أدوات التواصل الحديثة: هل هي نعمة بين يدي المدير أم نقمة عليه؟

4 دقيقة
العمل الإداري

لا يطرأ تغيير جوهري على أساليب الإدارة، فالإدارة ممارسة قوامها فن وحرفة وليست علماً أو مهنة، وتعتمد محورياً على التحليل. من المؤكد أن موضوع الإدارة يتغير طوال الوقت، كما هي الحال مع الأساليب التي يفضّلها بعض المدراء، ولكن الممارسة الأساسية لا تتغير.

هناك تغيير واحد واضح في الآونة الأخيرة يؤثر في ممارسة الإدارة؛ ألا وهو التقنيات الرقمية التي شهدت تطوراً كبيراً على مدى العقدين الماضيين من حيث سرعة نقل المعلومات وحجمها، فهل كان تأثيرها في الإدارة كبيراً قوياً بالدرجة نفسها؟

الجواب برأيي هو نعم ولا في آن معاً. فهذه التقنيات لم تؤثر لأنها تعزز بالأساس الخصائص التي لطالما ميزت العمل الإداري، ولكنها أثّرت لأنها ربما أحدثت خللاً في ممارسة الإدارة.

فما خصائص الإدارة؟ أناقش في كتابي "أسلوب الإدارة البسيط" (Simply Managing) -وذكرت منذ فترة طويلة في كتابي "طبيعة العمل الإداري" (The Nature of Managerial Work)- أن الإدارة عملية مرهقة، فهي تتطلب العمل بسرعة تحت ضغط كبير وبمواجهة مقاطعات كثيرة. يصف أحد كبار المسؤولين التنفيذيين الإدارة بأنها التعامل مع "مهمة صعبة تلو الأخرى"، فهي وظيفة ذات منحى عملي كما أنها تعتمد على التواصل بدرجة كبيرة، إذ ينخرط المدراء في كثير من المناقشات والحوارات، ولذا لطالما اعتمد العمل الإداري على الكلام في أغلبه. يغطي المدير في عمله شتى جوانب الشركة باتجاه أفقي ومن أدنى سلّمها الإداري إلى أعلاه. ووجدت الأبحاث أن المدير يمضي وقتاً مع أفراد من خارج وحدته يساوي تقريباً الوقت الذي يمضيه مع أفرادها. ولو أنك راقبت مديراً، كما فعلت خلال إعداد كتابي الأخير (بدايةً من مديرة فريق تمريض وحتى رئيس تنفيذي لإحدى الشركات، وفي بيئات عمل تنوعت ما بين بنك ومخيم للاجئين)، لرأيت بنفسك كل هذه الخصائص إلى حد كبير. ألا يوحي ذلك بأن هناك العديد من نماذج سوء الإدارة؟ لا على الإطلاق. إنه وصف للعمل الإداري الطبيعي والحتمي.

ولكن العصر الرقمي يفرض سؤالاً: كيف تؤثر التكنولوجيا الرقمية في خصائص العمل الإداري وأساليبه؟ يقال إن نيلز بور علّق ساخراً بأن "التوقع صعب للغاية، خاصة إن تعلّق بالمستقبل". وبالتالي، لا بد أن نركز على عصرنا الحالي وعلى ابتكارات تكنولوجيا التواصل التي طالما حرص المدراء على استخدامها، وخاصة البريد الإلكتروني.

وهنا يتضح أمر قد يبدو حقيقة مؤكدة، وهو أن القدرة على التواصل اللحظي مع الموظفين في أي مكان تزيد سرعة العمل الإداري، فتزيد الضغوط والمقاطعات على الأرجح. لكن لا تفكر أنه أمر سلبي؛ فقد تبيّن لي في بحثي الأصلي الذي أجريته قبل هيمنة التواصل الرقمي بزمن، أن أكثر المدراء يفضلون هذه المقاطعات، والتواصل الرقمي يزيدها. فلا أحد يجبر المدير على تفقد الرسائل ما إن يصل إلى مكتبه، وكم منها يتطلب الردود الفورية التي يتلاقها؟ أجاب أحد الرؤساء التنفيذيين على محاوره خلال مقابلة قائلاً: "لن يتسنى لك الهرب، فلن تجد ملاذاً يتيح لك التدبر والتأمل أو التفكير"؛ ولكن هذا ليس صحيحاً، فبوسعك الذهاب إلى أي مكان تحبه.

لم يؤثر الاتصال بالإنترنت سلباً في نهج المدراء ذي المنحى العملي وعزوفهم عن التفكير والتأمل، بل على العكس تماماً، فهم يفضّلون أن تنجز كل المهام في التو واللحظة، وبأقصى سرعة ممكنة. تكمن المفارقة في أن الاعتماد الواسع على تكنولوجيا المعلومات، والابتعاد فنياً عن ساحة العمل (نتحدث هنا عن مدير يجلس أمام شاشة) يعزز الجانب العملي من الإدارة؛ أي أن ازدياد الاعتماد على الأدوات الرقمية يفاقم مشكلة فرط النشاط الإداري. (تفقّد رسائلك ليلة الأحد، فلربما دعا مديرك إلى اجتماع صباح الاثنين).

وبطبيعة الحال، يكون الوقت الذي يخصصه المدير للعمل على الأدوات الرقمية مقتطعاً من وقت التحدث إلى الموظفين والاستماع لهم، فعدد ساعات يوم العمل محدود. ولكن وسائل التواصل النصية مثل البريد الإلكتروني لا تشغل حيّزاً مادياً، وحدودها هي الكلمات المطبوعة فحسب؛ فلا مجال هنا لنبرة صوت تسمعها أو إيماءة تراها أو حضور تشعر به، وتعتمد الإدارة على تفسير تلك الرسائل والاستفادة منها بقدر ما تتعلق بفهم محتواها. ففي المكالمة الهاتفية يضحك المتحادثان أو يقاطع أحدهما الآخر أو يعبّران عن الاستياء، وفي الاجتماعات يومئ الحاضرون برؤوسهم موافقين أو يغفون فلا يسمعون ما يقال؛ والمدير الفعال هو من يحسن الاستفادة من هذه الإشارات. وفي المقابل، لا يمكنك وأنت تقرأ رسالة إلكترونية على الشاشة أن تتيقن من تجاوب مَن تراسله إلى أن يأتيك رده، وحتى في هذه الحالة لا يمكنك التأكد إن كان قد اعتنى بصياغة الرد أم أرسله على عجل. التقيت ذات يوم بمسؤول حكومي كبير، كان يتباهى بأنه ظل على تواصل بموظفيه عن طريق البريد الإلكتروني في وقت مبكر من كل صباح؛ لكن هل كان على تواصل مع موظفيه بالفعل؟ لا أظن، فتواصله لم يتجاوز الشاشة قط.

وفي النهاية، أقول إن تكنولوجيا التواصل الرقمي، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، تشجع المدير على التوسع بنطاق عمله الإداري في كل جانب، من خلال تسهيل بناء علاقات عمل جديدة والاستمرار بالتواصل مع معارفه الحاليين. والحقيقة أن عدد مرؤوسي المدير قليل وثابت مقارنة بالعلاقات التي يمكنه بناؤها خارج الشركة، ووسائل التواصل اليوم تعزز هذه الحقيقة؛ وبالتالي، يتضاءل الوقت الذي يخصصه المدراء لمرؤوسيهم، كماً ونوعاً.

وكما اعتدنا، فمشكلة تلك التكنولوجيا تكمن في تفاصيلها، إذ يوقع حجم التغييرات الكبير آثاراً عميقة تتحول إلى تغييرات نوعية، وعندما يتزايد توتر المدير وانفعاله يفقد السيطرة على أعصابه ويصبح مصدر تهديد لكل من حوله؛ قد يظن كثير من المدراء أن الإنترنت تمنحهم قدرة أكبر على السيطرة، لكنها في الحقيقة تسلبهم إياها.

خصائص العمل الإداري التي سبق أن أوردتها في صدر هذا المقال طبيعية، ولكنها محدودة، ويؤدي تخطي حدودها إلى خلل في ممارسة الإدارة. بعبارة أخرى، يؤدي هذا العصر الرقمي إلى تجاوز ممارسات الإدارة لحدودها، ما يجعلها أبعد مما يجب ويفقدها عمقها.

وهكذا، يبدو المدير في الظاهر قوي التواصل مع موظفيه، ولكنه أصبح في الحقيقة بعيداً كل البعد عما يحمل أهمية في عمله. فهل يمكن أن تقضي التكنولوجيا الجديدة على ممارسة الإدارة، وبالتالي تضعف شركاتنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا؟ نترك الإجابة عن هذا السؤال للمستقبل؛ في ظل هذه النزعة إلى الإشادة بالتكنولوجيا الجديدة والمسارعة إلى تبنّيها، مقارنة بمحاولات دراستها وفحصها والإحاطة بنقاط قوتها وضعفها. وعلينا أن ننظر حولنا؛ إلى زميل أصابه الاحتراق الوظيفي، وإلى مدير تحول إلى مصدر توتر وترهيب لمرؤوسيه، وانظر إلى حالك وأولادك الذين لا تراهم إلا فيما ندر. وأجب بعدها عن هذا السؤال: هل تعزز هذه الأدوات ميزاتنا أم عيوبنا؟ إما أن تفتننا هذه الأدوات، مدراء وموظفين، فتتحكم بنا بدلاً من أن نتحكم نحن بها، وإما أن نفهم مخاطرها ومنافعها فنحسن إدارتها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي