ما الذي يجعل بعض الكلمات والصور لا تنسى في العمل؟ تجربتي من وزارة الصحة

15 دقيقة
مصدر الصورة: كاتب المقال.

في عام 1927 أجرت عالمة النفس الروسية بلوما زيغارنيك تجربة مثيرة في جامعة برلين اكتشفت فيها شيئاً غريباً عندما كانت تراقب سلوك الطلاب الذين يعملون على مهام محددة. لاحظت أن الطلاب الذين أوقفوا عن إتمام المهمة تذكروا تفاصيلها بصورة أفضل من أولئك الذين أكملوها. ولكن الملاحظة الأكثر إثارة كانت عندما شاهدت نادلة في مطعم قريب من الجامعة؛ فقد لاحظت أنها كانت تتذكر بدقة الطلبات التي كانت لا تزال معلقة أو غير مكتملة، بينما كانت تتجاهل تماماً تلك المنجزة.

أصبح هذا الاكتشاف أساساً لما يعرف اليوم بـ "تأثير زيغارنيك"، الذي يشير إلى أن المهام غير المكتملة أو العالقة تظل في الذاكرة أكثر رسوخاً من المهام المكتملة. يفسر هذا التأثير سبب تذكرنا لبعض الصور والكلمات أكثر من غيرها. في واقع الأمر، تميل أدمغتنا إلى التركيز على المعلومات التي لم تغلق أو تكتمل، ما يجعلها تظل عالقة في أذهاننا لفترة أطول. في هذا المقال، سنتعرف على العوامل النفسية والعصبية التي تجعل بعض الصور والكلمات أكثر تذكراً من غيرها، وكيف يمكننا الاستفادة من هذا الفهم في مجالات مثل بيئة العمل والتعليم وحتى التسويق.

آلية عمل الدماغ في تذكر الصور والكلمات

يعالج الدماغ البشري المعلومات بطريقة معقدة وديناميكية. عندما نتعرض لمواقف جديدة أو لصور وكلمات تحمل معنى شخصياً، تسجل مناطق معينة في الدماغ، مثل القشرة الحزامية الأمامية واللوزة الدماغية (المسؤولة عن العاطفة)، هذه الذكريات بقوة أكبر. يعزز هذا الارتباط العاطفي قدرة الدماغ على "إغلاق" أو "إكمال" القصة أو الصورة التي كانت جزءاً من الموقف. فكلما كانت المعلومة غير مكتملة، زادت الفرص لترسيخها في الذاكرة.

كما يوضح دانيال كانيمان في كتابه "التفكير السريع والبطيء": "نميل إلى التفكير على نحو أسرع في الأمور التي تثير اهتمامنا العاطفي، ما يخلق أولوية في الذهن لاستكمال هذه التجارب غير المكتملة". هذا يفسر لماذا نميل إلى تذكر بعض الكلمات أو الصور دون غيرها؛ فالدماغ يركز أكثر على المعلومات التي تشعرنا بالعاطفة، أو تلك التي تثير اهتماماً شخصياً، أو تتطلب منا إغلاقاً لموضوع معين أو استكماله.

أثر التحيزات السلوكية في تذكر المعلومات

التحيزات السلوكية هي انحرافات منتظمة أو متوقعة عن التفكير المنطقي أو العقلاني، تؤثر في طريقة تذكرنا للأشياء واتخاذنا للقرارات. كما تؤثر في كيفية إدراكنا للمعلومات وتفسيرها، ما يجعل بعض الصور والكلمات أكثر رسوخاً في الذاكرة مقارنة بغيرها.

تعمل هذه التحيزات بصورة أساسية ضمن النظام 1 (التفكير السريع)، الذي يعتمد على الحدس والعاطفة في اتخاذ القرارات. يشير كانيمان إلى أن النظام 1 سريع ويعتمد على الاستجابة العاطفية لتحديد الأولويات، ما يعزز التحيزات مثل إيكيا والتكرار. في المقابل، النظام 2 (التفكير البطيء) يتطلب جهداً عقلياً أكبر وهو أقل استخداماً في تحديد أولويات التذكر، لأنه يعتمد على التفكير التحليلي.

على سبيل المثال، عندما نشاهد صورة عاطفية أو نواجه معلومة غير مكتملة، يتفاعل النظام 1 بسرعة، ما يثير اهتمامنا العاطفي ويؤدي إلى ترسيخ هذه المعلومة في الذاكرة. بينما عندما نتعرض لمواقف أكثر تفكيراً أو تحليلاً، نميل إلى نسيان بعض التفاصيل غير المؤثرة في ذاكرتنا. هذا التفاعل بين النظامين يعزز تأثير التحيزات السلوكية على تذكر الصور والكلمات.

أمثلة من التحيزات السلوكية المرتبطة بالذاكرة

  1. تأثير إيكيا: يشير هذا التأثير إلى ميلنا لإعطاء قيمة أكبر للأشياء التي أنشأناها أو خصصناها بأنفسنا. ببساطة، عندما نشارك في إنشاء شيء ما أو بنائه، نعتقد أن قيمته أكبر مما هي عليه في الواقع.

مثال: عندما تجمع قطعة أثاث من إيكيا بنفسك، قد تشعر بأنها أكثر تميزاً وأهمية من القطع الجاهزة التي لم تسهم في صنعها. هذا يؤدي إلى تذكر تلك القطعة لفترة أطول مقارنة بالأثاث الذي لم تشارك في تجميعه.

  1. تحيز التفوق الصوري: يشير هذا التحيز إلى ميل الدماغ البشري لمعالجة الصور على نحو أسرع وأكثر فعالية من الكلمات. تحفز الصور الأجزاء العاطفية في الدماغ، ما يجعلها أكثر تذكراً مقارنة بالكلمات المكتوبة.

مثال: في الإعلانات، تكون الصورة المذهلة لمنتج معين أكثر تأثيراً من مجرد قراءة وصف نصي عنه. فمثلاً، إذا شاهدت إعلاناً يحتوي على صورة جذابة لشاطئ مشمس وأنت مسترخ تحت الشمس، فستتذكر الإعلان بصورة أفضل من مجرد قراءة نص عن منتجع سياحي.

  1. تحيز التكرار: يشير هذا التحيز إلى ميلنا لتذكر المعلومات التي تكرر باستمرار، سواء كانت كلمات أو صوراً أو أفكاراً. يفضل الدماغ البشري المعلومات المتكررة لأنها تصبح أكثر إلماماً وتأكيداً.

مثال: يساعد الإعلان المتكرر عن منتج جديد في التلفاز على تثبيت هذا المنتج في ذهنك. على سبيل المثال، إذا عرض إعلان عن مشروب غازي كل يوم عدة مرات، فستتذكر هذا المنتج أكثر من الإعلانات التي تعرض لمرة واحدة فقط.

  1. تحيز البروز أو التأثير الأول والأخير: يشير هذا التحيز إلى أننا نميل لتذكر الأشياء التي تأتي في بداية سلسلة معينة أو نهايتها على نحو أفضل من تلك الموجودة في منتصفها. لذا، يكون لدينا تذكر أقوى للمعلومات التي تأتي في أول قائمة أو آخرها.

مثال: إذا كنت في اجتماع عمل استمعت فيه إلى قائمة من 10 نقاط، فإنك غالباً ستتذكر النقاط الثلاث الأولى والأخيرة، بينما قد تنسى بعض النقاط المذكورة في المنتصف. هذا التحيز هو السبب في أن العروض التقديمية تبدأ وتنتهي بأكثر الأفكار أهمية لجذب الانتباه والذاكرة.

أمثلة عملية من وحي تجربتي في وزارة الصحة السعودية

كانت لي تجربة عمل في وزارة الصحة السعودية تركزت في العمل الاتصالي، وقد صادفت هذه التجربة بداية جائحة كوفيد-19. لم تسمح الأزمة برفاهية التفكير في الخيارات، بل أجبرت الجميع على التحرك نحو ما هو أكثر فاعلية. وخلال تلك المرحلة، رأيت بأم عيني كيف يمكن أن تتحول مفاهيم مثل تأثير زيغارنيك والتحيزات السلوكية في الذاكرة إلى أدوات استراتيجية فعالة في التواصل المؤثر.

في التوثيق البصري بعد الجائحة

بعد انتهاء المرحلة الحادة من جائحة كوفيد-19، وجدنا أنفسنا في وزارة الصحة أمام كم هائل من الصور الفوتوغرافية التي التقطت خلال الأزمة. لم يكن الكثير من هذه الصور يوثق لحظات مكتملة أو معدة للنشر آنذاك، بل كانت مشاهد سريعة، مضطربة، أو حتى ناقصة من حيث التكوين أو السياق. ومع ذلك، اكتشفنا أن هذا "النقص" يحمل قوة سردية فريدة.

بنينا مشروعاً سردياً بصرياً تحت عنوان "أذكر أن"، استثمرنا فيه هذا النقص المتعمد. كانت الصور المختارة تضع المتلقي أمام مشهد مفتوح على احتمالات متعددة، ما أجبره نفسياً على إكمال المعنى بنفسه. هذه الآلية تفعل تأثير زيغارنيك وتوقظ الفضول العاطفي، الأمر الذي جعل الصور تعلق في الذاكرة لا باعتبارها توثيقاً فقط، بل تجربة وجدانية.

في فيلم "الثقب الأحمر"

عرض هذا الفيلم في أمسية خاصة بمسرح مدينة الملك فهد الطبية بالرياض، وكان نتاج عمل اتصالي ركز على قصص من واقع غرف الطوارئ. لكننا لم نقدم هذه القصص بوصفها حكايات مكتملة ذات نهاية مغلقة؛ بل حرصنا على أن تكون كل قصة أقرب إلى سؤال مفتوح منها إلى إجابة.

على سبيل المثال، لم نخبر المتلقي بما حدث للمريض بعد لحظة درامية معينة، بل تركنا "ثقباً" داخل السرد، كما يليق بعنوان الفيلم نفسه. كانت النتيجة أن كل مشاهد تكونت لديه سرديته الخاصة وفقاً لمشاعره وخبراته.

أتذكر تعليق أحد كبار استشاريي الطوارئ بعد العرض حين قال لي: "غداً سأذهب للعمل بشعور مختلف". في تلك اللحظة، أدركت أن الفيلم لم يعرض فقط على شاشة، بل عرض في دماغه وذاكرته. لقد فعلنا النظام 1، بما يحمله من تلقائية واستجابة وجدانية.

في حملة “#الآن_عرفته” للأمراض النفسية

من أصعب التحديات الاتصالية التعامل مع موضوع غير ملموس كالصحة النفسية، خاصة حين تحيط به الوصمة المجتمعية. خلال إعدادنا لهذه الحملة، أجرينا مقابلات مع عدد من المتعافين من أمراض نفسية، وسألناهم جميعاً سؤالاً محورياً: "ما هي المعلومة التي لو عرفتها في بدايات المرض، لكانت غيرت مسارك أو خففت من معاناتك؟".

على الرغم من اختلاف الإجابات، اتفق الجميع على فكرة واحدة: لم يعرفوا أنهم يعانون أصلاً. هذا البعد المفاجئ كان أساس جوهر الحملة، التي اعتمدت على تحيز التكرار. صغنا رسائل متكررة ولكن بطرق متعددة، حكايات، مقابلات، مشاهد تمثيلية، لغة بصرية متنوعة، كل ذلك يدور حول الفكرة نفسها: الوعي المبكر يصنع الفرق.

هذا التكرار عبر قوالب مختلفة لم يشعر الجمهور بالملل، بل خلق لدى الذاكرة قابلية أعلى للربط والتذكر، فكل مرة كانت الحكاية تحمل وجهاً جديداً للرسالة نفسها.

نصائح عملية للقادة والموظفين: كيف تجعل كلماتك وصورك لا تنسى في بيئة العمل؟

هذه المبادئ لا تنتمي فقط إلى عالم الاتصال أو التسويق، بل هي أدوات يومية لأي قائد يسعى لإحداث فرق حقيقي، لا مجرد أن يسمع صوته. فالرسائل التي تترك أثراً طويلاً في الذاكرة هي التي تغير السلوك وتبني ثقافة مؤسسية أكثر وعياً وتواصلاً.

  1. استخدم "النقص المتعمد" لتحفيز الفضول: لا تقدم كل شيء دفعة واحدة. اترك بعض التفاصيل مفتوحة أو غير مكتملة في عرضك التقديمي أو رسالتك، لتحفز جمهورك على التفكير أو التفاعل. هذا يشغل عقل المتلقي ويفعل تأثير زيغارنيك، ما يعزز التذكر والانخراط العاطفي.
  2. حول موظفيك أو جمهورك إلى "مشاركين" وليس مجرد "متلقين": استفد من تأثير إيكيا من خلال إشراك الفريق في تصميم الحلول أو المبادرات. عندما يشارك الأفراد في صناعة فكرة أو مشروع، يصبحون أكثر ارتباطاً به ويتذكرونه لفترة أطول.
  3. دع الصور تتكلم: استخدم الصور القوية، خصوصاً تلك التي تثير العاطفة أو تروي قصة ناقصة. ثم امنح الجمهور فرصة لقراءة المعنى بأنفسهم. لا تشرح كل شيء. أحياناً، الصمت بعد صورة قوية يحدث أثراً أعمق من ألف كلمة.
  4. كرر الفكرة الأساسية بصيغ متعددة: طبق تحيز التكرار بذكاء. لا تكرر الجملة نفسها، بل كرر الرسالة الجوهرية بأشكال مختلفة: قصة، اقتباس، رسم بياني، مشهد تمثيلي. هذا يساعد على ترسيخ المعنى دون إثقال الذهن.
  5. رتب رسائلك بعناية: الأهم في البداية والنهاية: استفد من تأثير البروز. عند تقديم عرض أو كتابة رسالة، ضع النقاط الأساسية أو الأكثر تأثيراً في المقدمة والنهاية، حيث تكون فرص التذكر أعلى.
  6. استخدم القصص لا الإحصاءات فقط: حتى في بيئة عمل تقنية أو رسمية، تبقى القصة الوسيلة الأكثر تأثيراً على الدماغ. اربط المفاهيم أو القرارات بقصص واقعية أو شخصية تعزز البعد الإنساني وتثبت المعنى في الذاكرة.
  7. راقب استجابة الجمهور: إذا أردت التأثير الطويل المدى، فلا يكفي أن يفهم الموظف أو الزميل ما تقوله، بل يجب أن "يشعر" به. اسع إلى استثارة الانفعال، لأنه الوقود الخفي للذاكرة والانخراط.

الذاكرة ليست مجرد خزان للمعلومات، بل هي نظام ديناميكي يعمل وفقاً لمجموعة من الآليات النفسية والعصبية. يسهم تأثير زيغارنيك، إلى جانب التحيزات السلوكية مثل تأثير إيكيا وتحيز التكرار، في تحديد ما نتذكره من بين الزخم الهائل للمعلومات التي نتعرض لها يومياً. إذا أردنا فهم كيف نتذكر الكلمات والصور فهماً أفضل، فعلينا أن ندرك أن الدماغ لا يختار المعلومات عشوائياً، بل يعتمد على العواطف والتكرار والغموض في تحديد ما يظل عالقاً في الذاكرة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي