بدأ قطاع الاستثمار المغامر (أو ما يسمى الاستثمار الجريء) يمعن النظر في أداة مالية جديدة صادرة عن مجتمع البيتكوين، وهي العروض الأولية للعملات المشفرة أو (ICO). تُعَزّز ظاهرة جمع الأموال الجديدة هذه والمعروفة أيضاً باسم "مبيعات العملات الرمزية" بواسطة الاستثمار بالعملات واِلتقاء تقنية بلوك تشين والثروات الجديدة ورواد الأعمال الأذكياء والمستثمرين في العملات الرقمية المشفرة الذين يساندون الأفكار المدعومة بتقنية بلوك تشين. وتُقدّم العروض الأولية للعملات المشفرة لنموذج أعمال رأس المال المغامر (الجريء) التقليدي المنافع والعيوب على حد سواء، فضلاً عن المخاطر والفرص.
الاستثمار بالعملات
إليكم طريقة عمل العروض الأولية للعملات المشفرة عموماً: تُنشأ عملة رقمية مشفرة على بروتوكول مثل كاونتربارتي (Counterparty) أو إيثيريوم (Ethereum) أو أوبين ليدجر (Openledger)، وتحدَّد القيمة التي يستند إليها العرض الأولي للعملات المشفرة عشوائياً من قبل فريق الشركة الناشئة بالاستناد إلى قيمة الشركة في هذه المرحلة بنظرهم. بعدئذ، تتفق شبكة من المشاركين بدلاً من سلطة مركزية أو حكومية على القيمة عبر ديناميكات أسعار محددة بواسطة العرض والطلب في السوق.
يتزايد اهتمام أصحاب رؤوس الأموال المغامرين (أو أصحاب رؤوس الأموال الجريئين)، الذين كانوا يتحفظون عموماً على ظاهرة العرض الأولي للعملات المشفرة، نتيجة لمجموعة من الأسباب، أولها: الفوائد – حصل المستثمرون في العملات الرقمية المشفرة على عائدات ضخمة في عام 2016، بواسطة عملات رقمية مشفرة طرحتها شركات ناشئة تعمل بتقنية بلوك تشين مثل "مونيرو" (Monero) و"نيم" (NEM) اللتان شهدتا زيادة في القيمة بنسبة 2,000%. على سبيل المثال، شهدت العملة الرقمية المشفرة المستخدمة في شبكة إيثيريوم والمدعوة إيثر (Ether) تضاعف قيمتها خلال بضعة أيام فقط في شهر مارس/آذار من عام 2017. نعم، تمكَّن الأشخاص الذين استثمروا في إيثر خلال ثلاثة أيام من مضاعفة قيمة استثماراتهم. يمكن لهؤلاء المستثمرين اختيار صرفها مقابل عملة ورقية مغطاة، أو انتظار استمرار قيمة العملة الرقمية المشفرة في الارتفاع (أو الانخفاض)، فالتذبذب هو طريق ذو اتجاهين. بينما ما فتئت أسعار إيثر تتزايد، انخفضت قيمة بيتكوين بنسبة 20% وصولاً إلى 1,000 دولار أميركي بدءاً من رقم قياسي قدره 1,290 دولاراً أميركياً في الثالث من شهر مارس/آذار 2017.
السبب الثاني وراء تزايد اهتمام شركات الاستثمار المغامر في العروض الأولية للعملات المشفرة هو سيولة العملات الرقمية المشفرة. بدلاً من ربط كميات ضخمة من الأموال بشركة ناشئة أحادية القرن "يونيكورن" وانتظار تحقيق نتائج بعد فترة طويلة – عبر اكتتاب عام أو عملية استحواذ – يمكن للمستثمرين الحصول على مكاسب بشكل أسرع وسحب الأرباح بسلاسة أكبر عبر العروض الأولية للعملات المشفرة، إذ يتعين عليهم ببساطة تحويل فوائد عملاتهم الرقمية المشفرة إلى بيتكوين أو عملة إيثر على أي من بورصات العملات الرقمية المشفرة التي تحتويها، وتُحوّل بعدئذ بسهولة إلى عملة مغطاة عبر الخدمات الإلكترونية مثل كوينزبانك (Coinsbank) أو كوين بايس (Coinbase).
والأمر الذي لا يحبه المستثمرون التقليديون حيال أي من هذا هو الشكوك التنظيمية، والتقييمات المرتفعة، والرسملة المفرطة، وانعدام السيطرة على القوائم المالية، والاستراتيجية، والعمليات، وقلة حالات الاستعمال التجارية. نال مجال العرض الأولي للعملات المشفرة، مثل أي قطاع، حصته العادلة من أعمال الاحتيال السافرة والتلاعب المتعمد بالأسعار ومخططات بونزي (Ponzi schemes) السافرة. لكن تُخفف حالياً وطأة معظم الأنشطة الإجرامية عبر المثابرة المهنية ذاتية التنظيم والممولة من مصادر متنوعة في المجتمع، بالإضافة إلى ما تقوم به الأطراف الخارجية مثل "سميث آند كراون" (Smith and Crown)، مجموعة البحوث التي تركز على تمويل العملات الرقمية المشفرة، و"آي سي أو ريتينغ" (ICO Rating)، وكالة التصنيف التي تصدر بحوثاً تحليلية مستقلة حول الشركات المستندة إلى تقنية بلوك تشين.
تتحول شركة استثمار مغامر واحدة على الأقل إلى استخدام العملات الرقمية المشفرة، إذ شرعت بلوك تشين كابيتال (Blockchain Capital) في جمع تمويلها الثالث عبر عرض لعملة رمزية رقمية في التمويل الأول من نوعه لرأس مال مغامر معزز بالسيولة (حيث يستطيع الناس الاستثمار دون تجميد أموالهم لسنوات بلا انقطاع) عبر عملة رقمية تدعى بي سي إيه بيه (BCAP).
العروض الأولية للعملات المشفرة
تُعد العروض الأولية للعملات المشفرة الجانب المضطرب للتمويل، إذ إن وضعها مبهم بحيث لا تزال هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC) والعديد من الجهات التنظيمية الأخرى تبحث أمرها. لكن تكمن المشكلة الرئيسة في عدم تقديم معظم العروض الأولية للعملات المشفرة لحقوق ملكية فعلية في مشاريع الشركات الناشئة؛ إلا أنها تُقدم فقط حسومات على العملات الرقمية المشفرة قبل أن تصل إلى البورصات. بناء على ذلك، نراها لا تنسجم مع التعريف الحالي للأمن، كما أنها خارجة عن أطر العمل القانونية التقليدية من الناحية الفنية. ثانياً، إنها أدوات عالمية – وليست وطنية – تُموّل باستخدام بيتكوين وإيثر والعملات الرقمية المشفرة الاخرى التي لا تخضع لمراقبة أي سلطة مركزية أو مصرف. يمكن لأي شخص الاستثمار فيها، ويمكنه حتى فعل ذلك باستخدام اسم مجهول مزيف (لا يستحيل اكتشاف هوية الأشخاص، ولكن الأمر ليس سهلاً كذلك). حالياً، لا يوجد قانون يمنع غسيل الأموال (AML) أو إطار عمل لنموذج اِعرف عميلك (KYC)، على الرغم من سعي بعض الشركات لتحقيق ذلك. من الأمثلة على ذلك "توكين ماركت" (Tokenmarket)، السوق المخصصة للعملات الرمزية والأصول الرقمية والاستثمار القائم على تقنية بلوك تشين، التي تحالفت مع سوق الأوراق المالية في جبل طارق لتقديم عروض أولية للعملات المشفرة متوافقة مع منع غسيل الأموال ونموذج "اِعرف عميلك".
اقرأ أيضاً: البيتكوين أكثر من مجرد عملة رقمية
يُطالب منتقدو هذه الخطط التمويلية الجديدة بالتنظيم والحماية، ويشيرون إلى عمليات الاحتيال، ويدعون إلى المزيد من الرقابة، ويزعمون أنه من دون حقوق الملكية سيكون المستثمرون عرضة لمخاطر مالية. في الوقت الحالي، يردّ المؤيدون بوجود حاجة حقيقية للحرية من أجل الاستثمار خارج النظام المعتمد، الذي يشهد تزايد ثروات الأغنياء، ويحاججون بوجوب قطع الطريق في وجه هيمنة الشركات الناشئة الموجودة في شارع ساند هيل في وادي السيليكون وشركات الاستثمار المغاير الأخرى والمستثمرين في قطاع التكنولوجيا الذين ظلوا يحققون عائدات ضخمة على ظهور رواد الأعمال لفترة طويلة جداً.
اقرأ أيضاً: احذر أكثر أنواع عمليات الاحتيال شيوعاً في سوق العملة الرقمية المشفرة
بالنسبة للشركات الناشئة العاملة في مجال تقنية بلوك تشين، تُعد العروض الأولية للعملات المشفرة مكسباً للطرفين، حيث تتيح للشركات الناشئة جمع الأموال دون ممارسة الضغوط عليها من قبل مالكي حقوق الملكية بشأن الإنفاق وإعطاء الأولوية للعوائد المالية على حساب الصالح العام للمنتج أو الخدمة بحد ذاتها. يشعر الكثيرون في مجتمع بلوك تشين أن العروض الأولية للعملات المشفرة تمثّل حلاً طال انتظاره للمؤسسات غير الربحية التي ترغب في إنشاء برمجيات مفتوحة المصدر لجمع رؤوس الأموال. تحتفظ المؤسسات غير الربحية عادة بحوالي 10% إلى 20% من إجمالي العملات الرقمية المشفرة التي تصدرها؛ على غرار ما قامت به إيثيريوم في العروض الأولية لعملاتها المشفرة في عام 2014، حيث خصصت 20% منها لتمويل التطوير وعاد بقية المبلغ إلى مؤسسة إيثيريوم (Ethereum Foundation). تقوم إيثيريوم بذلك ليكون لها مصلحة خاصة في إيجاد قيمة إضافية، فضلاً عن امتلاكها احتياطيات للنمو في المستقبل. (اعتباراً من شهر مارس/آذار 2017، بلغت القيمة السوقية لعملة إيثر أكثر من أربع مليارات دولار أميركي).
القيمة السوقية للبيتكوين
تُناهز القيمة السوقية للبيتكوين حالياً 20 مليار دولار أميركي، والتي يُزعم أن نصفها مملوك من قبل أقل من ألف شخص، يسمون "حيتان بيتكوين". هناك الكثيرون منهم في الصين، ولكن هناك أيضاً صناديق التحوط وأموال استثمار بيتكوين التي تحوز كميات هائلة منها. حصل معظم هؤلاء الأشخاص على أموالهم مبكراً من خلال شراء بيتكوين أو تعدينها عندما كان سعرها لا يتجاوز 10 دولارات (في أوائل عامي 2011 و2013)، وتبلغ قيمتها حالياً حوالي 1,120 دولاراً أميركياً مقابل البيتكوين الواحد. إن "حيتان بيتكوين" هؤلاء هم الأشخاص الذين يسهمون حالياً في نجاح أو فشل الكثير من العروض الأولية للعملات المشفرة، ويُحوّل جزء من الأرباح الهائلة التي حصلوا عليها من الاستثمار في بيتكوين إلى تمويل الابتكار مجدداً، حيث يسعى الكثيرون منهم إلى تنويع الحصص، فضلاً عن دعم النظام المتكامل عموماً.
جُمع أكثر من 270 مليون دولار أميركي من العروض الأولية للعملات المشفرة منذ عام 2013، وفقاً لشركة "سميث آند كراون" (لا يتضمن المبلغ الذي جُمِع في فضيحة المنظمة المستقلة واللامركزية "The DAO scandal"، البالغ 150 مليون دولار أميركي، الذي أُعيد إلى المستثمرين). اِستثمر حوالي ملياري شخص منذ عام 2013 في شركات ناشئة قائمة على تقنية بلوك تشين وبيتكوين من مجتمع شركات الاستثمار المغامر، وتتزايد شعبية العروض الأولية للعملات المشفرة لدى الشركات الناشئة التي تسعى إلى الخروج من التمويل الذاتي ووضع التجويع المقيّد وتفادي تقييدها من قبل المستثمرين المغامرين، ومشاهدة حقوق ملكيتها تغرق في بحر جولات التمويل. تُهيمن العروض الأولية للعملات المشفرة على خطط التمويل الإجمالية من مصادر متعددة من حيث المبالغ المجمعة، حيث يأتي نصف المبالغ المجمعة الرئيسة العشرين من مجتمع العملات الرقمية المشفرة.
اقرأ أيضاً: التكاليف الخفية للعروض الأولية للعملات المشفرة
في مؤتمر أُجري مؤخراً، وصف لي جون كليبينجر، المؤلف والعالم في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي)، الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها هذه الحركة الجديدة كالتالي:
تتمثل إحدى طرق التفكير في الأصل المشفر في النظر إليها على أنها ضمان في الشركات الناشئة، التي تبدأ بتقييم قدره 10 ملايين دولار أميركي ويصبح 10 مليارات دولار أميركي. بدلاً من تجزئة الأسهم، تصبح الأصول المشفرة التأسيسية مُثمنة في وحدات أصغر وأصغر؛ وينخفض تثمينها في هذه الحالة من 1,000 إلى واحد. يُعتَبر كل شخص في الشبكة عندئذ حاملاً لحقوق الملكية لديه الحافز لزيادة قيمة الشبكة، ويعتمد هذا كله على مدى جودة تصميم الأصول المشفرة الأولية وعقود حكمها وحمايتها. في هذه الحالة، تتمثل الإدارة الرشيدة، مثلاً، في الرقابة وقابلية التنبؤ بالعائدات والأمن والفاعلية، التي تُوجد بالمقابل قيمة لجميع حملة العملات الرمزية.
يتعين علينا جميعاً التمعن في هذه الظاهرة الجديدة تماماً حول الاستثمار بالعملات مثل أصحاب رؤوس الأموال المغامرين، ولا يتعلق الأمر بالمال الذي يمكن كسبه فقط؛ بل بتمويل مشاريع تقنية بلوك تشين أيضاً والشركات الناشئة الأخرى وحتى الشبكات في المستقبل القريب كما نوه كليبينجر. لقد أُتيحت لنا حالياً وسيلة لتمويل البرمجيات مفتوحة المصدر بسهولة لتكون تحت كنف المؤسسات بدلاً من الشركات التي يمكنها بحق تحفيزة وتيرة الابتكار. حالياً، بلغت تقنية بلوك تشين مرحلة مماثلة لحال الإنترنت في عام 1992، وهي تسهم في إتاحة فيض من الاحتمالات الجديدة التي تَعِد بإضافة قيمة إلى العديد من القطاعات، بما في ذلك القطاع المالي، والصحي، وقطاع التعليم، والقطاع الموسيقي، والفنون، والحكومات، والمزيد غيرها.
اقرأ أيضاً: مع تصاعد العملات الافتراضية.. من يحتاج للمصارف؟