قال رئيس الولايات المتحدة السابق، توماس جيفرسون، ذات مرة: “الصدق هو الفصل الأول في كتاب الحكمة”. على الرغم من أن أهمية الصدق وقول الحقيقة من الأساسيات التي يتعلمها الأطفال في المدرسة كثيراً، فهو سلوك يندر تطبيقه حين نتقدم في السن. لكن انخفاض مستوى الصدق، وهو ما نسميه الغش، ليس بالضرورة صفة فطرية أو جزءاً من طبيعة الإنسان، فمن الممكن تعلمه. من خلال تجربتي، لاحظت أن مراكز التوجيه المهني في الجامعات هي أبرز من يعلم هذا السلوك الخاطئ، وهي بذلك فرص الطلاب الأذكياء في الوصول إلى عالم الشركات الناشئة، إذ تقنعهم بتقديم إجابات غير صادقة عن أسئلة مقابلات العمل الصعبة.

إفصاح كامل عن المعلومات: أعمل في شركة ناشئة، وتتمثل مهمتي في جمع الأشخاص المناسبين في الفريق بسرعة، وطوال مسيرتي المهنية السابقة في الشركات الكبيرة، كان الصدق والنقد الذاتي دائماً من الصفات الواضحة التي يجب البحث عنها في المرشحين للوظائف، لكن لم أدرك أهمية هاتين الصفتين بالنسبة للشركات الناشئة إلا بعد انضمامي إلى شركة ميداليا (Medallia). يتناول رائد الأعمال، براندون بالينجر، في مقال شهير في مدونته تجربته مع مؤسس شركة واي كومبينيتور (Y Combinator)، بول غراهام، ويوضح السبب الذي يمنح الصدق والنقد الذاتي أهميتهما في عالم الشركات الناشئة. باختصار، أخبر غراهام بالينجر بأن فكرة شركته الناشئة كانت سيئة بأسلوب “الحب الصارم” الذي يشيد به بالينجر الآن. ما السبب؟ في الشركات الناشئة، يفضل القائد أن يكون فرداً فاعلاً في الفريق لا قائداً صارماً بغيضاً، بحسب وصف بالينجر، وعلى الرغم من ذلك، تكمن صعوبة قيادة الشركة الناشئة في الاعتراف علناً بأن استراتيجية الشركة الحالية غير فعالة، بغض النظر عن الإحراج الذي يسببه الإقرار بفشل هذه الاستراتيجية أو حجم المبالغ التي أُنفقت لتحقيقها.

بمعنى آخر: من أكبر المخاطر التي تواجه الشركات الناشئة أن يقودها عدد من الأفراد الأذكياء الذين لا يتحلون بالصدق فيسيروا بها نحو الهاوية.

على الرغم من ذلك، لا تزال مراكز التوجيه المهني في الكليات والجامعات تعتمد على نموذج قديم يعود إلى القرن العشرين لتوجيه الوظائف؛ إذ كانت أفضل المواهب تُوجّه نحو الوظائف التقليدية في الشركات والقطاعات الكبرى الراسخة. في تلك الثقافات يكون أهون على القائد الإفصاح عن حجم ثروته من الاعتراف بنقاط ضعفه. ربما تمكنت الشركات الناضجة والمعروفة في الماضي من العمل بمبدأ ثقافة عدم المخاطرة، لكنّ هذه العقلية كارثية في الشركات الناشئة التي تتطلب اتخاذ مبادرات جريئة لتحقيق النجاح.

على الرغم من ذلك، يبدو أن أهمية هذه الحقيقة البسيطة لا تزال غامضة بالنسبة لمكتب خدمات التوظيف في العديد من الكليات والجامعات الرائدة في البلاد، إذ تقدم غالبيتها توجيهات بشأن الأمور الأساسية، مثل السيرة الذاتية والخطابات التعريفية ونمط اللباس وطريقة تناول الطعام، لكنها لا تقدم نصائح مفيدة وكافية حول كيفية الإجابة بطريقة مناسبة عن الأسئلة المهمة. فلنأخذ على سبيل المثال سؤالاً شائعاً أحب أن أطرحة دائماً: ما أبرز نقاط ضعفك؟

حتى إذا لم تجرِ سوى مقابلة توظيف واحدة فقط في حياتك المهنية، فمن المحتمل أنك سُئلت مثل هذا السؤال. هل تتذكر كيف أجبت عنه؟ هل ذكرت أنك تعمل بجد على نحو مفرط؟ أو أنك مهووس بالكمال؟ أو أنك تملك شغفاً وحماساً أكبر من اللازم؟ كن صادقاً.

