هل تشعر بالملل في العمل؟ مررنا جميعاً بهذا الشعور. الشعور بالملل هو الرغبة في الانشغال بنشاط يُرضيك، ولكنك لسبب ما لا تستطيع ذلك. والانشغال ليس الحل، لأنك يمكن أن تكون مشغولاً جداً وتشعر بملل شديد في آن واحد.

نتعلم في مرحلة مبكرة من الحياة أن الملل ليس ممتعاً، ومع تقدمنا في العمر قد نبدأ بالنظر إليه على أنه مضيعة للوقت، أو فرصة ضائعة للقيام بشيء أكثر فائدة (أو على الأقل أكثر متعة). في أحسن الأحوال، يُنظر إلى الشعور بالملل على أنه شعور مزعج أو تجربة عصيبة، وفي أسوأ الأحوال على أنه حالة تثير شعوراً عميقاً بخواء المعنى. بالإضافة إلى ذلك، عند الشعور بعدم الراحة الناتج عن الشعور بالملل، عادة ما نشعر أن الوقت يمر ببطء، ما قد يجعل أيام العمل تبدو بلا نهاية.

بالنظر إلى ذلك، ليس من المستغرب أن الملل غالباً ما يثير رغبة شديدة في الهروب من الموقف (أو الوظيفة!) الذي أثار فينا هذا الشعور. في عالم اليوم الفائق الترابط، يمكنك “الهروب” بنقرة واحدة فقط. ففي متناول يدك عالم من البيانات والأخبار العاجلة والبرامج والقصص والرسائل الواردة من الأصدقاء والعائلة والصور المتحركة والصور الفكاهية الساخرة “الميمز” ومقاطع الفيديو التي تساعدك على تجنب الشعور بالملل، على المستوى السطحي على الأقل. ولكن تُظهر البحوث أن استخدام الهواتف الذكية لا يشتت الانتباه فحسب، بل يوفر أيضاً جرعة مسببة للإدمان من الدوبامين، التي تجعل الشعور بالسعادة يحل مؤقتاً محل الشعور بعدم الراحة الناتج عن الملل. ولكن هذا الشعور لا يدوم طويلاً، إذ يؤدي هذا التصفح غير الواعي إلى تراجع في الصحة النفسية وجودة المعيشة عموماً على المدى الطويل.

لذا، في المرة القادمة التي يتسلل إليك فيها هذا الشعور بالملل في العمل، تمهل قبل أن تلتقط هاتفك. إذ يمكن أن يكون للملل فوائد مهمة، وسوف تُحرَم منها إذا لم تنتبه جيداً لما تشعر به ولماذا.

إيجابيات الشعور بالملل في مكان العمل وسلبياته

للملل سمعة سيئة لسبب وجيه. ففي العمل، غالباً ما يُنظر إليه على أنه حالة هدّامة تثير شعوراً بالانزعاج أو حاجة ماسة إلى الانتقال إلى دور جديد أو ربما مجرد رغبة في أن ينتهي يوم العمل. وقد ارتبط الشعور بالملل في العمل باتخاذ قرارات محفوفة بالمخاطر وارتكاب أخطاء مكلفة وحوادث ناجمة عن عدم الانتباه أو عدم التركيز، فضلاً عن الشعور بالتعب الذي يمكن أن يولّده الملل. يمكن أن يحفز الملل أيضاً أنواعاً أخرى من السلوكيات المثيرة للمشكلات، مثل “التسكع الإلكتروني” (أي تصفح الإنترنت غير المرتبط بالعمل) والاستجابات العاطفية الطفولية. وممارسة الأنشطة الرتيبة لفترات طويلة يمكن أن تسبب الهلوسة. بالإضافة إلى ذلك، عندما يتعلق الأمر بالرفاهة، أظهرت إحدى الدراسات الحديثة وجود صلة بين الشعور بالملل في العمل والإصابة بالاحتراق الوظيفي، فضلاً عن انخفاض الرضا الوظيفي وزيادة الرغبة في الاستقالة.

على الجانب الآخر، أظهرت بحوث حديثة أن للملل “جوانب إيجابية”، إذا تعاملنا معه بطريقة بنّاءة. يمكن أن تكون لحظات الملل بمثابة استراحة قصيرة لعقلك وجسمك في عالم يسوده التشتيت والإرهاق والتحفيز المفرط. إذ يمكن أن يخلق الشعور بالملل مساحة لأحلام اليقظة التي يمكن أن تولّد الإبداع والأفكار الجديدة والابتكار. ويمكن أن يدفعك الشعور بالملل لفترات طويلة إلى التفكير وسؤال نفسك “هل أنا على المسار الصحيح؟ هل أفعل الصواب؟”.

الاستفادة من الشعور بالملل

لا ندعو إلى البحث عن الوظائف التي ستشعر فيها بالملل لفترات طويلة من اليوم. ومع ذلك، فإن التحسن في العمل مع الشعور بالملل، وتسخيره، يمكن أن يساعدك على الاستفادة من جوانبه الإيجابية. إليك كيفية فِعل ذلك:

1. لاحِظ

عندما تشعر بهذا الانزعاج الناجم عن الشعور بالملل، تجنب التصرف بناءً عليه على الفور. فحقيقة أنك لاحظت أنك تشعر بالملل تعني أنك تمكنت (لفترة وجيزة) من مقاومة الرغبة في الانخراط الفوري في تصفح الإنترنت دون وعي. وتمنحك ملاحظة الملل وتسميته من أجل توجيهه عمداً فرصة لتنمية قدرتك على التحمل واستغلاله في تحقيق أهداف إيجابية. الأهم من ذلك هو ألا تتخذ قرارات سريعة (مثل ترك وظيفتك) عند مرورك بنوبة ملل للهروب من شعورك بالانزعاج.

2. افهم

الشعور بالملل ليس متماثلاً في جميع الحالات؛ فقد أظهرت البحوث أن “الأنواع” المختلفة من الملل تظهر بطريقة مختلفة في الجسم والعقل، ما يفضي إلى سلوكيات مختلفة. يمكن أن يساعدك فهم أنواع الملل التي تشعر بها مبكراً على وضع خطة للتعامل معه، أو منعه من التفاقم أو التشويش على عملية صنع قراراتك.

اسأل نفسك عما يخبرك به الملل؛ هل يمكن أن تكون ببساطة بحاجة إلى استراحة قصيرة للغاية لأنك عملت لفترة طويلة للغاية دون توقف وتشعر بالإرهاق؟ أو ربما أصبحت مهماتك رتيبة وتفتقر إلى الحافز والطاقة.

فكّر فيما يُشعرك بالملل على وجه التحديد: هل هو دورك أم محتوى العمل أم شكله أم آفاقك المستقبلية في وظيفتك؟ هل يمكنك تمييز نمط في مهماتك التقليدية يحفز هذا الشعور غير المريح لديك؟ فهذا التمييز يمكن أن يكون فرصة للنظر في أهدافك وقيمك وتحديد إذا ما كنت تشعر أنك تمضي قدماً أم أنك “عالق”. فيما يلي 5 أنواع من الملل تستند إلى البحوث تساعدك على تحديد نوع الملل الذي تشعر به:

ملل اللامبالاة. هذا هو أحد أكثر أنواع الملل إيجابية. يمكن أن يبدو مثل الشعور بالاسترخاء أو بالتعب “المبهج” ويعكس حالة من اللامبالاة العامة تجاه العالم الخارجي (والانسحاب منه). يمكن أن يساعد هذا النوع من الملل على الراحة والتعافي، خاصة خلال الأيام المزدحمة.

ملل عدم التكيف. هذا النوع مزعج قليلاً، وهو أحد الأنواع الأكثر شيوعاً. وتشعر به عندما لا تكون منخرطاً بالكامل في مهمة أو نشاط، ويتحول تركيزك إلى شيء آخر. يمكن أن يظهر على شكل أفكار شاردة أو عدم معرفة ما يجب فعله لتغيير حالتك، مع رغبة في الخروج منها بطريقة أو بأخرى.

الملل المؤدي إلى البحث عن بدائل. يأتي هذا النوع في شكل تململ وبحث جاد عن تصرفات بديلة وملهيات للتخفيف من حدة التجربة السلبية (على سبيل المثال، من خلال الأنشطة الأخرى، والأنشطة الترفيهية، والاهتمامات، والهوايات). على الرغم من أن هذا النوع من الملل مزعج، فإنه يزيد النشاط ويحفز على السعي إلى إجراء تغيير، وغالباً ما يكون له نتائج إيجابية، مثل الإبداع والابتكار والنمو الشخصي.

الملل المؤدي إلى اتخاذ رد فعل. يظهر هذا النوع في المواقف التي يُطلب فيها من الشخص أداء مهمة متكررة أو مملة (مثل أن تكون عالقاً في اجتماع طويل وغير مجدٍ مع عدم وجود فرصة لمغادرته). هو نوع من الملل متعلق بالعمل ومزعج للغاية، ويسبب التململ والإحباط اللذين قد يعبر الشخص عنهما بطريقة غاضبة أو عدوانية إزاء الأشخاص أو التجربة المملة. الأشخاص الذين يعانون هذا النوع من الملل قد يتخيلون باستمرار الخيارات الأخرى ويتلهفون لإجراء تغيير أو الهروب بسرعة.

الملل الناتج عن غياب الحماس. يمكن أن يرتبط هذا النوع بالشعور بعدم الاهتمام وانعدام الحافز والانفصال العاطفي تجاه الأنشطة أو الأحداث التي عادة ما كان يجدها الشخص محفِّزة أو ممتعة. ولا يصاحبه بالضرورة شعور بالإحباط أو التململ بل شعور بالانفصال واللامبالاة. وهو يمكن أن يحدث نتيجة الإجهاد المزمن أو الاكتئاب أو مشكلات أخرى تتعلق بالصحة النفسية، ويمكن أن يؤدي إلى الشعور باليأس والعجز. قد يشعر الأشخاص الذين يعانون هذا النوع من الملل أنهم يعيشون حياتهم دون أي شعور حقيقي بالغاية أو المتعة.

3. حدد ما يجب فعله

بناءً على نوع الملل وما يخبرك به عن نفسك أو حالتك، حدد ما يجب فعله حياله. ربما يسمح لك الملل بالاسترخاء والراحة بعد فترة من العمل المكثف، أو ربما يُظهر لك شيئاً بشأن دورك نفسه.

تنطوي جميع الأدوار على مهمات مملة أو محبِطة، وأحياناً يجب إنجاز هذه المهمات للوصول إلى “المهمات الممتعة”. إذا وجدت أنك تشعر بالملل باستمرار، فحاول تسخير الملل للتحفيز على إجراء تغيير، ربما من خلال إعادة تصور وظيفتك لإبراز الأجزاء التي تستمتع بها حقاً. يمكن أن يشمل ذلك إجراء تغييرات على نوع مهماتك أو مدى تنوعها أو مستوى تعقيدها أو أهميتها. يمكنك تجنب الشعور بالملل من خلال البحث عن أفكار جديدة في العمل وتصورها ودعمها، ما يمكن أن يعزز أيضاً قدراتك وإمكاناتك القيادية. ويمكن أن يؤدي الحنين إلى الماضي إلى مقاومة الشعور بخواء المعنى الذي قد ينتابك عندما تشعر بالملل.

4. احرص على تنمية الشعور الواعي بالملل

يمكن أن تكون لحظات الملل فرصاً لمساعدتك على الراحة من عالم سريع الوتيرة وفائق الترابط، وأن تتيح لك الفرصة للتركيز على اللحظة الحالية. استغل لحظات الملل بدلاً من أن تجعلها تشتت انتباهك بلا طائل، على سبيل المثال، عن طريق ممارسة تمارين التنفس أو نشاط آخر يحفزك، أو ببساطة من خلال السماح لهذا الشعور بالمضي بصورة واعية. نظراً إلى أن الملل يمكن أن يطلق العنان للإبداع، يمكنك حتى تخصيص مساحة له بوصفه وقتاً غير مخطَّط له في روتين عملك، على سبيل المثال قبل أن يُطلب منك الابتكار أو اقتراح أفكار جديدة أو أن تكون في أفضل حالاتك.

يمكن أن يكون الملل شعوراً مزعجاً، ولكنه يمكن أن يكون أيضاً فرصة للتفكير في اهتماماتك وقيمك وأهدافك. من خلال التعرف على نوع الملل الذي تشعر به وتحديد الأسباب الجذرية له، يمكنك اتخاذ خطوات للتغلب عليه وإيجاد طرق جديدة للتفاعل مع العالم من حولك. يمكن أيضاً أن يساعدك العمل في ظل شعورك بالملل على تعزيز قدرتك على الإبداع والتحمل والتكيف مع المواقف الجديدة. لذا، بدلاً من محاولة تجنب الملل أو تجاهله، فكّر في التعامل معه بوصفه أداة ذات قيمة للنمو الشخصي وطريقة لعيش حياة أكثر إرضاءً.