العمل عن بعد لا يعني استمرار الاتصالات عبر الفيديو طوال اليوم

8 دقائق

أبعدت أزمة "كوفيد-19" الموظفين عن أماكن العمل، وبات أصحاب العمل عموماً يتقبلون، ولو بشيء من التردد، أنه بإمكان الموظفين العمل عن بعد بكفاءة ولو من منازلهم. لذا، فهم يشجعونهم على الالتزام بعادات يوم العمل التقليدي كطريقة للتعويض عن هذا التباعد والإبقاء على روح مكان العمل ولو على نحو افتراضي، ورسالتهم هي أنه لا بأس في العمل من المنزل، ويمكن أن يؤدى بفاعلية كبيرة ما دام جميع الموظفين يشاركون في الاتصالات عبر الفيديو على مدار اليوم.

لكن غالباً ما يواجه الموظفون بعض الصعوبات أثناء يوم العمل عندما يعملون من منازلهم، بسبب اضطرار كثير منهم للتعامل مع الاحتياجات المنافسة لأسرهم الملزمة أيضاً بالبقاء في المنزل. إذن، ما مدى فاعلية العمل من المنزل إذا كان الجميع لا يزالون يعملون في أوقات محددة؟ هل يمكن التخلي عن هذه الأوقات؟

يبدو أن الجواب هو "نعم، ذلك ممكن". فقبل انتشار الجائحة، كنا ندرس ممارسات العمل عن بعد في الشركة التقنية "غيت لاب" (GitLab) بهدف معرفة ما سيكون عليه شكل العمل إذا ما تخلت الشركات عن السلاسل الزمنية والارتباط بمكان العمل.

التحدي الذي واجهته شركة "غيت لاب"

تقوم شركة "غيت لاب" منذ تأسيسها عام 2014 على عمل جميع موظفيها عن بعد، ويبلغ عدد هؤلاء الموظفين الآن أكثر من 1,300 موظف منتشرين في أكثر من 65 دولة. تستخدم طريقة "غيت" في العمل أدوات تتيح للموظفين العمل على مشاريع مستمرة من أي مكان في العالم وفي الأوقات التي تناسبهم. والفكرة هي أنه طوال الوقت، هناك مكان ما في العالم يكون الوقت فيه ما بين التاسعة صباحاً والخامسة مساء، وبذلك يمكن أن يستمر العمل على مدار الساعة ويزيد الإنتاج الكلي. هذا يبدو جيداً، لكن القوة العاملة المتدرجة من ناحية الوقت والمكان تشكل تحدياً فريداً من نوعه فيما يتعلق بالتنسيق، وتترتب عليه عواقب تنظيمية واسعة النطاق.

والطريقة الطبيعية لتوزيع العمل على عدة مواقع هي بجعله تجميعياً ومستقلاً، كي تقل الحاجة إلى التنسيق المباشر، حيث يمكن للموظفين العمل بفاعلية من دون معرفة مدى تقدم زملائهم في العمل. وهذا ما يجعل العمل الموزع يتسم بدرجة عالية من الفاعلية في مراكز الاتصال وعمليات تقييم براءات الاختراع. لكن هذا الأسلوب له سلبياته فيما يتعلق بأنشطة التطوير والابتكار، حيث لا يكون من السهل تمييز مواضع الترابط بين مكونات العمل بصورة مسبقة.

لذا، غالباً ما يكون أسلوب الموقع المشترك والتواصل المستمر أفضل في التعامل مع هذا النوع من العمل المعقد، لأنه يوفر ميزتين أساسيتين، وهما التزامن وغنى الوسائط، إذ تنعدم الثغرة الزمنية في التعامل بين شخصين أو أكثر عندما يعملون في موقع مشترك. ومع أن محتوى المحادثات لن يختلف بين التعامل الشخصي وجهاً لوجه والبيئة الافتراضية، لكن التقنية قد لا تكون قادرة تماماً على إيصال الإشارات الاجتماعية الشخصية وإشارات الخلفية السياقية، فليس من السهل الشعور بردود أفعال الآخرين في اجتماع عبر منصة "زووم" مثلاً.

وكل هذا يعني أن مجرد محاولة تكرار ما يحدث بصورة طبيعية في مكان العمل المشترك من خلال التعامل عبر الإنترنت (عبر اتصال الفيديو أو المحادثات الصوتية) لن تكون استراتيجية ناجحة أو مكتملة على الأرجح. ومع ذلك، فإن طريقة "رؤية الوجه" هي التي يلجأ إليها الناس بصورة أساسية عندما يجبرون على العمل عن بعد، وهذا ما كشفته الدراسة الاستقصائية التي أجريناها حول ممارسات العمل عن بعد في الفترة التي تلت الإغلاق العام العالمي مباشرة.

التنسيق الضمني

كانت هناك طريقة للخروج من هذه المعضلة. فقد بين بحثنا السابق حول العمل على تطوير البرمجيات على نطاق عدة دول أن الاعتماد على آليات التنسيق الضمني، كالفهم المشترك لقواعد العمل وسياقه، يسمح بالتنسيق من دون تواصل مباشر.

وفي هذه الحالة، يجري التنسيق من خلال مراقبة ما يفعله الموظفون الآخرون والقدرة على توقع ما سيفعلونه ويحتاجون إليه بناء على القواعد المشتركة. يمكن أن يجري التنسيق على نحو متزامن، كأن يعمل موظفان على نفس الملف على منصة "جوجل دوكس" (Google Docs) مثلاً في نفس الوقت، أو على نحو غير متزامن كأن يعمل كل موظف على الملف بصورة مستقلة ثم يسلمه بطريقة واضحة عند انتهائه، ليبدأ موظف آخر العمل عليه بعد ذلك.

غالباً ما تلجأ مؤسسات تطوير البرمجيات إلى هذا الحل وتعتمد بكثرة على أدوات استعراض المستندات وتأليفها مع أنظمة تنسيق المساهمات (مثل أدوات التحكم بالنسخ والدمج المستمر). لكن شركة "غيت لاب" متميزة في قطاع الشركات الربحية فيما يتعلق باعتمادها الكبير على العمل غير المتزامن في كتابة شفراتها البرمجية وطريقة عمل المؤسسة نفسها، وهي تعتمد عليه بصورة خاصة لأن موظفيها موزعون على عدة مناطق زمنية. وبالنتيجة، وعلى الرغم من أن الشركة تستعين بالاجتماعات عبر اتصال الفيديو فعلاً، لا يضطر أي موظف لقضاء يوم بأكمله وهو منشغل بهذه الاجتماعات.

طريقة العمل في شركة "غيت لاب".

تكمن عملية سير العمل "غيت" التي ابتكرها مؤسِس أنظمة "لينوكس"، لينوس تورفالدس في صميم أعمال الهندسة التي يقوم عليها تطوير منتجات شركة "غيت لاب". في هذه العملية، يقوم أخصائي البرمجة الذي يشارك في وضع الشفرة البرمجية بعملية تسمى بالإنجليزية "Forking"، أي "نسخ" الشفرة، كي لا تُحجب عن المستخدمين الآخرين ويعمل عليها، ومن ثم يقدم "طلب الدمج" ليتم استبدال النسخة الأصلية بالنسخة المعدلة، ثم تصبح هذه النسخة المعدلة متاحة للمشاركين الآخرين.

تدمج هذه العملية إمكانية القيام بعمل موزع غير متزامن مع هيكلية تتحرى مواضع فشل التنسيق المحتملة وتضمن الوضوح فيما يتعلق بحقوق اتخاذ القرارات. لذلك، أصبح العمل الإلكتروني بالكامل (الذي يجعل العمل عن بعد ممكناً) مع توفر وثائق شاملة إطار عمل مهم لأنشطة تطوير البرمجيات الموزعة في سياقي الشركات الربحية والبرمجيات مفتوحة المصدر.

قطعت شركة "غيت لاب" شوطاً أبعد بتطبيق نهجها على العمل الإداري الذي ينطوي على الغموض والضبابية. على سبيل المثال، قام الرئيس التنفيذي للتسويق في الشركة مؤخراً برسم خطة لرؤية تهدف إلى دمج تقنية الفيديو في استراتيجية الشركة للعام المقبل، حيث طلب معلومات غير متزامنة من جميع أقسام الشركة ضمن فترة زمنية محددة، ثم حدد موعداً لاجتماع واحد متزامن للاتفاق على نسخة نهائية للرؤية. أدت هذه الرؤية إلى إدخال تغييرات غير متزامنة قدمها عدة مشاركين إلى صفحات دليل الشركة فيما يتعلق بأهداف التسويق والنتائج الرئيسة، وتم دمجها عند اكتمالها.

كان اعتماد شركة "غيت لاب" الكبير على العمل غير المتزامن ممكناً بسبب احترام القواعد الثلاثة التالية على مستوى المهمات:

1. فصل مسؤولية تنفيذ المهمة عن مسؤولية إعلان إتمامها

عندما يعمل الموظفون في أماكن العمل المشتركة، تسمح لهم سهولة التواصل والإشارات الاجتماعية بتوضيح الأمور الغامضة بفاعلية وإدارة النزاعات حول مسؤوليات العمل ومجالاته. لكن ذلك صعب في العمل عن بعد. لذا، في شركة "غيت لاب" كان من المتوقع أن يخصص لكل مهمة جزئية شخص يسمى "صاحب المسؤولية المباشرة" يحمل على عاتقه مسؤولية تنفيذ هذه المهمة الجزئية ويتمتع بالحرية في تحديد طريقة أدائها.

لكن لا يمكنه تحديد ما إن كانت المهمة الكلية قد أنجزت بالكامل أم لا، وإنما تقع هذه المهمة ضمن مسؤوليات "المشرف" الذي يتمتع بصلاحية قبول طلبات الدمج التي يقدمها أصحاب المسؤوليات المباشرة. يساعد الوضوح حول هذه الأدوار في كل مهمة على الحد من الارتباك والتأخير، ويتيح لعدة أشخاص من أصحاب المسؤوليات المباشرة اختيار الطرق التي يريدونها للعمل بالتوازي على أجزاء مختلفة من الشفرة البرمجية عن طريق إنشاء النسخ المعدلة. ويحمل المشرف مسؤولية تجنب التغييرات غير الضرورية والحفاظ على الاتساق في النسخة المطبقة من المستند أو الشفرة البرمجية.

في سياق بعيد عن البرمجيات، كتطوير الصفحة المتعلقة بسياسات التكاليف في دليل شركة "غيت لاب" مثلاً، يمكن أن يقوم أي موظف بدور صاحب المسؤوليات المباشرة، ويعمل مع أصحاب المسؤوليات المباشرة الآخرين على كتابة سياسات محددة بالطريقة التي يختارونها، ثم يقبل الرئيس التنفيذي للشؤون المالية الذي يمارس دور المشرف هذه المشاركات أو يرفضها، ويقدم تقييمات (وليس توجيهات) لأصحاب المسؤوليات المباشرة. وما أن يتم دمج الصفحات ونشرها، تصبح هي المصدر الوحيد لسياسات التكاليف إلا إذا قدم أحد الموظفين اقتراحاً جديداً، عندئذ يقوم المشرف مجدداً بقبول الاقتراح أو رفضه أو تقديم تقييم له. في السياقات المشابهة لهذا السياق، يمكن أن نتوقع من الموظفين في المناصب الإدارية التقليدية العمل كمشرفين.

2. الوفاء بمبدأ "الحد الأدنى المقبول من التغيير"

عندما يكون التنسيق غير متزامن، تكون خطورة الفشل غير قابلة للاكتشاف على مدى فترة طويلة من الزمن، كأن يكون موظفان يعملان بالتوازي على نفس المشكلة مثلاً، فتزيد جهود أحدهما عن اللازم، أو قد يجري أحدهما تغييرات لا تتوافق مع جهود الآخر. ومن أجل تقليل هذه الخطورة إلى أدنى حد ممكن، يُطالَب الموظفون بإدخال الحد الأدنى من التغييرات المقبولة، وهو نسخة غير مكتملة عن المراحل الأولى للتغيير الذي يقترحه الموظف على الشفرة أو المستند، وهذا يزيد من احتمالات أن يلاحظوا المواضع التي يكون العمل فيها غير متوافق أو مكرر. من الواضح أن سياسة الحد الأدنى من التغييرات المقبولة يجب أن تترافق مع سياسة "لا عيب" فيما يخص تقديم مخرجات غير مثالية بشكل مؤقت. في شروط العمل عن بعد، تكون القيمة المتمثلة بمعرفة ما يفعله الآخرون بأقصى سرعة ممكنة أكبر من قيمة الحصول على المنتج المثالي.

3. التواصل العلني الدائم

يقول أفراد فريق شركة "غيت لاب" دائماً: "نحن لا نرسل رسائل إلكترونية داخلية هنا". بل يستعيض الموظفون عنها بنشر جميع أسئلتهم ومعلوماتهم على قنوات منصة "سلاك" المخصصة لفرقهم، ثم يحدد قائد الفريق المعلومات التي يجب أن تبقى مرئية للآخرين بصورة دائمة. عندئذ، تخزن المعلومات المنتقاة في مكان متاح لجميع من في الشركة، ضمن مستند "مسألة" أو صفحة ما في دليل الشركة على الإنترنت ويمكن لأي شخص داخل الشركة أو خارجها الاطلاع عليه. هذه القاعدة تعني أن الموظفين لن يجازفوا بتكرار عمل زملائهم أو تخريبه من دون قصد. يخصص المدراء وقتاً طويلاً في الإشراف على المعلومات التي تتولد من عمل الموظفين الذين يشرفون عليهم، وهم مطالبون بأن يعرفوا أكثر من غيرهم المعلومات التي قد يحتاج إليها فريق مستقبلي على نطاق واسع أو التي قد تكون مفيدة للناس خارج الشركة.

