ملخص: يتعرض ما يصل إلى 80% من الأشخاص للإصابة بمرض عقلي قابل للتشخيص على مدار حياتهم، سواء أدركوا ذلك أم لا. وتظهر الأعراض ذاتها على كل العاملين من مختلف المستويات، سواء كانوا من أصحاب المناصب التنفيذية العليا أو موظفين عاديين، لكن ما يقرب من 60% من الموظفين لم يتحدثوا على الإطلاق إلى أي شخص في العمل عن ظروف الصحة العقلية الخاصة بهم. وعلى الرغم من أن المدراء ومرؤوسيهم المباشرين وزملاءهم باتوا أكثر انفتاحاً على إظهار جوانب ضعفهم البشري أكثر من أي وقت مضى بسبب التحديات المجتمعية المشتركة واختلاط الشأن الشخصي بالشأن المهني خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، فإن آثار وصمة العار لا تزال تلاحق الكثيرين منّا. وتقدّم مؤلفة المقالة 4 استراتيجيات للكشف عن التحديات المرتبطة بصحتك العقلية في العمل.
حينما أفصحتُ عن إصابتي باضطراب القلق المعمّم في العمل، كان الأوان قد فات. فقد تحول إلى اكتئاب خانق، حتى إنه لم يعد بإمكاني كتابة رسالة بسيطة بالبريد الإلكتروني، فضلاً عن أداء المهمات الدقيقة التي تم تعييني من أجلها. وبات من الواضح أن مستوى أدائي المعروف بتميزه قد تدهور بشكل ملحوظ، ما أجبرني على الإفصاح عن هذه المعلومة بعصبية لأضطر في النهاية إلى طلب إجازة مفتوحة.
وقد تبيّن لي لاحقاً أنني لو اتخذت إجراءً بسيطاً في وقت مبكر، لربما استطعت منع كل ذلك، ما كان سيوفّر عليّ اضطراباً شخصياً شديد الفظاعة ويوفّر على مؤسستي عبء عمل إضافي كانت في غنى عنه.
وما لم أكن أعرفه حتى ذلك الحين هو أن ما يصل إلى 80% من الأشخاص يتعرضون للإصابة بمرض عقلي قابل للتشخيص على مدار حياتهم، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. وتظهر الأعراض ذاتها على كل العاملين من مختلف المستويات، سواءً كانوا من أصحاب المناصب التنفيذية العليا أو عمالاً عاديين، لكن ما يقرب من 60% من الموظفين لم يتحدثوا على الإطلاق إلى أي شخص في العمل عن ظروف صحتهم العقلية. ويتمتع الكثير من أصحاب الأداء المتميز، بمن فيهم أمثالي من المنجزين القلقين، بنقاط قوة نتيجة تعرضهم لهذه التحديات. وهكذا لم أكن وحدي كما كنت أعتقد.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الصحة العقلية أشبه بمجال طيف ترددي نتحرك فيه جميعاً ذهاباً وإياباً، تماماً مثل الصحة البدنية. إذ يتأرجح معظمنا بين التوتر والاحتراق الوظيفي والحالات المَرَضية القابلة للتشخيص، مثل الاكتئاب أو القلق، ويتوقف هذا كله على ما يحدث في حياتنا. وعلى الرغم من صعوبة إفصاح المرء عن إصابته بمرض نفسي، كالاضطراب ثنائي القطب، بخلاف سهولة حديثه عن الاحتراق الوظيفي، فيجب أن تتاح الفرصة أمام كل شخص للفضفضة عما يشعر به عند مستوى معين.
وقد أثبتت الأيام صحة هذا المبدأ خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية حينما عصفت بنا ضغوط الجائحة وتعرضنا لصدمات عرقية وغيرها من الكوارث. وكان المدراء ومرؤوسوهم المباشرون وزملاؤهم أكثر انفتاحاً على إظهار جوانب ضعفهم البشري وأكثر حرصاً على الصدق أكثر من أي وقت مضى بسبب التحديات المجتمعية المشتركة واختلاط الشأن الشخصي بالشأن المهني نتيجة تطبيق أسلوب العمل عن بُعد. كما استفدنا أيضاً من شجاعة سيمون بايلز ونعومي أوساكا والأمير هاري وميجان ماركل. إذ لم يقرر أيٌ منهم الإعلان عن التحديات التي تواجه صحته العقلية على رؤوس الأشهاد فحسب، بل اتخذ كلٌ منهم أيضاً قرارات صعبة تضع رفاهه على رأس الأولويات.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال آثار وصمة العار تلاحق الكثيرين منّا. وقد هيأت لي وصمة العار التي شعرت بها أنني إنسانة ضعيفة ويجب أن أخجل من قلقي واكتئابي. كما هيأت لي وصمة العار الاجتماعية أن المجتمع سيسيء الظن بي وأنني إذا بُحتُ بحقيقة صحتي العقلية، فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث تداعيات تؤثر سلباً في مسيرتي المهنية. ومع ذلك، فمنذ أن كشفت للكثيرين عن حالتي في السنوات الأخيرة، لم يحدث أي من هذه الأشياء. ألهمتني تجربتي تلك تأسيس منظمة "مايند شير بارتنرز" (Mind Share Partners) غير الربحية، وهي منظمة تركز على تغيير ثقافة الصحة العقلية في مكان العمل. وإليك ما نوصي به إذا كنت تفكر في الكشف عن مشكلة تتعلق بالصحة العقلية في العمل.
التفهم: التأمل الذاتي
حاول أولاً أن تعرف ما الذي تعانيه وأثره على أدائك في العمل وعلى سلوكك، وغيرهما من العوامل ذات الصلة. إلى متى يستمر هذا الأثر؟ هل يأتي في صورة نوبة قصيرة لا تلبث أن تختفي خلال بضعة أيام، أو يأتيك في صورة تحدٍّ يستمر لمدة أطول ولكن على فترات متقطعة، أو أنه حالة مزمنة؟ وفكر في أسباب ظهور الأعراض النفسية عليك إذا لم تكن آثارها ظاهرة عليك دوماً؟ هل يرتبط ظهور هذه الأعراض بعملك نفسه، أو أنه يرتبط بشيء يخص حياتك الشخصية، أو بتعرضك لضغوط كبيرة؟
وبقليل من التأمل الذاتي، اتضحت لي العوامل المسببة لحالتي. فقد بدأت مزاولة مهمات منصبي الجديد بصحبة فريق غير مكتمل لشهور عدة. وعجزت لأول مرة في حياتي عن تنفيذ كل المهمات المطلوبة مني. والأدهى من ذلك أنني أهملت علاج حالة القلق التي تصيبني من حين لآخر، ولم أستطع مراجعة طبيبتي المعالِجة بانتظام بسبب طول المشوار. وكان يُفترَض بي أن أراجعها بصورة مكثفة في ظل هذه الظروف. وبعد أن كنت معروفة بأدائي المتميز وقدرتي على بث روح السعادة بين زملائي، تراجع مستوى أدائي بحدة، وصرتُ حادة الطبع. وهكذا بقليل من المجهود اتضحت الصورة أمامي تماماً. لكن ربما كانت هناك حالات أكثر تعقيداً يمكن علاجها بالنقاش مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو باستشارة طبيب متخصص.
اتخاذ القرار: معرفة السياق والموارد المتاحة
تمنيت لو أنني اتخذت قراراً بمشاركة الآخرين معاناتي بالقدر الكافي حتى أتلقى المساعدة فور شعوري بالتعب، أو لو أن مؤسستي كانت تشجع المرونة بحيث لا أحتاج إلى هذه المساعدة. لم أكن أحتاج من مسؤولي الشركة إلا بعض الوقت لمعاودة طبيبتي المعالِجة خلال ساعات العمل، وهو ما كان يتعذّر عليّ بسبب طول المشوار. إذ كان هذا يعني حضوري إلى مقر العمل متأخرة مرة واحدة في الأسبوع أو العمل من المنزل يوم الاثنين، ولم يكن الخيار الثاني متاحاً للموظفين إلا بعد مرور 6 أشهر على عملهم في المؤسسة. إلا أنني لم أسعَ للحصول على هذه المساعدة البسيطة لأنني كنت أخشى أن تلتصق بي وصمة عار وبسبب خوفي غير المبرر من أن أنزل من نظر مديري. وإنني لأتساءل أحياناً ما الذي كان سيحدث لو أنني بررت حاجتي إلى مغادرة مقر العمل بضرورة الحصول على علاج لمرض جسماني، كأخذ حقنة مضادة للحساسية مرة في الأسبوع.
لم تكن الصحة العقلية في مكان العمل تلقى الاهتمام المناسب في ذلك الحين. ولم يكن هناك مَنْ يتحدث عن هذه المسألة علناً أو يتلقى تدريبات حول كيفية التعامل معها في العمل. أما الآن، فستجد في الغالب مؤشرات على ما إذا كانت الصحة العقلية تلقى الدعم المناسب في شركتك أو من جانب فريق الموارد البشرية أو المدير.
