لم يكن قطاعي الصناعة والثروة المعدنية في السعودية بمنأى عن التغييرات والإصلاحات الاقتصادية التي تشهدها المملكة من أجل رسم خارطة طريق جديدة لتوسيع قاعدة الاقتصاد الوطني في مختلف المجالات، وتنويع مصادر خلق القيمة وتنميتها بعيداً عن مصادر النفط.
وترتكز إسهامات الصناعة في تحقيق "رؤية السعودية 2030" على المستهدفات الطموحة التي حددتها الرؤية، والتي جرت بلورتها في "الاستراتيجية الوطنية للصناعة"، عبر ثلاثة أهداف استراتيجية، هي:
- بناء اقتصاد صناعي وطني مرن قادر على التكيف مع المتغيرات، وذلك من خلال زيادة التصنيع المحلي وتقليل مخاطر سلاسل الإمداد.
- تكوين مركز إقليمي صناعي متكامل لتلبية الطلب، وذلك من خلال الاستفادة من حجم السوق المحلي والأسواق الإقليمية.
- تحقيق ريادة عالمية في صناعة مجموعة من السلع المختارة، التي تتطلب تبنّي مجموعة من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، والتركيز على مجالات البحث والتطوير والابتكار فيها.
وتعتمد الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود خلال أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2022، في تنفيذ أهدافها على القطاع الخاص بصفة أساسية، ولا تكتف الاستراتيجية بالتركيز على القطاعات الاقتصادية، التي تملك المملكة إمكانات كبيرة للنجاح فيها، وإنما تستهدف أيضاً 118 مجموعة من السلع الصناعية، التي اختيرت طبقاً لأسس استراتيجية ضمن 12 قطاعاً صناعياً أولياً، تحظى المملكة فيها بفرص كبيرة للمنافسة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ويؤدي تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصناعة، إلى جعل القطاع الصناعي المحرك الرئيس لزيادة الصادرات غير النفطية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق وظائف نوعية للسعوديين، والاستثمار في مجالات البحث والتطوير والابتكار، وتعبيراً عن هذه الأدوار المهمة المنتظرة، أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان "أن لدى المملكة جميع الممكنات للوصول إلى اقتصاد صناعي تنافسي ومستدام، من مواهب شابة طموحة، وموقع جغرافي متميز، وموارد طبيعية غنية، وشركات صناعية وطنية رائدة، ومن خلال الاستراتيجية الوطنية للصناعة وبالشراكة مع القطاع الخاص، ستصبح المملكة قوة صناعية رائدة تسهم في تأمين سلاسل الإمداد العالمية، وتصدر المنتجات عالية التقنية إلى العالم".
وتؤكد هذه المجريات، بأن الصناعة باتت أكثر القطاعات القادرة على تلبية حاجة السوق المحلية، خصوصاً بعد جائحة كوفيد-19، وبحسب إحصاءات وزارة الصناعة والثروة المعدنية، فقد وصل عدد المصانع القائمة في المملكة حتى نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2022 إلى 10,788 مصنعاً، بحجم استثمارات بلغ 1.374 تريليون ريال، وهو أعلى رقم يُسجل في مسيرة القطاع، بينما سُجلت 2,099 رخصة تعدينية حتى نهاية نصف عام 2022.
ووضعت رؤية السعودية 2030 أهدافاً سنوية طموحة لقطاعي الصناعة والتعدين في مؤشرات الاقتصاد الكلي، شملت زيادة نسبة مشاركة الصناعة والتعدين في الناتج المحلي الإجمالي من 10% إلى 15% بحلول عام 2030، لترتفع قيمة مساهمة القطاع من 272 مليار ريال في عام 2022 إلى أكثر من 400 مليار ريال في عام 2025، وما يزيد عن 600 مليار ريال بحلول عام 2030.
ولتحقيق هذه الأهداف، أُعيد ترتيب منظومة الصناعة والتعدين التي تضم وزارة الصناعة والثروة المعدنية، والهيئة الملكية للجبيل وينبع وهيئة تنمية الصادرات السعودية، وهيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية، والهيئة السعودية للمساحة الجيولوجية، وبنك التصدير والاستيراد السعودي، وصندوق التنمية الصناعية السعودي، والمركز الوطني للتنمية الصناعية وجهات داعمة مثل هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية، لتعمل جميع أطراف هذه المنظومة بالتناغم مع برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية "ندلب" أحد برامج رؤية المملكة 2030، بحيث تكون أكثر تكاملاً وترابطاً بدءاً من تخطيط العمل ثم التنفيذ حتى تحقيق النتائج.
تحويل السعودية إلى قوة صناعية
يهدف برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية "ندلب" إلى جعل السعودية قوة صناعية ومنصة لوجستية عالمية في عدد من المجالات الواعدة، من خلال توليد فرص عمل للمواطنين، وتعزيز الميزان التجاري، وتعظيم المحتوى المحلي، وتوفير التمويل المطلوب، وتطوير البنية التحتية والأراضي الصناعية، والتوسع في تطبيق إجراءات الرقمنة، وتوطين التقنيات الخاصة بالصناعة، وتبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة بما يُسهم في الانتقال نحو اقتصاد المعرفة.
وحققت مبادرات البرنامج العديد من الإنجازات منها إطلاق برنامج المسح الجيولوجي، وخمسة خطوط ملاحية جديدة، وتدشين أول زورق اعتراضي سريع مصنّع محلياً، وإنشاء محطات للطاقة المتجددة، وزيادة متسارعة للاستثمار في القطاع الصناعي، ودعم توطين قطاع الصناعات العسكرية، وإطلاق برنامج صُنع في السعودية، الذي يسعى إلى تسويق المنتجات المحلية السعودية محلياً وإقليمياً وعالمياً وتوجيه القوة الشرائية نحو المنتجات والخدمات المحلية وصولاً إلى مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي إلى 65% ورفع نسبة الصادرات غير النفطية في إجمالي الناتج المحلي غير النفطي إلى نحو 50% بحلول عام 2030.
الثروات المعدنية نفط آخر
تمتلك السعودية ثروات معدنية تقدر قيمتها بنحو 5 تريليونات ريال، ووصفها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان بأنها "نفط آخر"، وسيصبح قطاع التعدين الركيزة الثالثة في الصناعة السعودية بحلول عام 2030، وعليه، أطلقت وزارة الصناعة والثروة المعدنية برنامج الاستكشاف المسرّع مطلع عام 2022 بهدف استكمال عملية منح التراخيص الحالية التي حددها نظام الاستثمار التعديني الجديد، ما يساعد في جذب الاستثمارات النوعية في قطاع التعدين وزيادة الإنفاق على عمليات الاستكشاف.
وخلال العقود الماضية، نُفِّذ عدد من عمليات الاستكشاف المكثفة في موقع الخنيقية الذي يضم نحو 25 مليون طن من خامات الزنك والمنجنيز والنحاس والذهب، التي تعد ضرورية لتحوّل قطاع الطاقة في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الزنك والنحاس، فمن المتوقع أن يصل الطلب على النحاس إلى 3.5 ملايين طن سنوياً بحلول عام 2030، كما سيتضاعف الطلب على الزنك من صناعات الطاقة الشمسية فقط إلى 160 ألف طن بحلول العام نفسه.
وأُجريت ثلاث حملات استكشافية، إضافة إلى التنقيب في مساحة تزيد عن 100 ألف متر مربع، وبناء نموذج جيولوجي ثلاثي الأبعاد طورته مؤخراً شركة إس آر كيه الاستشارية (SRK Consulting) التي نتج عنها تحديد أربعة أجسام معدنية منفصلة غنية بالنحاس والزنك في موقع الخنيقية، وكذلك، إنشاء دليل لإجراءات عمليات الاستكشاف حسب المعايير العالمية المعتمدة، وتوفير دراسات استكشافية تفصيلية للرواسب المعدنية ودراسات متقدمة لمواقع مستهدفة.
وأصدرت وزارة الصناعة والثروة المعدنية خلال الفترة الماضية عدة قرارات تتعلق بتخصيص 54 موقعاً للاحتياطي التعديني بمساحة تقارب 3,600 كيلو متر مربع، وانطلقت المرحلة الأولى من مشروعات مبادرة برنامج المسح الجيولوجي الإقليمي في السعودية على مساحة تصل إلى أكثر من 600 ألف كيلو متر مربع تغطي كل مساحة المنطقة الجيولوجية المعروفة باسم "الدرع العربي"، ما يعني تحقيق مزيد من الاكتشافات للمناطق التي تتوفر بها المعادن.
وتعمل السعودية على أن يكون قطاع التعدين الوجهة الأكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية، بتطبيق مبادئ الشفافية والامتثال وأمن الحيازة، إضافة إلى تقديم تسهيلات للمستثمرين في القطاع عبر استحداث منصة تعدين رقمية بالكامل، توفر عدداً من الحوافز، منها التمويل المشترك لما يصل إلى 75% من أي استثمار جديد، وخصم يصل إلى 90% لمبيعات مشاريع الصناعات التحويلية المحلية ودعم المحتوى المحلي، إضافة إلى خلق الفرص الوظيفية للمواطنين في مشاريع التعدين الجديدة.
إنجازات في منظومة الصناعة والثروة المعدنية
وتضم منظومة الصناعة السعودية مجموعة من المؤسسات والجهات الفاعلة، التي تحقق تقدماً ملحوظاً في نتائجها بما يعزز من تنافسية القطاع، منها الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية "مدن" حيث وصل عدد المدن الصناعية في المملكة إلى 36 مدينة صناعية تحتضن أكثر من 4 آلاف مصنع، فيما بلغ إجمالي العقود في المدن الصناعية نحو 7,018 عقداً، كما بلغت قيمة الاستثمارات 370 مليار ريال، ووصل عدد الموظفين في المدن الصناعية إلى أكثر من 500 ألف موظف منهم 211,130 موظفاً سعودياً و17 ألف موظفة سعودية.
ومنذ عام 2000 حتى عام 2020، اعتمد صندوق التنمية الصناعية السعودي 2,439 قرضاً بقيمة إجمالية تتجاوز 151 مليار ريال، في حين بلغت قيمة الاستثمارات للمشاريع المعتمدة نحو 591 مليار ريال، واعتمد الصندوق خلال عام 2020 أكثر من 17 مليار ريال، استفاد منها أربع قطاعات رئيسة يدعمها الصندوق، وهي قطاع الصناعة، والتعدين، والطاقة، والخدمات اللوجستية.
ويسهم المركز الوطني للتنمية الصناعية في تفعيل منظومة الصناعة والثروة المعدنية، إذ يعمل على تطوير عشر قطاعات واعدة لتحقيق رؤية 2030، وهي: قطاع الكيماويات، والأجهزة الطبية، والسيارات والآلات والمعدات، وقطاع الأغذية، والمعادن والتعدين، والأدوية والطيران، والطاقة المتجددة ومواد البناء.
وتصل قيمة الاستثمارات للمشاريع التي يطورها المركز 20 مليار ريال، فيما يعمل على استثمارات أخرى تصل قيمتها إلى نحو 74 مليار ريال، ومن المتوقع أن تخلق أكثر من 8 آلاف وظيفة للسعوديين، ونجح المركز خلال جائحة كوفيد-19 بتوطين نحو 25 مصنعاً للكمامات، تنتج نحو 10 مليون كمامة يومياً، وتمكن من تصنيع أول جهاز تنفس صناعي محلياً من طراز "PB56" وفقاً للمعايير العالمية.
وتندرج هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية ضمن الجهات الداعمة لمنظومة الصناعة والثروة المعدنية في السعودية، وتعد القائمة الإلزامية للمنتجات الوطنية من الآليات الفعّالة التي تتبعها الهيئة لتنمية المحتوى المحلي، حيث أصدرت هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية 9 قوائم إلزامية للمنتجات الوطنية في قطاعات مختلفة، تتضمن أكثر من 400 منتج وطني، سيستفيد منها نحو 4,000 مصنع وطني، بأثر يبلغ أكثر من 20 مليار ريال على الاقتصاد الوطني؛ بالإضافة إلى تفعيل أسلوب التعاقد على توطين الصناعة ونقل المعرفة وهو أسلوب مستحدث يهدف لتوطين الصناعات والمنتجات ذات الأولوية لتغطية الاحتياج المحلي بالمملكة، حيث تم توقيع 6 اتفاقيات تستهدف قطاعات مختلفة بالشراكة مع القطاعين العام والخاص.
وتضم منظومة الصناعة والثروة المعدنية في المملكة أيضاً هيئة المساحة الجيولوجية التي من بين أبرز أهدافها تزويد المجتمع بالمعلومات والخرائط الجيولوجية الأساسية، وتأمين احتياطيات استراتيجية مستدامة من الموارد المعدنية، ورصد ومراقبة ودراسة المخاطر الجيولوجية، والمساهمة في الحد من آثارها، ودراسة المشاكل البيئية المرتبطة بالمخاطر الجيولوجية، والأخرى الناجمة عن التوسع الحضري، إضافة إلى دعم المشاريع الإنشائية والحضرية بدراسات الجيولوجيا الهندسية، وبناء وتطوير قواعد المعلومات الوطنية لعلوم الأرض.
ونفذت الهيئة أكثر من 800 مشروع فني متخصص منذ نشأتها، وتضم أكثر من 400 فني يعملون في تخصصات مختلفة بعلوم الأرض، وأسست أكثر من 280 محطة رصد زلزالي موزعة في جميع أنحاء المملكة، إضافة إلى تحليل واختبار أكثر من 172,000 عينة صخرية لمشاريع فنية، وتقديم 80 خدمة فنية في مجالات علوم الأرض والعلوم ذات العلاقة.
وفي مسار الصادرات، ركزت هيئة تنمية الصادرات السعودية على زيادة حجم الصادرات غير النفطية والانفتاح على الأسواق العالمية وتحسين بيئة التصدير عبر تقديم الحوافز للمصدرين، والرفع من الجودة التنافسية للمنتجات السعودية في الأسواق العالمية، وعليه ساهمت الهيئة خلال عام 2021، في وصول المنتجات السعودية إلى أكثر من 180 دولة حول العالم، وبقيمة صادرات تجاوزت 277 مليار ريال سعودي من الصادرات السلعية وإعادة التصدير.
وفي أحدث عمليات التطوير والنهوض بالقطاع الصناعي في السعودية وزيادة معدلات التصدير؛ صدرت الموافقة في 2020 على تنظيم بنك التصدير والاستيراد السعودي، حيث تتمثل مهامه في تقديم خدمات تمويل الصادرات وضمان وتأمين الصادرات للمستفيدين بمزايا تنافسية، وتمويل المستوردين للمواد الخام، والتعاون مع المؤسسات الحكومية بما يخدم أهداف البنك. وفي عام 2021 بلغ حجم قيمة التسهيلات الائتمانية المصروفة 1.7 مليار ريال، بواقع 50 دولة وصلتها المنتجات السعودية، حيث بلغت نسبة 50% من تمويل البنك للشركات الصغيرة والمتوسطة.