التحول المطلوب في الصحة النفسية على مستوى دول الخليج العربي

6 دقائق
خدمات الصحة النفسية
shutterstock.com/Rawpixel.com
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عام 2021، أسهمتُ في محاولة تقديم حلٍّ لإشكالية لا يستهان بها وإن كانت محلّ إهمال في عالمنا العربي في أغلب الحالات، وهي إتاحة خدمات الصحة النفسية الموثوقة والميسورة التكلفة التي تراعي ثقافة أولئك الذين يحتاجون إليها. ومن واقع هذه التجربة، شاركت في تأسيس تطبيق تهون، وهو منصة صحة نفسية رائدة تقدم محتوى الرعاية بنظام الخدمة الذاتية كما توفر أدواتها باللغة العربية. وبخبرتي المتواضعة حتى الآن في مجال الصحة النفسية، خلصت إلى أن المشكلة لا تكمن في حجم الطلب، كما كنت أتصور في أثناء التجهيز لإطلاق تهون، بل هي مشكلة في العرض.

وبينما كنت أبحث في هذا المجال، انتبهت إلى إحصائية لافتة: هناك نمو في معدل البحث بعبارة “كيف أحسّن صحتي النفسية” باللغة العربية، بلغت نسبته 1,100% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال السنوات الخمس الماضية. وأورد استطلاع رأي الشباب العربي، أن 56% من المشاركين اشتكوا صعوبة تلقي خدمات صحة نفسية ذات جودة عالية.

لا يجد شبابنا غضاضة في اللجوء إلى خدمات رعاية الصحة النفسية، وهم بحاجة إليها، ولا تمييز هنا بين القطاعين الحكومي والخاص في العمل على ضمان تلقّيهم مستوى جيداً من رعاية الصحة النفسية التي يحتاجون إليها، لتحقيق مجتمع أكثر سعادة وصحة، وكذلك لتعزيز أركان مجتمع مزدهر الإنتاجية الاقتصادية.

وبحسب إحصائية لمنظمة الصحة العالمية، يوجد فقط 1.32 طبيب نفسي و2.03 اختصاصي نفسي لكل 100 ألف شخص في المملكة العربية السعودية، مقارنة بالمتوسط الذي تسجله منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والذي يتجاوز 10 أطباء واختصاصيين. يعيق هذا القصور في عدد الأطباء والاختصاصيين النفسيين القدرة على تلبية الطلب المتنامي على توفير العلاج الجيد.

وهو قصور يعانيه العالم أجمع؛ فنجد في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن 60% من الاختصاصيين النفسيين لا يمكنهم قبول مرضى جدد، وأن قوائم الانتظار لدى أكثر من 40% منهم تطول لتتجاوز 10 أشخاص. الاكتئاب سبب رئيس للإعاقة على مستوى العالم، فهو بمثابة جائحة لم تطف على السطح بعد، ويحتاج منا إلى أفكار مبدعة بنّاءة وواعية.

خدمات الصحة النفسية

ينبغي لنا التمهل لتقييم أسباب هذا النمو المطرد في حجم الطلب على خدمات رعاية الصحة النفسية.

  1. هناك زيادة نسبتها 25% في معدل انتشار الأمراض النفسية “المنخفضة المستوى”، ومنها القلق والاكتئاب في عالم ما بعد جائحة كوفيد-19، ولا مؤشرات بعد على تراجع هذا المعدل. وقد كشفت دراسة مُهمة أجريت في السعودية عام 2019 أن نحو 34% من المواطنين يستوفون معايير الإصابة بمرض نفسي ما في مرحلة من مراحل حياتهم.
  2. يسّرت الرعاية الطبية المقدَّمة عن بُعد سبل الرعاية. يبقى العلاج عن بعد أكبر نماذج الرعاية الصحية عن بُعد استخداماً في الولايات المتحدة الأميركية وفي المملكة، وتسهّل تطبيقات مثل لبيه وكيورا الربط بين الأطباء والمرضى في المملكة العربية السعودية.
الشكل 1
  1. زيادة تغطية الشركات للخدمة واستخدام الموظفين لها. استفاد نحو 41 مليون أميركي من خدمات الصحة النفسية التي تُغطيها شركاتهم خلال العام 2020، مقارنة بنحو 35 مليوناً في العام السابق له. وفي المملكة، تدعم المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة الخدمات العلاجية لأفرادها، كما في مجموعة زين وشركة أرامكو. ووفقاً لدراسة نفذتها تهون ونشرتها في يناير/كانون الثاني 2023، فإن 48% من الشركات السعودية تقدم نوعاً من أنواع دعم الصحة النفسية لأفرادها.
  2. يعاني الشباب مستويات أعلى من الاضطراب النفسي، كما أنهم الأكثر تقبّلاً لفكرة طلب الرعاية. تقبّل 49% من الشباب فكرة تلقي دعم الصحة النفسية، بحسب استطلاع رأي الشباب العربي.

يفرض هذا الطلب المتزايد على خدمات الصحة النفسية تحديات تنظيمية ووظيفية لا يستهان بها. ومن أبرز تلك التحديات النقص في عدد أطباء واختصاصيي الصحة النفسية المتمرسين، إذ لا توجد زيادة وافية في عدد المتاح منهم في هذا التخصص. فعلى النقيض من المهن التي تتطلب قدراً أقل من التعليم والتدريب، مثل سائقي توصيل الطعام ممن يمكن تكييف مهاراتهم بسرعة لتلبية الطلب المتنامي، فإن تدريب الاختصاصيين الجدد في مجال الصحة النفسية والترخيص لهم بمزاولة المهنة أمر يستغرق عدة سنوات. وبالتالي، يُفضي الطلب المتزايد على خدمات رعاية الصحة النفسية بالعديد من الأشخاص إلى حال من اليأس وخيبة الأمل بينما يكابدون للحصول على الرعاية التي يأملونها. وهي الحال التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى لجوء هؤلاء الأشخاص إلى خيارات بديلة أقل موثوقية وجودة ومصداقية.

الشكل 2

كما أن النقص في عدد اختصاصيي الصحة النفسية ذوي المصداقية يؤدي إلى ارتفاع أسعار خدماتهم، وهي ندرة تفتح الباب أمام الأطباء والاختصاصيين المتوافرين ليفرضوا أتعاباً أعلى لقاء تلبيتهم الطلب المتزايد، ما يزيد من تفاقم إشكالية إتاحة الرعاية الميسورة التكلفة في سبيل تلبية الطلب المتزايد. ومن المنطقي هنا أن يواجه من يبحث عن الرعاية عائقاً مالياً، لدرجة أن تستعصي حتى الأسعار المعقولة على الكثيرين. (استناداً إلى بحثنا المكثّف الذي نفذناه داخلياً في تهون، فإن متوسط سعر الجلسة العلاجية في السعودية يتراوح بين 70 و100 دولار).

ومن شأن جَسر هذه الفجوة في خدمات رعاية الصحة النفسية بمنطقة الخليج أن يكفل توليد قيمة اقتصادية تتجاوز 5 مليارات دولار. إذ يمكن توفير 3,500 فرصة عمل جديدة في مجال الطب النفسي، و10,000 فرصة عمل أخرى في المجال العلاجي. وعلى افتراض أن متوسط الراتب السنوي يبلغ 100 ألف دولار لكل طبيب أو اختصاصي، فإن ذلك يساوي ما بين مليار إلى 1.5 مليار دولار من الدخل الإضافي للعاملين في الصحة النفسية وحدهم. وبإدراج ما يقدّر بنحو 4 مليارات دولار في صورة تحسّن الإنتاجية المرتبطة بعلاج اعتلالات الصحة النفسية السائدة في دول الخليج، فهذا يعني تحقيق ما لا يقل عن 5 مليارات دولار إضافية من القيمة الاقتصادية. يساوي هذا الإجمالي الشامل دخل الاختصاصيين الجدد في مجال الصحة النفسية، وكذلك المكاسب التي تعود من زيادة الإنتاجية بعد علاج الأعراض النفسية على نحو سليم.

تقويم العقول: عصر جديد للصحة النفسية في منطقة الخليج والعالم العربي

بوسع التكنولوجيا، عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي وشيوع التكنولوجيا القابلة للارتداء، أن تعزز جودة الرعاية وفعاليتها وكذلك تجارب المرضى إلى حد كبير، وبالتالي تخفيف العبء عن الأطقم الطبية والفِرق الإدارية على حد سواء. وسوف تصبح الأدوات التي تيسّر الرعاية المستمرة ومراقبة المرضى عن بُعد جزءاً لا يتجزأ من تجربة رعاية أي مريض. ويساعد الذكاء الاصطناعي في مهام إدارية مثل سداد التأمين وتدوين الملاحظات وتتبع مستجدات الحالة، وكذلك يساعد في توحيد معايير الإشراف على المتدربين وتعزيز التزام المريض بملاحظة التغيرات السلوكية وتناول الأدوية بانتظام. ومن استخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأولية فرز حالات الصحة النفسية أو حالات النزوع إلى الانتحار وتصنيفها بطرق أكثر إبداعاً ودقة مما هو معمول به حالياً. وقد أصدرت هيئة تقويم التعليم والتدريب، ألف ياء للذكاء، مؤخراً أول مقياس ذكاء طورته بالكامل كفاءات سعودية بالاستعانة بقدرات الذكاء الاصطناعي، بمقدوره التشخيص السريري للاضطرابات النفسية لدى الفرد.

وبوسع الحكومات والجهات التنظيمية زيادة دعمها لبرامج التدريب لصقل مهارات الأطباء الجدد وتنفيذ برامج فرز الحالات النفسية في مؤسسات الرعاية الصحية الأولية والمدارس والجامعات. وبمقدورها كذلك تدريب الممرضات والممرضين وأطباء العموم للتعرف على حالات اعتلال الصحة النفسية في أثناء إجراء فحوصاتهم الروتينية. إن برامج تجهيز أطقم التمريض والموجهين وتأهيلهم وتدريبهم التي تستعين بالأساليب القائمة على الأدلة، ومنها العلاج السلوكي المعرفي، في التعامل مع الحالات المتدنية المخاطر، تمثل وسيلة مُجدية في تخفيف الضغط على أطقم الرعاية السريرية. وفي الولايات المتحدة الأميركية، أُدرج التوجيه والتدريب في مجال الصحة والعافية رسمياً في نظام الرعاية الصحية عام 2017، بعد إجراءات اعتماد رسمية أقرّها المجلس الوطني تسمح للمدربين المعتمدين بتقديم مستوى رعاية أفضل جودة وتسهم في تنظيم الصناعة وفقاً لمعايير جودة أرقى.

سوف يؤدي توسيع نطاق الإطار التنظيمي ليشمل العلاجات الرقمية (DTX) (التدخلات العلاجية القائمة على الأدلة والتي تقودها البرمجيات لمنع الاضطرابات النفسية أو التعامل معها أو علاجها) إلى تعزيز تجربة المريض وزيادة معدل نجاح بعض العلاجات السلوكية.

كما لا يخلو القطاع الخاص من فرص سانحة وواعدة؛ يمكن أن يوفر كل من التوسع في نطاق توفير الرعاية، واعتماد علاجات جديدة قائمة على الأدلة مثل التحفيز المغناطيسي التجاوزي (TMS) والعلاج بالكيتامين، بالإضافة إلى الاستثمار في برامج إعادة التأهيل وإعادة الدمج، أرباحاً مالية علاوة على ما تحققه كل هذه الإجراءات من أثر إيجابي بحت في رفاه المجتمع.

أملي قائم في عالم عربي يتمتع مواطنوه بكامل الصحة والسعادة. الصحة النفسية ركيزة تستدعي منا كل عناية واهتمام، والمجتمع القويم هو مجتمع يعمل فيه الأصحاء على رعاية من هم أشد ضعفاً واحتياجاً وإقالتهم من عثراتهم، والاهتمام بعلاج حالات الاعتلال النفسي مهمة تتضاعف صعوبتها لأن ذلك الاعتلال هو إعاقة خفية عن العيان. وإني على يقين من نجاحنا في بلوغ أهدافنا في هذا الصدد. وثمة تدخلات ميسورة ولا تتطلب سوى بعض التمويل وتُحدث أثراً إيجابياً في حياة الملايين، منها تمكين برامج قائمة بالفعل، مثل المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية الذي كان له أثر كبير في حياة المواطنين والمقيمين في المملكة. وفي أبوظبي، اشترطت الجهات الحكومية على جميع الاختصاصيين في الرعاية الصحية إجراء فحص الصحة النفسية ضمن الفحوصات الروتينية، وهي خطوات رشيدة على الدرب السليم. وفي الولايات المتحدة، نفّذت شركة التأمين أتنا إنشورانس (Aetna Insurance) برنامجاً مماثلاً أسهم في تراجع حالات الانتحار بين البالغين بنسبة 34% سنوياً. وفي إطار جهود القطاع الخاص، فسحت الشركات الناشئة مثل تهون وتطبيقات الخدمات العلاجية عن بُعد المجال لمجتمعاتنا كي تسهم في إتاحة الأدوات والخدمات لأولئك الذين يعانون مشاكل متنوعة في صحتهم النفسية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .