما كان يُنظر إلى العمل المشترك كظاهرة هامشية قبل أقل من عقد من الزمن، تواجه نسخته الأحدث خطر اعتبارها مشروعاً شكلياً. لكن في ضوء الاتجاهات التي تحفز العمل الإبداعي اليوم - أي الترتيبات المرنة على نحو متزايد، والتعاون عبر الشركات، وتعطش الموظفين لحرية التصرف والعلاقات الأصيلة - تشير هذه المساحات إلى مستقبل أبعد بكثير من "وي وورك".
ولقد حددنا بعض المبادئ التي يجب وضعها في الاعتبار إذا كانت شركتك مهتمة باستكشاف مساحات العمل المشترك للشركات.
كن واضحاً بشأن أهدافك من البداية. هل المساحة حصان طروادة لثقافة الشركة أم أنها مخصصة لأعمال ابتكارية عبر أكثر من شركة، أم تتعلق بتمرين على بناء علامة تجارية عامة وبمحرك للمصادفات السارة؟ سيقود هذا القرار كل جانب من جوانب المشروع خلال المضي قدماً، بما في ذلك المشاركين، والتصميم، والرعاية، وعائد الاستثمار.
ويمثل مدراء هذه المقرات مفتاح النجاح. وعليك اختيارهم بعناية في البداية، وإشراكهم في كل خطوة من عملية التصميم والتوظيف، ومنحهم مساحة واسعة في تشكيل ثقافة المكان وبرمجة المساحة. ومن المحتمل أن يفشل مشروعك من دون وجود مدير قوي للمجموعة، ويُعتبَر تعلم كيف يمكن أن يتوسع دوره في مكان آخر في المؤسسة فرصة رائعة.
لا تنشغل كثيراً بفكرة تصميم المقر. ركز قليلاً على كرة القدم أو طاولات كرة الطاولة وركز أكثر على مبادئ التخطيط الكلي الجيدة. وقم بنقل فرق العمل إلى أماكن متجاورة كي يسهل التواصل فيما بينهم؛ وضع وسائل الراحة مثل المطابخ في مكان وسيط لزيادة لقاءات الصدفة (نعم، يمكن التخطيط لغير المخطط له!). ومكّن المستخدمين من جعل المساحة خاصة بهم، واقطع الطريق على الروتين أثناء البناء، فلا أحد يريد قضاء تسعة أشهر في غرفة فريق يعمل على مشروع آخر.