تحديد مساوئ نهج "غيت لاب"

يبقى هذا النوع من العمل عن بعد على نحو غير متزامن عاجزاً عن تعويض التفاعلات الاجتماعية مهما حسُن تنفيذه. وهذا جانب سلبي مهم، لأن التفاعلات الاجتماعية هي مصدر للسرور والدافعية بالنسبة لأغلب الموظفين، إلى جانب أنها تساعد على توليد "اللقاءات العشوائية"، أي الأحاديث العرضية بجانب آلة صنع القهوة وفي الردهة بجانب المصعد، التي تولد فرصاً لتدفق الأفكار والمعلومات واتحادها.

ومن أجل الحد من أثر هذا الجانب السلبي، تقدم شركة "غيت لاب" مناسبات للتفاعلات بين الموظفين بعيداً عن المهمات. كل يوم، يمكن أن يحضر أفراد الفريق واحداً من ثلاثة اتصالات اجتماعية اختيارية، مرتبة على نحو متعاقب كي تشمل جميع المناطق الزمنية. يضم الاتصال بين 8 و10 أشخاص في غرفة محادثة عبر اتصال الفيديو، حيث يمكنهم مناقشة أي موضوع يريدون (إذا استدعت الحاجة، تطرح غيت لاب سؤالاً للمساعدة على بدء الحديث وكسر الجمود، مثلاً: "ماذا فعلت في عطلة نهاية الأسبوع؟" أو "أين يقع أجمل مكان سافرت إليه، ولماذا؟")

كما أنشأت شركة "غيت لاب" مجموعات تواصل اجتماعي على منصة "سلاك"، وهي غرف محادثة ذات عناوين هادفة تجمع الموظفين الذين يملكون اهتمامات مشتركة، مثلاً غرفة #محبو الكلاب أو #محبو القطط أو #هواة الطبخ، أو #المهتمون بالتوعية حول الصحة النفسية أو #محبو التعبير اليومي عن الشكر والامتنان، أو #محبو الألعاب الإلكترونية، بالإضافة إلى قناة #لا تكن غريباً التي تتيح اجتماع الموظفين الذين لا يعرف بعضهم بعضاً ليتعارفوا عن طريق الحديث أثناء احتساء "فنجان قهوة".

بالطبع، مدراء الشركة ليسوا واهمين بشأن إمكانية أن تحل هذه المجموعات بصورة مثالية محل التفاعلات الاجتماعية الثرية خارج العمل، والتي يعتبرها الموظفون مفيدة. فهذه المجموعات تساعد فعلاً على استمرار تواصل الموظفين فيما بينهم، وقد أثبتت فاعليتها في الحفاظ على معنوياتهم في الوقت الذي يعمل فيه كثير منهم في ظل قيود الإقامة الجبرية في منازلهم.

***

في الختام نقول إن العمل من المنزل هو طريقة فعّالة تتعدى مجرد إعطاء الموظفين أجهزة "لاب توب" وإعداد حسابات لهم على منصة "زووم". فهو يشمل ممارسات تهدف للتعويض عن المساوئ الأساسية للعمل عن بعد أو تجنبها، إلى جانب الاستفادة بصورة كاملة من المرونة التي يوفرها من خلال إمكانية العمل من أي مكان وفي أي وقت. ركزنا على شركة "غيت لاب" لأنها مرت بتجربة قوية في العمل عن بعد وتتبع أسلوباً غير اعتيادي لمعالجة التحديات الجوهرية التي ينطوي عليها العمل عن بعد. وفي حين أن بعض العمليات الأساسية لديها (مثل عملية إعداد الموظفين الجدد الطويلة) وبعض الفوائد التي تتمتع بها (مثل إمكانية توظيف أشخاص من أي مكان في العالم) لا يمكن تكرارها تماماً على المدى المنظور في الشركات التي تلجأ للعمل عن بعد بصورة مؤقتة، إلا أن لديها ممارسات أخرى يمكن لأي شركة أخرى تطبيقها بسهولة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي