أصدر البرلمان البريطاني تقريراً مفصلاً وقوياً الشهر الماضي حول مشكلة التضليل، أو "الأخبار المزيفة"، حيث درس التقرير ما وصفه بتجاوزات لصناعة الإنترنت من قبل شركات وادي السيليكون (سيليكون فالي) الرائدة والمسؤولة في نظر اللجنة عن ارتكاب أضرار بالغة ضد المواطنين البريطانيين.
ولا يُمثّل هذا التقرير سوى الحادثة الأخيرة التي رسمت مساراً محدداً صوب التنظيم والتشريع الذي من شأنه أن يحد من كيفية عمل هذه الشركات وغيرها على شبكة الإنترنت فيما يتعلق بالتضليل والمخاوف الاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقاً على حد سواء، بما في ذلك الشفافية والخصوصية والمنافسة. تحتاج الشركات إلى معرفة ما قد يحدث وما هو على المحك بغية الجلوس على طاولة المفاوضات في واشنطن وهي على أتم الاستعداد للمساهمة في هذه الجهود في مفاوضات نزيهة.
ومن خلال تجربتي كعالم كمبيوتر وباحث في تكنولوجيا الإنترنت وبصفتي مستشاراً للسياسة العامة اعتقد بأنّ هذا التقرير يصور بدقة التوترات في قلب هذه الصناعة، ويحمّل شركات الإنترنت الرائدة التي يصفها "بالعصابات الرقمية" مسؤولية هذه المشاكل. لقد بات واضحاً أن هذه الشركات قد أضرت المستهلكين ودمرت الثقة العامة. إذ تبدو مجموعة العوامل الخارجية السلبية التي يدفعها هذا النظام التجاري لا متناهية، سواء كنا نتحدث عن مشكلة التضليل، أو انتشار خطاب الكراهية، أو ظهور تمييز خوارزمي منهجي. وأعتقد أنه بدلاً من ترك الشركات الأميركية تتحمل الغرامات المفروضة عليها من قبل هيئات الإنفاذ الأجنبية، حان الوقت للحكومة الأميركية للتقدم بحلها التنظيمي العادل والهادف لهذه المشاكل.
وحان الوقت أيضاً لمشاركة أرباب الصناعة في هذه المحادثات. ومشاركتها هذه تعود لصالحها في الواقع، حيث قد يُسفر فشلها في المشاركة عن إصدار قوانين متشددة تجاه الشركات التي لا تندرج ضمن قائمة "العصابات". لا يحتاج مجتمع صناعة السياسات في الولايات المتحدة إلى البحث كثيراً لرؤية نماذج قد تترتب عليها تداعيات عظيمة على الشركات، فقد دخل نظام الخصوصية الأكثر صرامة في العالم وهو التشريعات العامة الأوروبية لحماية البيانات حيز التنفيذ في مايو/أيار 2018؛ واعتمدت السلطة التشريعية لولاية كاليفورنيا على مبادئ التشريعات العامة لحماية البيانات لسنّ قانون الخصوصية الأميركي الأكثر تشدداً حتى يومنا هذا، وظهرت شائعات مماثلة من ولايتي إلينوي ونيويورك من بين ولايات أخرى تدرس اتخاذ إجراءات مشابهة.
بل نحتاج بدلاً من ذلك إلى "عقد اجتماعي رقمي" معقول بهدف إعادة توازن السلطة الضمنية التي يتمتع بها الثالوث المكون من صناعة الإنترنت والحكومة والمستهلك الفرد. ويجب لهذا الإطار أن يعالج العناصر الرئيسة الثلاثة التالية:
الشفافية
غالباً ما يكون مستهلكو وسائط الإعلام الإلكترونية غير مدركين لمصدر المحتوى الذي يرونه عبر الإنترنت وكيفية اختيارهم لمشاهدته. وهذا هو السبب الجذري لمشكلة التضليل الذي يعتبره الكثيرون أبسط جرائم عمالقة الرقمنة التي تحتاج إلى تنظيم ونقطة انطلاق جيدة للمشرعين.
هذا هو الحال أيضاً بالنسبة للاتصالات السياسية على وجه التحديد، باعتبارها ساحة تضم بالفعل العديد من السياسات التنظيمية، حيث طالب أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي بمزيد من الشفافية للناخب الفردي في الدعاية السياسية عبر الإنترنت منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016. وفي حين أنه من واجب مشغلي البث التليفزيوني والإذاعي التوضيح للمشاهد أو المستمع أثناء الإعلانات السياسية أنهم يرون أو يسمعون إعلاناً سياسياً، من خلال تكرير العبارة الشائعة "أنا عضو في مجلس الشيوخ وأنا أوافق على هذه الرسالة"، لا نرى مثل هذا الشرط للإعلانات السياسية الرقمية.
وسيبدأ مشروع قانون تم تقديمه في مجلس الشيوخ يُعرف باسم قانون الإعلانات الصادقة في معالجة هذه الفجوة الحرجة في الولايات المتحدة. ومن شأنه أن يفرض أيضاً شروطاً إضافية مثل اشتراط إخلاء مسؤولية تحديد الإعلانات السياسية، والكشف الكامل عن الجهة التي تنشر الإعلان وتسوق له ومقدار المبلغ المدفوع للتسويق. وقد تتطلب التدابير الإضافية الإفصاح عن الشخص الذي شاهد الإعلان.
سيمثّل مشروع القانون الذي يشجع حقاً هذا النوع من الإفصاح خطوة كبيرة إلى الأمام في حماية المستهلكين. لكن يجب أن يكون هذا التشريع متوازناً مع الحاجة إلى حماية حقوق الملكية الفكرية. يعتمد النجاح التجاري لشركات الإنترنت على قدرتها على تطوير وتطبيق نماذج متطورة للغاية لتعلم الآلة، إلا أنّ هذه النماذج غامضة حالياً، حيث يمكن لهذه النماذج استنتاج سلوك المستهلكين واستخدام الأنماط السلوكية هذه لتصنيف المحتوى وترتيبه وتوجيه الإعلانات في نشرات المستهلك الاجتماعية. وستسهم أي شفافية مفروضة على خوارزميات أنظمة التصنيف في الكشف عن كيفية عمل هذه الخوارزميات.
وعلى المدى المتوسط، قد تُسفر مساومة عادلة إلى اتخاذ مثل هذه التدابير على المحتوى الذي يؤثر على سير الديمقراطية بشكل خاص فقط، بما في ذلك المحتوى ذي الطبيعة السياسية أو المحتوى الذي تغطّيه حماية الحقوق المدنية. على سبيل المثال، قدّمت فيسبوك التزامات طوعية لتحقيق هذه الغاية في وقت سابق من هذا الشهر بعد مفاوضات مطولة مع مناصري القضايا العامة بما في ذلك اتحاد الحريات المدنية الأميركي.
الخصوصية
لطالما اعتُبرت حماية الخصوصية الفردية حقاً إنسانياً أساسياً من قبل السلطات القضائية مثل الاتحاد الأوروبي، لكن لا تقدم الولايات المتحدة مثل هذه الحماية. وبالتالي، أسفرت الانتهاكات المستمرة للخصوصية والأمن والثقة العامة التي ترتكبها شركات الإنترنت الأميركية عن إشعال فتيل محادثة حقيقية حول سد هذه الفجوة للمستهلك الأميركي.
إذ يُطالب دعاة تشريع الخصوصية الفيدرالي بخيارات متزايدة للمستهلكين بهدف التحكم في جمع بياناتهم الشخصية واستخدامها، بالإضافة إلى معايير أمنية قوية للشركات التي تجمع هذه البيانات، وكذلك منح لجنة التجارة الفيدرالية سلطة إنفاذ أقوى. وبالفعل، فرضت الدعوات المتزايدة لتشريعات الخصوصية في الولايات المتحدة ضغوطاً على شركات الإنترنت على مستوى الولاية.
إلا أنّ هذه القيود تتحدى نجاح الشركات التجاري المستمر في مواجهة المنافسة القادمة من الصين وخارجها. كما تمثل زيادة حقوق الخصوصية مشكلة بالنسبة لنماذج أعمال بعض الشركات. وبالتأكيد، تفضل الصناعات الامتثال لقانون اتحادي واحد بدلاً من مجموعة من قوانين الولايات المستقلة، خاصة عندما تكون بعض قوانين الولايات هذه صارمة إلى حد كبير. وبينما يبدأ الكونغرس في النظر فيما يجب إدراجه ضمن قانون الخصوصية الأميركي الأساسي الهادف بشكل نهائي، ستسعى الشركات إلى تضمين بند وقائي في أي قانون خصوصية اتحادي يتخطى أنظمة الولايات الفردية.
ومع ذلك، يجب أن تكون الصناعة حريصة بشأن التصدي القوي لمطالب دعاة الخصوصية الأميركيين. وقد كان هناك بالفعل نقاش مطول وحاد حول قوانين الخصوصية، أكثر من النقاش حول الشفافية أو المنافسة، وإذا كان على الشركات محاولة إعادة هذه النقاشات إلى نقطة البداية، فمن المرجح أن يتخلى دعاة الخصوصية ببساطة عن المفاوضات التشريعية ويتركون الشركات الأميركية تواجه مطالب صارمة بشكل خاص في هذا المجال من قبل سلطات قضائية أخرى مثل المملكة المتحدة وألمانيا، التي تُعتبر أسواقاً أكبر من أن تتجاهلها أي شركة إنترنت.
أخيراً، في حين أن خطاب أرباب الصناعة مثل "محور" الخصوصية الذي أعلن عنه مارك زوكربيرغ مؤخراً، قد يشير إلى أن "العصابات الرقمية" ستقوم طوعاً بإجراء تغييرات جوهرية على منصاتها التي تفضل الخصوصية، فمن المرجح أن تكون هذه الوعود سطحية في أفضل الأحوال. ومع عدم وجود إطار تنظيمي جديد مطبق على الصناعة، ستستمر الدوافع الخفية لتحقيق الأرباح التي فرضت العوامل الخارجية السلبية المذكورة أعلاه على المستهلك.
المنافسة
لدى عمالقة الإنترنت هيمنة كبيرة في أسواقهم. إذ يُسيطر جوجل على مجال البحث في الإنترنت. بينما يُهيمن موقع الفيسبوك على وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل النصية القائمة على الإنترنت. ويسيطر الاثنان معاً على ما يزيد عن 60% من سوق الإعلانات الرقمية، وتغلّبا على محطات البث التقليدية في إيرادات الإعلانات السنوية. في هذه الأثناء، رأينا أن هاتين الشركتين وشركات أخرى قد انخرطت باستمرار في ممارسات الأعمال التي وصفت على أنها مانعة للمنافسة بشكل متزايد، مثل التجسس على المنافسين لاستنتاج استراتيجياتهم التجارية ومعاملة عروضهم بشكل تفضيلي على منصاتهم وجمع البيانات من الخدمات المتباينة كما في حالة مشاركة فيسبوك لبيانات واتساب مع الخدمات الأساسية للشركة والانقضاض على شراء الشركات الوليدة والناشئة دون كثير من التدقيق التنظيمي.
ونتيجة لذلك، فرضت الهيئات التنظيمية في بعض السلطات القضائية قيوداً على مكافحة الاحتكار وسياسة المنافسة ضد الصناعة. على سبيل المثال، رفعت الهيئة الألمانية المكلفة بإنفاذ قواعد المنافسة الألمانية قضية شاملة ضد فيسبوك الشهر الماضي، وفرضت شعبة سياسة المنافسة بالمفوضية الأوروبية غرامات هائلة على جوجل بسبب انتهاكات مزعومة للسياسة المانعة للمنافسة فيما يتعلق بممارسات الشركة بشأن التسوق وأندرويد وبشأن الإعلان الرقمي في الأسبوع الماضي. كما اتخذت لجنة التجارة العادلة اليابانية ولجنة المنافسة في الهند مؤخراً إجراءات لمنع الاحتكار ضد الشركات الرقمية. يبدو أن هذه الإجراءات تسير جنباً إلى جنب مع التقارير الأخيرة شديدة اللهجة التي نشرتها لجنة من الخبراء التي تعمل لصالح حكومة المملكة المتحدة ووكالة حماية المستهلك الأسترالية التي تنص على ضرورة اتخاذ تدابير أكبر لكبح جماح القوة السوقية الضمنية التي تُبديها شركات أمثال فيسبوك وجوجل وأمازون.
ومن المحتمل أن يكون هناك تصفية حساب أوسع يلوح في أفق الولايات المتحدة، خاصة أن السلطات القضائية الأجنبية ما زالت تواجه تركيز السوق في التكنولوجيا في الأشهر المقبلة. وقد بدأ المنظمون الأميركيون في إجراء تحقيق فكري عميق حول هذه الأمور، وأبدى كبار السياسيين من الجانبين المحافظ والليبرالي من مجلس الشيوخ قلقهم بشأن هيمنة هذه الشركات القليلة.
من وجهة نظري، يبدو اتجاه وطبيعة كل هذا التدقيق في وادي السيليكون عادل تماماً؛ إذ جادل الكثيرون بأنّ الشركات الثلاث المذكورة أعلاه كانت تميل نحو الاحتكار الطبيعي وبشكل غير عادل في بعض الأحيان، ويبدو أن جميعها تستلزم إعادة إنعاش أطر سياسة مكافحة الاحتكار والمنافسة في البلاد بحيث يمكن توجيه قوتها الكاملة ضد الصناعة. ستشجع التشريعات المؤيدة للمنافسة لهذا القطاع في الواقع نظاماً إيكولوجياً أكثر تنوعاً وديناميكية وقائماً على الإنترنت، مما يُتيح فرصاً تجارية جديدة للجهات الفاعلة التجارية الأصغر والأكثر ابتكاراً للمشاركة في نظامنا الإيكولوجي للمعلومات ووسائط الإعلام. وستكون هذه التغييرات في السوق بالنسبة للمستهلك الأميركي موضع ترحيب كبير.
تقف الولايات المتحدة الآن في مفترق طرق حاسم. يمكن لصناعة الإنترنت وصناع القرار الوطنيين لدينا السماح لدول أخرى مثل ألمانيا أو ماليزيا بكتابة القواعد التي تنطبق على شركات التكنولوجيا الأميركية الرائدة، والتي ستكون بالضرورة أكثر صرامة من أي قواعد قد تُعتمد في الولايات المتحدة، أو بإمكانهم الاجتماع بجدية والتفاوض بشكل نهائي على نظام تنظيمي عادل لهذه الصناعة التي تحمي المستهلك بشكل فعال.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت تحبذ طوال تاريخها حرية الأسواق من خلال تمكين الابتكار الصناعي المفتوح، إلا أنّ هناك مبدأ واحد قد تفوّق على أي شيء آخر، وهو أن نزاهة الديمقراطية الأميركية تأتي أولاً وقبل كل شيء.