نعكف منذ عدة سنوات على محاولة فهم وقياس إنتاجية العاملين في المجالات المعرفية الذين لا يمكن تتبع مدخلاتهم ونتائجهم بالطريقة نفسها التي نقيس بها إنتاجية عمال البناء أو عمل تجميع المنتجات أو موظفي مراكز الاتصال، حيث يحتكم العاملون في المجالات المعرفية إلى ضمائرهم الشخصية في تنفيذ المهمات المسندة إليهم، فهم يقررون ما يجب القيام به ومتى، ويمكنهم أن يضنوا بجهدهم دون أن يلاحظ أحد في كثير من الأحيان (وذلك من خلال عدم إعمال عقولهم بكامل طاقتها)، وهكذا تزداد صعوبة محاولات تحسين إنتاجيتهم.
كنا قد عرضنا بحثاً في هذه المقالة المنشورة في "هارفارد بزنس ريفيو" سابقاً يُثبت أن موظفي المعرفة يقضون ثلثي وقتهم في الاجتماعات أو أداء الأعمال المكتبية، على الرغم من أنهم وجدوا هذه الأنشطة مملة غالباً، واقترحنا بعض الخطوات التي يستطيع الموظفون اتخاذها لتكريس الوقت للأنشطة الأجدر بالاهتمام، مثل التحدث إلى العملاء أو تدريب المرؤوسين. لا ريب أننا جميعاً نقع فريسة لأنماط الأنشطة المحكومة بروتين الحياة المكتبية.
لكن لم نلبث أن دهمتنا جائحة فيروس كورونا في مارس/آذار 2020، حيث أُرغم الكثيرون فجأة على العودة إلى منازلهم وأُجبروا على تطوير طرق جديدة للعمل، وها قد غدت لدينا الآن فكرة جيدة عن كيفية تغير جداول مواعيدنا اليومية بعد عدة أشهر من الأزمة، لكننا لا نعرف إلى أي مدى يمكن تعميم خبراتنا، لذلك قررنا تكرار دراسة العام 2013 باستخدام الأسئلة السابقة نفسها وإجراء مقابلات شخصية مع مشاركين لديهم ملفات تعريفية مماثلة.
وإليك النتائج الرئيسية التي خلصنا إليها:
- يساعدنا الإغلاق في التركيز على العمل ذي الأهمية الحقيقية، إذ يقل الوقت الذي نقضيه في الاجتماعات المكبرة بنسبة 12% فيما يزداد الوقت الذي نقضيه في التفاعل مع العملاء والشركاء الخارجيين بنسبة 9%.
- يساعدنا الإغلاق على تحمل مسؤولية جداول مواعيدنا الخاصة، إذ نؤدي أكثر من 50% من أنشطتنا باختيارنا الشخصي لأننا نراها مهمة، ونؤدي ما يقرب من نصفها لأن شخصاً آخر طلب منا ذلك.
- نرى أن عملنا أكثر جدارة بالاهتمام في أثناء الإغلاق، إذ نصنف الأعمال التي نؤديها على أنها ذات قيمة لصاحب العمل ولأنفسنا، وينخفض عدد المهمات المصنفة على أنها مملة من 27% إلى 12%، وينخفض عدد المهمات التي يمكننا إلقاء مسؤوليتها على الآخرين بسهولة من 41% إلى 27%.
باختصار، شكل الإغلاق عنصراً إيجابياً لإنتاجية موظفي المعرفة على المدى المنظور، لكنه أفرز أيضاً بعض المخاوف والتحديات حول فعاليتهم وقدرتهم على الإبداع وقدرتهم الشخصية على التحمل على المدى الطويل. دعونا نلق نظرة أكثر عمقاً على نتائج البحث، ثم نناقش الفرص المتاحة والتحديات الماثلة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
عن البحث
بدلاً من سؤال المشاركين عن انطباعاتهم العامة حول عملهم، طلبنا منهم فتح جداول مواعيدهم وتحديد يوم من الأسبوع السابق يعتبرونه يوماً نموذجياً في حياتهم العملية، ثم طلبنا منهم سرد ما بين 6 إلى 10 أنشطة مميزة خلال ذلك اليوم، مثل اجتماع أو مكالمة هاتفية أو فترة من الوقت استغرقوها في الرد على رسائل البريد الإلكتروني. طلب المحاور من المشاركين تقديم وصف موجز للنشاط المعني ومدته والأفراد الذين أسهموا فيه بخلافه هو، ثم طرح أسئلة حول سبب مشاركتهم في هذا النشاط ومدى قيمته.
أجرينا استقصاء عام 2013 جمعنا فيه بيانات عن 329 نشاطاً محدداً يؤديها 45 موظفاً في حقل المعرفة، وأجرينا استقصاء عام 2020 وتحديداً خلال شهر مايو/أيار ومطلع يونيو/حزيران جمعنا فيه بيانات عن 264 نشاطاً من 40 فرداً. تم اختيار الأفراد بشكل عشوائي وفق معايير محددة، ممثلة فيما يلي: الحصول على درجة البكالوريوس على الأقل وامتلاكهم خبرة لا تقل عن خمس سنوات في العمل بدوام كامل والعمل في وظيفة تتحدد فيها الفاعلية باستخدام القدرة العقلية والقدرة على إصدار أحكام سليمة، وهكذا اختلفت أعمار المشاركين وخبراتهم والقطاعات التي يعملون بها.
صنفنا الأنشطة التي يتم أداؤها إلى ست فئات: الأعمال المكتبية (وحدها) والأعمال الخارجية (التي تستلزم التفاعل مع أشخاص خارج الشركة) والإدارة التنازلية (التفاعل مع المرؤوسين) والإدارة الأفقية (التفاعل مع الأقران والزملاء) والإدارة التصاعدية ( التفاعل مع المدير أو شخص آخر يشغل منصباً أعلى) والتدريب والتطوير.
كيف يقضي موظفو المعرفة وقتهم؟
قضى موظفو المعرفة ثلثي وقتهم عام 2013 إما في "الإدارة الأفقية" في الاجتماعات المنعقدة في الغالب مع عدد كبير من الزملاء، أو في تنفيذ "الأعمال المكتبية" بمفردهم. أما الأعمال التي تركز على الشركاء الخارجيين (مثل التحدث إلى العملاء)، والإدارة التنازلية (ممثلة في التدريب ودعم المرؤوسين) والإدارة التصاعدية (ممثلة في التفاعل مع المدير وغيره من كبار الموظفين) فكلها لم تحصل سوى على القليل من الوقت، بينما لم يحصل التدريب وتطوير الذات على أي جزء من الوقت تقريباً.
كيف تغيرت هذه الصورة خلال الإغلاق؟ كان هناك تحولان مهمّان: أولاً، انخفاض الوقت المستغرق في الإدارة الأفقية خلال الاجتماعات بنسبة 12% وازدياد الوقت المستغرق في الأعمال التي تركز على الشركاء الخارجيين بنسبة 9%. ثانياً، لا تزال الأعمال المكتبية تستغرق ثلث وقتنا. أما التغيرات الأخرى، متمثلة في انخفاض الوقت المستغرق في الإدارة التصاعدية وازدياد الوقت المستغرق في التدريب والتطوير بنسبة طفيفة، فلم تكن ذات دلالة إحصائية.
وبالرجوع إلى الوراء، فإن الأدلة تشير إلى أن الإغلاق ساعدنا في تحديد أولويات عملنا بشكل أكثر فاعلية، صحيح أننا ما زلنا بحاجة لتصفح رسائل البريد الإلكتروني وكتابة التقارير، لكننا صرنا أقل عرضة للتورط في اجتماعات مكبّرة، وهذا يفسح أمامنا مزيداً من الوقت للتركيز على أعمال العملاء أو الزبائن ويطيل الوقت المخصص للتدريب والتطوير، وهو ما يرى الكثيرون أنه شيء جيد. لكن لا يبدو أن الإغلاق قد أسهم من جهة أخرى في الأنشطة ذات التسلسل الهرمي (ممثلة في الإدارة التصاعدية والتنازلية)، ربما لاستحالة عقد اجتماعات قصيرة وتلقائية التي كان من السهل عقدها في السابق.
كيف يقرر موظفو المعرفة ماذا يفعلون؟
في حين أن معظم موظفي المعرفة لديهم توصيف وظيفي مكتوب في مكان ما، فمن المفهوم أنهم يتحملون مسؤولية اختيار ما يجب فعله ومتى يفعلونه بناء على مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك المهمات الواقعة خارج نطاق منصبهم الرسمي عندما يبدو أن ثمة أسباباً منطقية تدعو إلى القيام بها.
للتعرف على كيفية اتخاذ هذه القرارات، طلبنا من المشاركين في الدراسة الاختيار من بين أربعة خيارات لكل نشاط: إنه جزء قياسي من وظيفتي/بناء على طلب مديري أو أحد زملائي أو أقراني، أو فعلت ذلك تلقائياً، أو كان أمراً مهماً ووجدت الوقت لأدائه. قال المشاركون عام 2013 إن 52% من أنشطتهم كانت قياسية، و18% منها جاءت بناء على طلب أقرانهم، و24% منها أنشطة مستقلة لكنها مهمة، و3% منها أنشطة مستقلة وعفوية. وما زلنا في عام 2020 نقضي نصف وقتنا في الأنشطة القياسية، لكننا نؤدي 8% فقط منها لأن زميلاً طلب ذلك، و35% لأننا نعتقد أن النشاط بالغ الأهمية. كان كل من هذين الفارقين ذا دلالة إحصائية، فقد ارتفعت العفوية إلى 6% لكن هذا الاختلاف لم يكن ذا دلالة إحصائية.
ما الذي يجري هنا؟ يبدو أننا صرنا نتحمل قدراً أكبر من المسؤولية المباشرة عن وقتنا خلال الإغلاق، حيث يمنحنا العمل من المنزل مساحة للتنفس: فلم يعد لدينا زملاء أو رؤساء يزعجوننا، ولم نعد نتورط في اجتماعات تنعقد بحكم العادة لمجرد أننا موجودون في مكان العمل. وكانت النتيجة زيادة مطمئنة في الوقت المخصص للأعمال ذات الأهمية المحورية بالنسبة لنا.
ما مدى فاعلية هذه الأنشطة وقيمتها؟
أخيراً، سألنا المشاركين عن مدى أهمية كل نشاط والحافز لأدائه. ويستعرض الرسم البياني أدناه ملخصاً للأسئلة والنتائج خلال عامي 2013 و2020، إذ تبدو الاختلافات لافتة للنظر (وكلها ذات دلالة إحصائية)، فقد قال المشاركون في عام 2020 إن عملهم غدا أكثر أهمية وأقل مللاً وصار من السهل التفرغ له ويسهم في أهداف الشركة، لم يعد عملهم مهماً فحسب، بل صاروا هم أيضاً يشعرون بأهميتهم!
نلمس بالطبع بعض التبرير الذاتي في هذا الموضع: فعندما نعتقد أن عملنا مهم، فسنحاول على الأرجح الحصول على منفعة شخصية منه وسنحجم عن تفويض الآخرين بأدائه قدر الإمكان. ولكن يبدو أننا سنشهد أيضاً إعادة ترتيب بعض الأولويات مع توقف الأفراد عن بعض الأنشطة الأقل أهمية التي اعتادوا القيام بها في السابق وتركيز طاقتهم بصورة أكثر فاعلية. يمكن القول بشكل عام إن النتائج هنا تتوافق مع الفكرة القائلة أن موظفي المعرفة لديهم دوافع أكثر جوهريّة وصاروا أكثر امتلاكاً لمصائرهم خلال فترة الإغلاق، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى درجات الحرية المتزايدة التي باتوا يحصلون عليها.
المخاوف والتحديات
ساعدنا العمل خلال فترة الإغلاق على التركيز وتحمل المسؤولية، لكن القصة لا تقتصر على هذا فحسب، فقد كشفت مقابلات المتابعة عن بعض المخاوف التي نحتاج إلى فهمها كأفراد وكقادة للآخرين،
حيث أشار بعض المشاركين إلى احتمالية التملّص من المسؤولية، حتى إن أحدهم قال لنا: "أخشى أن يتقاعس الموظفون بعض الشيء عن بذل الجهد المطلوب، خاصة وأنهم بدؤوا يركنون إلى الراحة والدعة اللذين يتيحهما العمل من المنزل". لكننا نرى أن هذه ليست بالمشكلة الخطيرة: فهناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها مراقبة مقدار الوقت الذي يقضيه زملاؤك في العمل بصورة غير رسمية، وذلك باستخدام برامج "آوتلوك" (Outlook) و"سلاك" (Slack) وغيرهما من الأدوات، كما يجب علينا تقييم موظفي المعرفة من واقع نتائجهم وليس مدخلاتهم على أي حال.
كان أكبر المخاوف يدور حول الأشياء التي يعجز الموظفون عن تنفيذها بصورة جيدة في البيئات الافتراضية، وعلى رأسها الإدارة الأفقية، إذ لن تجد مجموعات العمل الحالية صعوبات كبيرة في الحفاظ على مسارها الصحيح عند اضطرارها إلى العمل عن بُعد، ولكن ثمة تحديات هائلة تصادف كل من يشرع في شيء جديد (خلال مراحل تكوين الفريق أو تطويره) أو يحاول حل الصراعات الداخلية. يمكن بالطبع إجراء هذه الأنشطة عبر منصة "زووم"، لكن لن تخرج النتائج بالجودة نفسها إذ يفتقر الكثير من الموظفين إلى الحافز خلال اللقاءات غير الرسمية عبر الإنترنت، وهو ما أعرب عنه أحدهم قائلاً: "نفقد شيئاً فشيئاً الرابط الاجتماعي الذي يربطنا معاً".
ولا تقل الإدارة التصاعدية والتنازلية صعوبة في ظل الإغلاق، فقد أجرى معظم المشاركين عمليات متابعة ثنائية على فترات منتظمة مع فرقهم ومدرائهم، لكنهم كانوا يركزون في العادة على المهمات العاجلة والقضايا الماسة بالرفاهة الشخصية، بدلاً من التركيز على التطوير على المدى الطويل، وهكذا يضيعون على أنفسهم فرصة الوصول إلى صميم المشكلات الصعبة، وهو ما أشار إليه أحدهم بقوله: "لا يمكنك تحدي أي شخص واستفزاز كل إمكانياته على منصة زووم، وبالتالي ستجد نفسك أكثر ميلاً إلى الإحجام عن خطوة كهذه". كما أعربوا عن أسفهم لضياع فرص تطوير فرقهم قائلين: "اعتدت أن ألقي بالموظفين في أتون المهمات الجديدة، حيث يتعلمون في أثناء العمل ويعكفون على مشاهدة زملائهم المتمرسين والتعلم منهم. أما الآن فيكاد يكون من المستحيل القيام بذلك في بيئة افتراضية".
أخيراً، يشعر البعض بالقلق حيال تطوير مستوى أدائهم، فعلى الرغم من ازدياد الوقت المخصص للتعليم الذاتي خلال فترة الإغلاق، فإن هذا يرجع في الغالب إلى حضور الدورات التدريبية والحلقات الدراسية عبر الإنترنت (ويبينار)، وهو ما يسهم في اكتساب المعرفة ولكنه لا يشجع على التجريب الحر والتفكير الشخصي الذي يساعدنا على النمو بالمعنى الحقيقي للكلمة.
قد يجد الكثيرون منا أنفسهم مضطرين إلى الاستمرار لبعض الوقت في نمط العمل الجديد الذي يتميز بوجود مسافة اجتماعية، والخبر السار للموظفين العاملين في المجالان المعرفية بالمرحلة الأولى من هذه التجربة هو أن الإغلاق ساعدنا في إدارة جداول مواعيدنا وتحديد أولوياتها بصورة أفضل لإعطاء الأفضلية للأعمال التي تحقق أكبر قيمة مضافة. لكن ونحن ننتقل إلى المرحلة التالية التي سيُسمح فيها بعقد بعض الاجتماعات بحضور المشاركين فيها بصورة شخصية وجهاً لوجه، فإن التحدي الأكبر هو استعادة العناصر غير الرسمية والاجتماعية للحياة المكتبية ذات الأهمية الحيوية لنجاح المؤسسة والفرد.