في الحقيقة، من خلال البحث السريع في مواقع مراكز التوظيف، نجد أنها تشجع الطلاب على استخدام هذه العبارات في إجاباتهم، حتى بالنسبة لمن يدعون إلى الصدق، ثمة تناقض في فكرة أنه من الضروري أن تكون الإجابات إيجابية دائماً. ما النتيجة المترتبة على ذلك؟ تقديم الإجابات التي تركز على المهارات الأقل أهمية (على الرغم من حقيقة أنها مهاراتبالفعل) بدلاً من ذكر المشكلات أو التحديات الحقيقية التي تواجه الأشخاص في العمل. يصف أحد مكاتب خدمات التوجيه المهني في الكليات والجامعات هذا النوع من نقاط الضعف بـ “نقاط الضعف الملائكية”. تشير مراكز التوظيف في أنحاء العالم إلى أنك إذا كنت مضطراً إلى تقديم إجابة حقيقية حول نقطة ضعفك، فإن أفضل إجابة يمكن أن تقدمها هي “التحدث أمام الجمهور”.

فيما يقدم بعض مراكز التوظيف نصائح مباشرة يعرفها الجميع وتشير إلى تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة (والعكس صحيح). توصي جامعة نورث وسترن الخريجين بضرورة تحويل النقاط السلبية إلى نقاط إيجابية. تنصح كلية بوسطن الطلاب أيضاً بتحويل نقاط الضعف إلى نقاط إيجابية، على سبيل المثال، يمكن القول: “نظراً لأني أميل إلى المماطلة والتأجيل، تعلمت كيفية العمل بكفاءة تحت الضغط لضمان إنجاز العمل في الوقت المحدد دائماً”.

إنها نصيحة سيئة، فمثل هذه الإجابات لا توفر معلومات كافية حول طريقة تعامل المرشح مع التحديات وتعطي انطباعاً فورياً بعدم صدقه. وأنا لا أرى أنها تظهر طريقة تفكير المرشح بل قدرته على تجنب تقديم إجابات صادقة أو الاعتراف بنقاط ضعفه بأسلوب ذكي. تشير هذه الإجابات أيضاً إلى عدم استعداد المرشحين للتحدث عن أخطائهم صراحة، وهذا يتناقض مع الشفافية والقدرة على مواجهة الأخطاء الضروريتين في الشركات الناشئة. لهذا السبب بدأت أتبع النمط نفسه في المقابلات التي أجريتها مؤخراً مع خريجي الجامعات، إذ أبدأ المقابلة بجملتين: “انسَ ما تعلمته عن مقابلات العمل في مركز التوظيف، أريد إجراء محادثة حقيقية تقدم لي فيها إجابات حقيقية، وأعدك أن أفعل الشيء نفسه”. يستغرق المرشحون بعض الوقت للتأكد مما إذا كنت أحاول خداعهم بطريقة أو بأخرى، وإذا اطمأنوا وأخذوا كلامي على محمل الجد، فسوف يتحسن مستوى المحادثة إلى حد كبير، وبالتالي، سنستمتع في التعارف بطريقة صادقة وحقيقية. أنا لأحاول معرفة إذا كانت مهاراتهم التنظيمية تحتاج إلى تحسين، أو إذا كانوا يواجهون صعوبة في التحدث أمام مجموعات كبيرة أو حتى في قيادة فرق كبيرة، بل أحاول التحقق من امتلاكهم وعياً ذاتياً، ومن قدرتهم على تقييم أدائهم وتحليل نقاط ضعفهم وقوتهم، والأهم من ذلك، التحقق من قدرتهم على قول الحقيقة عندما يكون الاعتراف بالخطأ صعباً أو يمكن أن يسبب عواقب خطيرة.

أما بالنسبة للمرشحين الذين لا يقتنعون بهذا النهج، فإنني أمضي معظم وقت المقابلة في محاولة معرفة أفكارهم الحقيقية التي تختبئ وراء الكثير من الإجابات الجاهزة المبتذلة. وعندما أنهي المقابلة، يبقى لدي بعض الشكوك والتساؤلات حول حقيقة هؤلاء المرشحين، وبالتأكيد لن أتمكن من معرفة الإجابة؛ لأنهم لن يحصلوا على هذه الوظيفة أبداً.