نظرت إلى ساعتي، كانت تشير إلى 3:20 عصراً. أجريت مكالمة هاتفية استمرت أكثر من ساعة استمعت في معظمها إلى مدير أول في شركة جامبو (Jambo) للتكنولوجيا، يُدعى أحمد، يشكو معظم الوقت من مديره، ماهر. أعرف شركة جامبو جيداً، فقد كان لدي العديد من العلاقات المستمرة معها منذ أن كنت أعمل مع رئيسها التنفيذي، لكن الشركة ليست أحد عملائي حالياً. بعبارة أخرى، لم يكن لدي سبب للاستماع إلى شكاوى موظفيها أو طلب ملاحظاتهم.

يقول أحمد عن ماهر متذمراً: “إنه مشتت جداً؛ يصل في كثير من الأحيان متأخراً إلى الاجتماعات، ويقدم أفكاراً جديدة غالباً ما تشتتنا كلياً عن خطتنا الحالية، ويتجاهل جدول أعمالنا المحدد تماماً. وكان بعد ذلك يتبع أسلوب الإدارة التفصيلية لإدارة عملنا كله، ويعيد توزيعه، ومع ذلك كنا نحمل مسؤولية المهام التي يتجاهلها. وذلك ليس الأسوأ، فهو جاهل تماماً، ولكنه يعتقد أنه قائد رائع. دعني أخبرك بما حدث في اجتماع أمس”.

لم تكن هذه الشكوى الوحيدة التي سمعتها من الموظفين في شركة جامبو؛ أجريت محادثات مع العديد من الموظفين الآخرين وبعضٍ من أعضاء مجلس الإدارة في وقت سابق من ذلك الأسبوع، ولم يشتكوا فقط من ماهر، بل كان بعضهم يشتكي من بعض أيضاً.

تحدثت أيضاً مباشرة مع ماهر الذي كان يعتبر نفسه قائداً قوياً جداً مثلما وصفه أحمد تماماً، وكانت لديه أيضاً مجموعة من الشكاوى حول أحمد وبعض الموظفين الآخرين، كما اشتكى من مجلس الإدارة.

حسبت إجمالي الوقت الذي قضيته ذاك الأسبوع في الاستماع إلى شكاوى موظفي الشركة بعضهم على بعض؛ 3 ساعات و45 دقيقة، هذا الوقت الذي قضوه في الشكوى لي أنا فقط.

للأسف، لم يكن الحال في شركة جامبو نادراً أو استثنائياً. أجرى صديقي، المدرب التنفيذي المشهور، مارشال غولدسميث، مقابلات مع أكثر من 200 من عملائه، والنتائج التي اكتشفها تتوافق مع نتائج الأبحاث السابقة التي اطلع عليها، لكني وجدت صعوبة بادئ الأمر في تصديق أن غالبية الموظفين يقضون 10 ساعات أو أكثر شهرياً في الشكوى إلى الآخرين أو الاستماع إلى شكاوى الآخرين من مدرائهم أو إدارتهم العليا، وفقاً لما قاله صديقي. ما كان مثيراً للدهشة هو أن ثلث الموظفين تقريباً يقضون 20 ساعة أو أكثر شهرياً في ذلك.

وهذا لا يشمل حتى شكواهم بشأن أقرانهم وموظفيهم. من الصعب تصديق ذلك، ولكن إذا انتبهت إلى ما يحدث خلال يومك، فستكتشف أنه دقيق جداً.

تخيل كم ستزيد الإنتاجية عند تقليل الساعات التي نقضيها في الشكوى.

لماذا نشكو من الآخرين؟

لأن الشكوى تمنحنا شعوراً بالرضا ولا تحمل سوى الحد الأدنى من المخاطر وهي سهلة لا تحتاج إلى الكثير من الجهد أو المهارة.

إليك ما يحدث: يزعجنا شخص ما، ونشعر بعدم الرضا عن الطريقة التي يتصرف بها، فيثير فينا مشاعر الغضب أو الإحباط أو الشعور بالتهديد. تتراكم هذه المشاعر مشكّلة طاقة داخل أجسادنا، ما يؤدي فعلياً إلى الشعور بعدم الراحة الجسدية (لذلك نسميها مشاعر، لأننا نشعر بها جسدياً في الواقع).

عندما نشكو من شخص آخر، تتبدد المشاعر غير المريحة لأن الشكوى تحرر الطاقة المكبوتة، لذلك نجد أنفسنا نقول عبارات مثل “أنا أنفّس عن غضبي” أو “أحاول تخفيف إحباطي”. ولكن، كما سنرى لاحقاً، لا يطلق تبديد المشاعر هذا الطاقة فحسب، بل ينقلها أيضاً إلى الآخرين فتزداد حدتها في الواقع بدلاً من أن تنقص.

علاوة على ذلك، عندما نشكو لمَن يشاركوننا وجهة نظرنا، وهذا هو الحال عادة، نلتمس بذلك الشعور بالراحة وروح الصداقة معهم والارتباط بهم ودعمهم لنا وتأكيدهم موقفنا، ما يوازن المشاعر السلبية ببعض المشاعر الإيجابية الجديدة.

تغير الشكوى التوازن بين الطاقتين السلبية والإيجابية، ونتيجة لذلك، نشعر بالتحسن ولو فترة قصيرة جداً على الأقل.

تبدأ المشكلة من هنا، وتتجاوز مشكلة الوقت الذي نضيعه فيها؛ فعلى غرار جميع أنواع الإدمان الأخرى تقريباً، نحن نغذي دورة هدّامة لا نهاية لها أبداً. في الحقيقة، يزول الشعور الجيد الناتج عن تحرير الضغط بسرعة، وكلما اشتكينا أكثر زادت احتمالية تفاقم إحباطنا بمرور الوقت في الواقع.

ولكن لماذا يحدث ذلك؟ لأننا عندما نحرر الطاقة المكبوتة من خلال الشكوى، إنما نحررها بطريقة غير مباشرة، أي لا نشكو مباشرة إلى الشخص الذي سبب لنا الشكوى، بل إلى أصدقائنا وأفراد عائلتنا. بدلاً من الانخراط في محادثات بنّاءة مباشرة لحل المشكلة، نبحث عن مؤيدين لوجهة نظرنا، وبعبارة أخرى، لا نحدد إجراءات يمكن أن تساعدنا، بل نخفف من غضبنا حرفياً فقط.

ما الذي يجعل مثل هذه الشكوى سلوكاً مؤذياً؟

تخلق الشكوى العديد من الآثار الجانبية المختلة (مجدداً، تتجاوز مشكلة الوقت الذي نضيعه فيها)؛ فهي تولد انقساماً داخل الفرق، وتعوق أو تؤخر المشاركة المنتجة وقد تحل محلها، وتعزز مشاعر الاستياء وتزيد حدتها، وتثير غضب الآخرين وتقوّض الثقة، وربما تصوّر المشتكي شخصاً سلبياً. نصبح مصدراً لما نشكو منه ونسرّب التأثير السلبي إلى ثقافة المؤسسة بالتدريج.

والأسوأ هو أن شكوانا تضخّم الإحباط الذي نشكو منه وتزيد حدته وضرره بدلاً من التخلص منه.

تخيّل هذا الموقف: يرفع شخص ما صوته عالياً إلى درجة الصراخ في أثناء الاجتماع، ثم تذهب إلى الاجتماع التالي، حيث لا يتكلم أحد بصوتٍ عالٍ، وتتذمر من الشخص الذي كان يصرخ في الاجتماع السابق. يشعر الآخرون الآن، الذين لم يكونوا في الاجتماع الأول، بتأثير الصراخ وينزعجون منه أيضاً. وبتحفيز من دعمهم، يتحول إطلاق الطاقة السلبية المؤقت والقصير إلى غضب محق، وتزداد حدة غضبك، وينتهي بك الأمر باختبار المشاعر السلبية الأولية نفسها مرة أخرى.

بعبارة أخرى، حين تبدد الطاقة بالشكوى فأنت توسعها في الوقت نفسه؛ فيطول الوقت الذي تقضيه في التفكير في الأمر ساعات، وأحياناً أياماً وأسابيع، وتضاعف عدد الأشخاص الذين يفكرون في الأمر ويتحدثون عنه أيضاً،

في حين أن شكوانا لا تحسّن أي شيء على الإطلاق.

في الواقع، قد تكون هذه هي المشكلة الأكبر: الشكوى هي خطوة عنيفة للتقاعس، أي تصبح بديلاً من الحاجة إلى اتخاذ إجراء. بدلاً من الشكوى، إذا استطعنا أن نشعر بالطاقة دون الحاجة إلى تحريرها على الفور، الأمر الذي يتطلب ما أدعوه الشجاعة العاطفية، فسنتمكن من استخدام تلك الطاقة لشيء منتج أو مفيد. يمكننا توجيهها لهدف إيجابي آخر بدلاً من نقلها إلى الآخرين.

بعبارة أخرى، دع الشعور غير المريح الذي تشعر به، الذي يجعلك ترغب في الشكوى، يلهمك لاتخاذ إجراء مثمر.

ما الخطوة الأفضل عندما نشعر بالرغبة في الشكوى؟

امضِ قدماً واشتكِ، لكن افعل ذلك بطريقة مباشرة ومدروسة وتوجه إلى الشخص الذي تسبب في شكواك.

تحدث إلى الشخص الذي صرخ في الاجتماع، وإذا لم يستمع إليك، فتحدث إلى مديره. إذا لم ترق لك هذه الفكرة، يمكنك عندما يحدث الموقف المزعج أن تقول لذاك الشخص مثلاً “انتظر. فليحترم كل منا الآخر في هذه المحادثة”. إذا فاتتك الفرصة لمخاطبته في تلك اللحظة، فحاول اللقاء به لاحقاً وقل له: “من فضلك، فليحترم كل منا الآخر في محادثاتنا”.

لا شك في أن هذه الشكوى المباشرة تتطلب شجاعة عاطفية، فهي مخيفة ومحفوفة بالمخاطر. ولكن هذا ما يجعل تطوير شجاعتك العاطفية ضرورياً؛ على الرغم من أنك قد تخشى الشكوى المباشرة فمن المرجح أن تكون نتائجها مثمرة جداً، إذ تحمل بطبيعتها إمكانية تغيير السلوك الذي يمثل المشكلة في المقام الأول، وبدلاً من أن تصبح صاحب التأثير السلبي، تصبح قائداً يسهم بفعالية في حل المشكلة.

إذا كنت ترغب في خوض هذا المسار، فعليك أن تجعل رغبتك في الشكوى هي الحافز الذي يدفعك إلى اتخاذ إجراء فوري (أو إذا فاتتك اللحظة المناسبة، فبعدها بوقت قصير):

  1. لاحظ ارتفاع الأدرينالين أو الشعور الصادم الذي تشعر به عند حدوث شيء لا يمكن تصديقه (على سبيل المثال، شخص يصرخ في اجتماع).
  2. خذ نفساً عميقاً وحدد مشاعرك تجاه الموقف حتى لا تتغلب عليك أو تثبطك، واعلم أنه يمكنك الحفاظ على هدوئك حتى في المواقف الصعبة (على سبيل المثال، اختبار المشاعر الصعبة دون إبداء رد فعل فوري).
  3. افهم الجزء المتعلق بما يحدث بالفعل ويستحق الشكوى (على سبيل المثال، ليس من المقبول الصراخ وعدم احترام الآخرين في الاجتماع).
  4. قرر ما يمكنك فعله لوضع حدود، أو اطلب من الشخص المعني تغيير سلوكه أو تحسين الموقف بطريقة ما (على سبيل المثال، قل للشخص الذي يصرخ “فليحترم كل منا الآخر في محادثاتنا رجاءً”).
  5. التزم بفكرتك وتابعها (على سبيل المثال، قل للشخص المعني: “من فضلك فليحترم كل منا الآخر في محادثاتنا”).

لا شك في أن الأمر ليس سهلاً مثل الشكوى، لكنه سيكون بنّاءً وذا قيمة أكبر بكثير.

ولكن قد تجادل الآن بأن السبب الرئيسي لشكواك هو عجزك في هذا الموقف، وربما لا تستطيع أن تطلب من ذاك الشخص أن يكون محترماً لأنه مديرك،

وقد تكون على حق. صحيح أن معظم الناس يشتكون لأنهم يشعرون بالعجز،

ولكن من المهم أن ندرك أيضاً أن معظم الأفراد يتمتعون بسلطة في أي موقف أكثر مما يعتقدون، حتى مع مدرائهم، وربما يستحق الأمر المخاطرة بقول شيء ما. يمكنك أن تقول في مثل هذه الحالة على سبيل المثال “أرى أنك غاضب جداً وذلك يحد من قدرتي على الإسهام. هل يمكننا التخفيف من حدة هذا النقاش؟”.

لا شك في أنها مخاطرة، لأن غضب الشخص المعني قد يزداد أكثر.

أو ربما تكسب احترامه، وقد تغير اتجاه القائد والمؤسسة بأكملها بجملة واحدة تقولها، وتغير مسار ما كان من الممكن أن يصبح شكوى تمتد أسابيع طويلة إلى لحظة مشاركة بنّاءة.

رأيت في عدة مناسبات شخصاً يحظى باحترام جميع الحاضرين لأنه كان شجاعاً بما يكفي ليتحدث صراحةً ويعبر عن مشاعره بصدق وتعاطف وبطريقة مدروسة. وفي معظم الأوقات، يشعر الجميع بالدهشة من رد فعل الشخص المسيء الذي يُظهر دائماً انفتاحاً أكبر على التعليقات مما كانوا يعتقدون.

فلتكن الشكوى والشعور الذي يؤدي إليها كما ينبغي لها أن تكون: إشارة تحذيرية إلى وجود مشكلة، ولعلك قادر على معالجتها بالفعل.

هذا ما حدث في شركة جامبو أخيراً، إذ انتقل أحمد من الشكوى إلى اتخاذ إجراء وأخبر ماهراً بتأثير سلوكه صراحة. اتخذ ماهر موقفاً دفاعياً في البداية، ولكن سرعان ما بدأ يطرح الأسئلة وفهم أنه لا يدرك تأثير سلوكه على الفريق.

لن تسير الأمور على هذا النحو دائماً، ولكن قد تُذهل بعدد المرات التي سينجح فيها الأمر.

غُيّرت الأسماء وبعض تفاصيل الأحداث في هذا المقال من أجل الخصوصية.