عندما ألقى ألان غرينسبان محاضرة في حفل تخريج طلبة جامعة "هارفارد" عام 1999، ركزت رسالته على مظاهر الثروة والرخاء التي ظهرت في جوانب عديدة من الحياة الأميركية. قال غرينسبان للخريجين الجدد: "لقد ورثتم الأدوات التي تتيح لكم تحقيق وجودكم المادي، وهي أدوات لم يحلم بها جيلنا ولا الجيل الذي سبقه، ولو من بعيد، بامتلاكها في بداية مسيرتهم المهنية". كما أن أرباح أسواق المال في تلك الفترة تضاعفت جداً، ووصلت البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ ثلاثين عاماً. وذكّر غرينسبان الطلبة بأن الولايات المتحدة "تتمتع بمستوى عظيم من الرخاء غير مسبوق في العالم".
تخيّل أنك واحد من أولئك الطلبة في ذلك اليوم، وكنت على وشك الانطلاق في مسيرتك المهنية. فما الذي تتوقع أن يحمله لك المستقبل؟ هل هذه التوقعات ستكون مختلفة لو انطلقت في مهنتك قبل 10 سنوات، أي خلال فترة الركود العظيم؟
عادة ما تكون فترة الشباب المبكرة هي المرحلة التي تتشكل فيها الكثير من الانطباعات والتوجهات. فالشباب في هذه الفترة لديهم الميل الكبير لمتابعة الأفلام والاهتمام بالموسيقى والكتب الرائجة خلال سنوات نشأتهم. إنها أيضاً الفترة التي يستكشفون فيها بعض التوجهات ويعتنقونها. وربما يؤثر الوضع الاقتصادي على القيم والاهتمامات التي تنغرس عند الشخص لبقية حياته. على سبيل المثال، يميل الأشخاص الذين يمرّون خلال مرحلة شبابهم بظروف ركود اقتصادي إلى الاهتمام بقضايا الأمن الاقتصادي والوطني، ويكونون أكثر حرصاً على ضبط نفقاتهم الشخصية والمهنية.
أما الإنسان الذي يدخل مرحلة الشباب في ظل ازدهار ونهوض اقتصادي، فيجد انعكاس ذلك على سلوكه في العمل، ويستمر هذا الأثر طوال عقود عديدة. على سبيل المثال، نرى الرؤساء التنفيذيين الذين بدؤوا مسيرتهم المهنية في مرحلة اقتصادية مزدهرة يميلون إلى الاعتماد على استراتيجيات مالية أكثر مخاطرة، مقارنة بالرؤساء التنفيذيين الذين شهدوا ركوداً اقتصادياً في بداية حياتهم العملية. أيضاً، أولئك الذين يبدؤون حياتهم العملية في فترات الرخاء الاقتصادي يكونون عادة مفرطي الثقة بقدراتهم، ويعتقدون أنهم جديرون بنتائج أفضل، ويخصصون لأنفسهم من المكافآت أكبر بكثير مما يحصل عليه كبار المدراء التنفيذيين الذين نشؤوا في ظروف أخرى.
وبناءً على ما سبق من ملاحظات، تولّد لدينا هذا السؤال: هل يمكن للرؤساء التنفيذيين الذين نشؤوا في فترات الرخاء الاقتصادي أن يكونوا أقل التزاماً بالنزاهة الأخلاقية من سواهم؟
وينبع سؤالنا من الفكرة التي "ترى وتفترض" ارتباط أوقات الرخاء والوفرة بالانحراف الأخلاقي. حيث يسهل في هذه الظروف الاقتراض، وتتفشى مظاهر الإسراف في الإنفاق وتتضخم الثروات. وتشيع المضاربات وعمليات الاحتيال والنصب مع ازدياد اهتمام الناس باقتناص شيء من تلك الثروات المتزايدة. ويسهل ستر تلك التجاوزات تحت غطاء الأرباح الكبيرة. كما تكون الشهية مفتوحة لمزيد من المخاطرة والتفاؤل وفرط الثقة، وأي واحدة من هذه الصفات تزيد احتمالية تجاوز المرء للحدود الأخلاقية. وفي الواقع، أشار العديد من المتحدثين في الشأن الاجتماعي إلى أن كل طفرة اقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة ارتبطت بانتشار واسع لأنماط سلوك غير أخلاقية، وذلك مثل تفشي الفساد خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، وصولاً إلى انتشار ممارسات الإقراض ذات التصنيف الائتماني المنخفض، التي انتشرت مطلع الألفية الجديدة.
وإذا اعتبرنا الظروف المبكرة في مسيرة العمل يمكنها ترك بصمة طويلة المدى على أنظمة العمل والنماذج الذهنية التي يحملها الآخرون معهم طوال فترة شبابهم، فقد افترضنا أن الرؤساء التنفيذيين الذين يبدؤون حياتهم المهنية في ظروف اقتصادية جيدة هم أكثر ميلاً للجوء إلى الغش في فترة لاحقة من حياتهم. حيث بالنسبة للرؤساء التنفيذيين الذين انطلقوا في أعمالهم عبر فترة كانت الوظائف متاحة على نطاق واسع، وكان فيها شيوع أكبر لبعض الأساليب الملتوية، فإن الغش أو تجاوز القواعد يصبح القاعدة الجديدة المعتمدة لدى الكثيرين في أداء الأعمال من أجل تحقيق النجاح والصمود. وبمجرد أن يبدأ الشخص بتسويغ الممارسات غير الأخلاقية مثل القول: "أنا أحصل على ما أستحقه"، هذه الطريقة في التفكير سرعان ما تنتقل لتظهر في مواقف ومجالات أخرى.
في حين اختبرنا فرضيتنا هذه عبر النظر في عملية تأخير تنفيذ الخيارات إلى تاريخ سابق عندما كان سعر السهم فيه منخفضاً، وقد نفذها 2,012 رئيس تنفيذي أميركي خلال عشر سنوات، من العام 1996 حتى العام 2005. وكان أسلوب تأخير تنفيذ الخيارات (Backdating) ممارسة غير نزيهة، وغالباً ما كانت غير مشروعة. وإليكم طريقة عملها: كان الرئيس التنفيذي يتلقى إشعاراً بصدور منحة خيارات المساهمة في تاريخ معين، ويرسل تقريراً إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات يشير إلى أنه تم إصدار المنحة في تاريخ مختلف، عندما كانت أسعار الأسهم أدنى. وهذا يتيح للرئيس التنفيذي تحقيق أرباح مالية أكبر عند بيع السهم، وذلك عبر تزوير السجلات المالية وعدم قول الحقيقة للهيئة. وفي مارس/ آذار 2006، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" قائمة بحالات مثيرة للشبهة من منح خيارات الأسهم في ست شركات كبيرة، وبعد التحقيقات تم فصل الرؤساء التنفيذيين في تلك الشركات أو إعادة المكاسب التي حصّلوها بطريقة غير مشروعة، وبعدها تم تغيير إجراءات إعداد التقارير المالية لمنع وقوع هذه العمليات من جديد.
وتعد هذه العملية أمراً يصعب إثباته إن لم تكن هنالك قرائن كافية، خاصة مع وجود فرصة بأن الرئيس التنفيذي قد يكون محظوظاً فعلاً فقط، وهذا هو سبب تهرب العديد من الرؤساء التنفيذيين من المساءلة القانونية. ولكن يمكن تحديد أولئك الرؤساء التنفيذيين المحظوظين دوماً بطريقة تثير الريبة. حيث كانت هنالك آلية اتبعها باحثون آخرون ترى أن عملية تأخير تاريخ خيار الأسهم تحدث عادة إن استلم الرئيس التنفيذي إشعار المنحة في أفضل الأيام الممكنة لإدراجها في التقرير المالي. وعلى الرغم من وجود احتمالية بكون الرئيس التنفيذي محظوظاً فعلاً في هذه الحالة، فإن الدراسات أظهرت أنه كان من الممكن تقديم 2.5% فقط من منح خيارات الأسهم في تواريخ مناسبة للغاية من أجل الحصول على الفرصة في إجراء العملية.
بعد ذلك جمعنا معلومات حول الخلفية الأكاديمية لكل واحد من الرؤساء التنفيذيين في عينة بحثنا، من معلومات عن الأماكن التي درس فيها كل واحد منهم، والشهادات التي حصّلوها، وسنوات تخرجهم الجامعي (معظمهم كانوا خريجي الستينيات والسبعينيات والثمانينيات). ثم نظرنا فيما إذا كان الرؤساء التنفيذيون حصلوا على شهاداتهم العليا في فترات رخاء اقتصادي، في ظل تراجع كبير لمعدلات البطالة، وما إذا كان ذلك يؤثر على مستوى ممارستهم للغش بتأخير تاريخ منح خيارات الأسهم. وكان افتراضنا في مكانه. وحتى بعد أخذ بعض المتغيرات الأخرى بعين الاعتبار، مثل حجم الشركة أو مجال العمل أو عدد خيارات الأسهم الممنوحة وغيرها، تبين أن الرؤساء التنفيذيين الذين تخرجوا خلال فترات الرخاء الاقتصادي أكثر ميلاً بنسبة 30% من غيرهم لتزوير تواريخ خيارات الأسهم مقارنة بأولئك الذين تخرجوا في فترات اقتصادية صعبة. ويمكن القول ببساطة إن الرئيس التنفيذي الذي بدأ مسيرته المهنية في فترة ازدهار اقتصادي أكثر ميلاً للغش من سواه.
ولا يوجد شك بأن التخرج خلال فترات الركود الاقتصادي له آثار سلبية أيضاً. فالأشخاص الذين تخرجوا في تلك الفترات لا يحققون عادة سوى مكاسب مالية أقل، كما أنهم يصلون إلى مناصب أقل تميزاً مقارنة بأقرانهم الذين نشؤوا في فترات رخاء اقتصادي. وحتى لو وصل أحدهم إلى منصب الرئيس التنفيذي، تشير الأبحاث إلى أنه سيكون في شركة أصغر وأقل شهرة.
وعلى الرغم من هذه السلبيات، فإن الخريجين في فترات الركود الاقتصادي يتميزون في أدوارهم الوظيفية والإدارية، تشير دراسات أخرى إلى أنهم يتمتعون بمستوى أكبر من الرضا الوظيفي، وأنهم أقل نرجسية، ويستمرون في العمل مع شركاتهم لفترات أطول. كما أنهم أكثر التزاماً بقيم النزاهة الأخلاقية مقارنة بغيرهم.