فحاول أولاً أن تتعرّف على ثقافة شركتك في هذا الصدد. هل يتحدث قادتها عن الصحة العقلية؟ وهل تقدم شركتك تدريبات الصحة العقلية في مكان العمل؟ وهل هناك "مجموعة موارد موظفين" متاحة للتعامل مع المسائل الماسة بالصحة العقلية؟
ثم حاول أن تعرف ما إذا كان مديرك من نوعية الشخصيات الآمنة والداعمة التي يمكن أن تفاتحها في موضوع كهذا. هل سبق له أن تحدث عن صحته العقلية أو أفصح عن أي تحديات شخصية أخرى؟ فهذا المستوى من المصداقية جدير ببناء الثقة المتبادلة، وقد يكون معبراً عن شخصيته أصدق تعبير. وحاول أن تعرف ما إذا كان مديرك يمثّل نموذجاً يُحتذَى به في سلوكات الصحة النفسية، كالمواظبة على ممارسة التمارين الرياضية والحصول على قسط كافٍ من النوم وأخذ العطلات. فهذا يساعدك على تحديد الأشخاص الذين يمكنك الحديث معهم ومقدار ما يجب الكشف عنه.
ثم احرص على التعرف على سبل الوقاية من الإصابة بأمراض الصحة العقلية والمزايا التي يحق لك الحصول عليها قانونياً كموظف. إذ تنص قوانين العمل في الولايات المتحدة، مثلاً، على إلزام الشركات التي يعمل فيها 15 موظفاً أو أكثر بتوفير ظروف العمل الملائمة. وتختلف الموارد ودرجات الحماية القانونية من منطقة لأخرى، لذا يُنصَح بمراجعة القوانين المحلية إن أمكن. وبهذه الطريقة، يمكنك الدفاع عن نفسك إذا أخل مديرك أو مسؤولو قسم الموارد البشرية في شركتك بأيٍّ من هذه القوانين.
وأخيراً: حاول أن تعرف الموارد أو سبل الدعم المتاحة التي يمكنك الاستفادة منها، سواء كان ذلك من خلال إتاحة الوصول إلى الأماكن المخصصة لرعاية الصحة العقلية أو توفير المساعدات الرسمية أو غيرها من الإجراءات البسيطة. مَن "المسؤول" عن هذه الموارد؟ قد تكون تابعة لقسم الموارد البشرية أو مديرك أو غيره. واعرف أهدافك من وراء الإفصاح عن طبيعة حالتك.
الاستعداد: اعرف مدى شعورك بالارتياح
إلى أي مدى تشعر بالارتياح تجاه الإفصاح عن حالتك؟ إلى أي مدى يجب أن تفصح عن طبيعة حالتك من أجل تحقيق أهدافك؟ إذا كنت ترتبط بعلاقة وثيقة مع مديرك، فيمكنك أن تطلعه على كافة تفاصيل حالتك وتاريخك المرضي، وإلا فلتكتف بالقليل من التفاصيل، كأن تقول شيئاً على غرار: "لقد عانيت بعض الصعوبات بسبب الجائحة، فهل يمكن أن آخذ إجازة من العمل يوميّ الاثنين والثلاثاء؟".
وبوصفي موظفة جديدة لا تزال تحاول إثبات نفسها وتخشى التعرض لعواقب قد تسيء لمسيرتي المهنية، فلم أرد الإفصاح عن أي معلومات تمس تشخيص حالتي بالقلق من البداية. وعلى الرغم من ذلك، فلو أنني أفصحت عن القليل من المعلومات في هذا الشأن، لاستطعت على الأرجح تحقيق هدفي المتمثل في المرونة في تحديد مواعيد العمل بحيث أستطيع معاودة طبيبتي المعالِجة.
وإذا لم تكن ترتاح إلى مفاتحة مديرك في هذا الموضوع، فقد يكون من الأفضل أن تتحدث عنه مع مسؤولي قسم الموارد البشرية أو مدير آخر بشركتك. فمن المهم أن تشعر بالأمان النفسي مع الشخص الذي تقرر مفاتحته في هذا الموضوع. ولاحظ أن مديرك المباشر عادةً ما يكون مطالباً بإطلاع قسم الموارد البشرية على المعلومات الصحية للموظف التي تؤثر في العمل، ليس على سبيل اتخاذ إجراءات عقابية، بل لضمان الاتساق بين المدراء وإتاحة الفرصة أمام هذا الموظف للحصول على الموارد اللازمة.
فحاول أن تعرف المزيد من التفاصيل عن الموارد أو الحلول المتاحة للمرونة في تحديد مواعيد العمل التي ترى أنها ستكون مناسبة لك ولظروفك. ويُستحسن أن تحدد كل الجوانب والحلول الممكنة قبل مفاتحة المسؤولين في الموضوع، بدايةً من المواعيد الروتينية لتلقي العلاج، مروراً بالفحوصات المتكررة، وصولاً إلى "الساعات غير المسموح فيها بتلقي أي اتصالات" أو المواعيد المخصصة للتركيز على العمل فقط.
وإذا كنت مثلي، فيجدر بك أن تلجأ إلى مصدر آمن لطلب المشورة. فبما أنني كنت أصارع نوبات القلق والاكتئاب فعلياً حينما قررت الإفصاح عن ظروفي، فلم أكن في حالة تسمح لي بحل المشكلة أو اتخاذ القرار المناسب. لذا أخذت رأي زوجي ووالديّ واستشرت طبيبتي المعالِجة ليساعدوني على توليد الأفكار المناسبة. وقد يقرر آخرون اللجوء إلى زميل أو صديق محل ثقة، أو استشارة مجموعة موارد الموظفين المسؤولة عن التنوع العصبي أو العجز طلباً للنصيحة.
الإفصاح: بدء المحادثة
بمجرد أن تقرر الإفصاح عن معاناتك، حدّد الوقت المناسب لمفاتحة أحدهم في هذا الموضوع على انفراد. خصص وقتاً أطول مما تظن أنك ستحتاج إليه بحيث لا تضطر إلى إنهاء المحادثة قبل اكتمالها. وكن واضحاً في تحديد الآثار السلبية لتحديات الصحة العقلية على العمل. وإذا كان السبب مرتبطاً بالعمل، فاحرص على الإشارة إليه أيضاً.
واحرص قدر المستطاع على التوصل لمقترحات تقدمها لمديرك أو لمسؤولي قسم الموارد البشرية حول أنسب الطرق لمساعدتك في هذه المحنة. توصّل لأفكار حول التغييرات أو الموارد التي ترى أنها ستفيدك. وتتنوع هذه الحلول من حالة لأخرى. ومن أمثلتها: "أنا بخير الآن، ولكن سيكون من المفيد أن أعرف الموارد المتاحة إذا احتجت إليها في أي وقت"، و"سيسهم فتح باب النقاش حول أساليب العمل في توضيح الصورة حول معاييرنا وتخفيف حدة التوتر". ولست مطالباً في معظم الأحيان سوى باتخاذ إجراء بسيط كهذا للتعريف بما تحتاج إليه أنت وأعضاء فريقك للارتقاء بمستوى أدائكم في العمل إلى أفضل ما يمكن. ولا تتردد على الإطلاق في طلب مساعدة مديرك ومسؤولي قسم الموارد البشرية في شركتك، فلست مطالباً بتحمل عبء التوصل إلى كل الحلول وحدك.
وحاول أن تبدي تعاطفك مع مديرك أو مسؤولي قسم الموارد البشرية بشركتك، تماماً كما تتمنى أن يتعاطفوا هم معك. ففي حين أنك قد فكرت في كافة التفاصيل الدقيقة لهذا الأمر، فربما كان هذا شيئاً جديداً على مسامعهم. وقد لا تصلهم كل المعلومات بالشكل الصحيح في أثناء المحادثة على الرغم من حسن نواياهم في أغلب الأحيان. فامنحهم الفرصة كاملة واسمح لهم بأخذ ما يكفيهم من الوقت للتفكير في الخطوات التالية بتمعن. واحرص على تحديد وقت للمتابعة.
ففي ظل استعداد الكثيرين منا للعودة إلى مقرات العمل، آمل ألا نعود أيضاً إلى كل أنماط العمل القديمة. وآمل بدلاً من ذلك أن تعمل الشركات والمدراء على تيسير سبل إفصاح الموظفين عن التحديات التي تواجه صحتهم العقلية والإسهام في التوصل إلى حلول تضمن ازدهارهم. كما آمل أن نغتنم هذه الفرصة للاستمرار في إبداء جوانب ضعفنا كبشر ومراعاة المصداقية في العمل، على نحو ما جرى إبان الأحداث الأخيرة. وبدلاً من قول: "أنا بخير"، دعونا نعطِ إجابة كاملة وصادقة لمَنْ يسألنا: "كيف حالك؟". فنحن جميعاً نمر بمتاعب، قد تكون كبيرة أو صغيرة، لكننا نحتاج إلى أن نبلغ بها بعضنا بعضاً.