كان أحمد يعمل محامياً في شركة كبيرة، عندما خسر أحد المحاكمات التي استثمرت فيها الشركة كثيراً. ما جعله يعيش أوقاتاً عصيبة، إلا أن استمرار الشركة بعرض الترقية التي كانت قدمتها قبل خسارة المحاكمة جعله أكثر ارتياحاً، لكنه اضطر لرفض العرض لأنه يتطلب منه الانتقال من موقع العمل.
وعلى الرغم من أن أحداً لم يخبر أحمد بأي ملاحظات بشكل مباشر، فإن بضعة تغييرات في الجو العام للمكتب جعلته يشعر أن الناس بدؤوا يعاملونه بطريقة مختلفة عن السابق.
توصل أحمد لهذا الشعور -أنه منبوذ في العمل-، بعد أن علم بإساءة أحد شركائه إليه أمام مجموعة من الناس، بطريقة "عدائية وسلبية جداً". كما أخبرنا أنه "لم تتم دعوتي إلى عدة اجتماعات، وتم إبعادي عن العديد من القرارت المهمة حول أمور المحاماة في الشركة". وبلغت هذه الحالة ذروتها في مناسبة اجتماعية، عندما تلقى جميع المحامين في الشركة دعوات إلى لعبة كرة سلة ما عداه. من هنا، لم يعد لدى أحمد أدنى شك أن كل هذا كان متعمداً، لا سيما أنه واحد من أقوى اللاعبين في فريق كرة السلة.
النبذ الاجتماعي في مكان العمل
أصبحت الآثار السلبية للتنمر والمضايقات في مكان العمل أمراً معروفاً بشكل كبير، إلا أن نوعاً أكثر هدوءاً من التعذيب بات أكثر شيوعاً وهو النبذ. يشير البحث إلى أن 71% من المهنيين يعانون درجة معينة من الاستبعاد أو العزلة الاجتماعية في فترة 6 أشهر (مقارنة مع 49% آخرين يعانون من مضايقات أخرى). كما تشير الدراسة إلى أن تجربة النبذ في مكان العمل يمكن أن تحمل ألماً نفسياً أكبر من معاناة الموظف من سلوكيات عدوانية أكثر وضوحاً.
وفي أثناء تحققنا من أسباب النبذ، توصلّنا إلى عدد من الاستراتيجيات التي يمكنك استعمالها إذا شعرت بالاستبعاد المقصود أو استخدام المعاملة الصامتة معك في بيئة العمل.
بداية، حاول أن تفهم لماذا تحدث عملية النبذ ولما تُعد مؤلمة جداً. إذ يعرّف النبذ بأنه التصرف الذي يستثنيك من جميع الأحداث، كأن يمتنع أحد عن إخبارك بشيء، أو لا يصل إليك، أو لا يدعوك إلى حدث معين. وفي حال كان هذا التصرف نابعاً من شخص واحد أو عدة أشخاص، فإنه قد يتضمن كذلك الاستبعاد من محادثات البريد الإلكتروني، أو من أن تتقدم لاختبارات منصب ما في اللجنة، أو من تقديم المقترحات. كما قد يتم إيقاف المحادثات التي تحاول المشاركة فيها، أو يتم تجاهل طلبك من القهوة من بين طلبات الآخرين، أو لا تتم دعوتك إلى نزهة نهاية الأسبوع مع زملائك.
في الغالب، لا يكون هذا الأمر متعمداً، إذ قد يكون الشخص الممارس لهذه التصرفات ناسياً أو مشتتاً في تلك اللحظة. أما السبب الأكثر عموماً، فهو أن يكون شخصاً عديم الإحساس اجتماعياً. لكن بالنسبة لأولئك الذين يقومون بتلك التصرفات عن قصد- كطريقة غير منطقية لتجنب الخلافات أو لحماية أنفسهم - فهم لا يدركون كم تكون هذه التصرفات مؤلمة؛ حيث تُظهر الدراسة أن أغلب المدراء لا ينظرون إلى النبذ على أنه مؤلم أو غير مقبول اجتماعياً.
إلا أن بحثاً مكثفاً حول النبذ الاجتماعي يؤكد ما يتسبب به النبذ من إيلام للموظف، سواء أكان متعمداً أم غير متعمد، لأن ما يتم إغفاله هو شيء مهم جداً؛ فنحن البشر، لدينا حاجة اجتماعية أساسية وهي "الانتماء"؛ فمن منظور تطوري، نعتمد على انتمائنا إلى مجموعة ما للبقاء على قيد الحياة. ولذلك يشكّل غياب المشاركة الاجتماعية المتوقعة تهديداً لتلك الحاجة الأساسية؛ ويشير إلى أننا عديمو القيمة اجتماعياً وغير مناسبين لذلك المجتمع الذي نعتمد عليه. وأن تكون الطرف المتلقي لعملية النبذ هو أمر مؤلم جداً، وفقاً للبحث.
وما يجعل النبذ الاجتماعي أمراً أكثر إيلاماً عندما يكون غامضاً جداً. بمعنى أنه قد يكون من غير الواضح لك أن شخصاً ما يتعمد أذيتك أم لا، أو أنه يتم استبعادك فعلاً أم أنها مجرد أوهام تدور في رأسك. إن مجرد التفكير الشديد في هذه الأسئلة يسبب الألم. ولأننا أكثر عرضة لتفسير أفعال الاستبعاد البسيطة على أنها ذات معنى، حتى لو لم تكن مصحوبة بنية سيئة، فمن المرجح أن نقتنع أننا مقصودون بشكل متعمد.
يمكن أن يكون للنبذ تأثير قوي جداً على عملك، وذلك لأن معظمنا يستجيب إلى هذا النوع من التعاملات بالانسحاب النفسي. (حتى في تلك الحالات التي يعمل فيها الأشخاص المنبوذون على أن يتم إعادة إدراجهم تحت مظلة الاهتمام، فهم يصبحون أكثر تركيزاً على تجنب النبذ من أداء مهامهم اليومية). في مكان العمل، قد يعني هذا تضاؤل الحافز والالتزام تجاه المهمة أو الفريق أو الشركة. وقد يؤدي هذا أيضاً إلى ترك الموظف للشركة واستبداله بآخر؛ حيث تُظهر دراسة أن معدلات ترك الموظفين لعملهم واستبدالهم بآخرين ترتفع عند تعرضهم لسلسلة من التصرفات التي تشير إلى أنهم منبوذون لنحو ثلاثة أعوام. كما أن استبعادك في مكان العمل له تأثير مباشر في قدرتك على التفوق، إذ تصبح أكثر عرضة لفقدان معلومات مهمة أو قد يتم تجاوزك لمشروع مهم يمكن أن تحصل من خلاله على ترقية.
ماذا تفعل مع شعورك أنك منبوذ في العمل؟
الخطوة الأولى هي الإدراك:
تحدى جميع الافتراضات التي تقودك إلى لوم نفسك. وافهم أن مدى تأثرك بتصرفات النبذ هذه يعتمد على كيفية فهمك للوضع وتأثيره عليك. كما أن جزءاً منه يتوقف على اختلاف تجربتك الخاصة عن المعايير الاجتماعية أو عن التصرفات التي تتوقعها في مثل هذه الحالات. على سبيل المثال، إذا لم تتوقع يوماً أن تُدعى إلى اجتماع، فلن تشعر أنه تم استبعادك عمداً إذا ما عقد الاجتماع من دونك. لذلك، فإن فهم المعايير الخاصة بالحالة والنية من وراء التصرف قد يحسّن من فهمك للحدث بحد ذاته.
سل نفسك عن الحالة التي أُقصيت فيها، إذ قد يكون الإقصاء حينها منطقياً، وانظر إلى أولئك الذين استبعدوا أيضاً. فربما لم تتم دعوة أحد مع رئيس القسم سواء أنت أو غيرك، رغبة بالاجتماع بكم جميعاً بشكل منفصل.
من المفيد أيضاً أن تتحدث مع أحد المقربين الذين تثق بهم ويعلمون الحالة والأشخاص الذين تتعامل معهم. قد يكون هناك سياق اجتماعي آخر تحتاج إلى معرفته؛ فمثلاً ربما لم تتم دعوتك إلى اجتماع ما لأنك غير مؤثر فيه، والأمر يعود إليك لفعل ما يجعلك أكثر أهمية وممارسة نفوذك بنشاط أكبر.
الخطوة التالية، هي المقاربة:
انظر فيما إذا كان شخص آخر يتعرض لمثل هذه المواقف (مثلاً هل يميل خالد إلى تجاهل سامي؟) وتحدث إليهما واعرف فيما إذا كانت قصصكما متطابقة. ستشعر بالراحة إذا لم تكن وحدك، وقد تكتشف أن المشكلة تكمن عند خالد نفسه أكثر من أنها تتعلق بك.
عندما تتحدث إلى شخص عما تعانيه، من المهم ألا تفترض أن هذا الشخص سيؤكد ما تقوله له. وذلك لأنه من الصعب ملاحظة النبذ ممن هو خارج الموقف، ومن الطبيعي ألا يلاحظ أي أحد ما يجري معك، حتى وإن كان يحصل فعلاً. وهذا لا يعني أنك تتخيل كل هذا، فإذا كان ما يحدث معك لا يقتصر على موقف معين، فعليك أن تثق بحدسك. وإذا كان الشخص الذي تتحدث معه لا يرى حقيقة ما يحدث، فاطلب منه أن يتخيل معك أن هذا يحدث فعلاً. وإذا تخيل الأمر، فما الذي قد يكون السبب وراء ما يحدث؟ وما الذي يمكنك فعله تجاه ما يحدث؟ قد تحصل على نصائح ودعم جيدين حتى ولو كان الشخص لا يدعم وجهة نظرك.
وهناك طرق أخرى تتعلق بالتصرفات التي يمكنها أن تغيّر تجربتك أو الوضع نفسه أكثر من كونها تتعلق بالتفكير العقلي.
أحاول الحصول على دعم اجتماعي
بالإضافة إلى محادثاتك مع زملائك لمحاولة اكتشاف ما يجري، حاول إيجاد أشخاص يقدرون مساهماتك في الفريق- أو يقدرونك اجتماعياً- واقض معهم مزيداً من الوقت. قد يبدو هذا عديم الجدوى ولكن مثل هذه التفاعلات الاجتماعية الإيجابية تدفع باتجاه معالجة مشكلة تقليل القيمة الذاتية. وبالإضافة إلى أن تواصلك مع أشخاص آخرين يمكن أن يمنحك الثقة التي تحتاجها لتتعامل وجهاً لوجه في علاقات أكثر صعوبة.
من الناحية اللوجستية
إذا كان يتم استبعادك من المحادثات والاجتماعات المهمة، فأوجد طرقاً أخرى للمشاركة فيها. كوّن شبكة أوسع من العلاقات في العمل بحيث تتمكن من تجاوز ذلك الشخص الصعب وتحصل على ما تحتاجه بطرق أخرى.
إذا استمر الوضع على حاله
وثّق ما يحدث معك كما قد تفعل مع أي أنماط أخرى للتعدي مثل التنمر أو المضايقات. هذا سيعطيك فرصة أفضل لإحالة القضية للآخرين أو للشخص نفسه. قد يكون من الصعب اختبار المواقف التي تنطوي على النبذ لأن احتمال تقدير الآخرين للشعور السيئ الذي تعيشه أقل من احتمال تقديرهم لشعورك إذا كنت تتعرض لنوع آخر أكثر وضوحاً من سوء المعاملة - قد لا يدرك اختصاصيو الموارد البشرية مدى الألم الذي يسببه النبذ. لذلك يمكن لتوثيق الحالة التي تتعرض لها وتأثيرها في عملك المساعدة في توضيح الأمور.
الخيار الأخير
المواجهة المباشرة للشخص الذي يقصيك. ولكن هذا الخيار له مخاطره لأنه ربما لم يكن هذا الشخص يتقصد فعله معك، وحتى إن كان يقصده فلن يعترف به. افهم الطرق المختلفة للتعامل مع الخلافات بشكل يساعدك على حل المشكلة بدلاً من جعلها أسوأ. بل والأكثر شيوعاً أن المتهمين بممارسة النبذ ينكرونه، سواء لأنهم لا يريدون التعامل مع الأمر أو لأنهم لم يقصدونه فعلاً.
في حالة أحمد، شعر بالثقة نسبياً لأنه علم سبب معاملته بالنبذ- وأنه كان مقصوداً فعلاً. ما زلنا نوصي بأن يناقش الحالة مع أشخاص مقربين يثق بهم في الشركة أو ذوي الخبرة ليعرف إذا مر أحدهم بحالة مشابهة ويتعلم طريقتهم لحلها. ولأن الوضع الذي مر به كان يؤثر في عمله- إذ كان يُستبعد عن اجتماعات وقرارت مهمة وفرص التواصل- نوصي أيضاً أن يوثق أحمد جميع حوادث النبذ التي مرّ بها وكيف أضعفت من تأثيره في العمل. ويمكنه بعد ذلك مواجهة الأمر مع أولئك الذين يستهدفونه وجهاً لوجه، وقد يتضمن ذلك الإدارة أو قسم الموارد البشرية.
في محاولة لرفع الوعي تجاه النبذ في مكان العمل أو النبذ الاجتماعي، لن نحاول أن نفرض على الجميع الحضور في كل مكان أو مناسبة وفي جميع الأوقات. لكن من الأفضل تكوين روابط اجتماعية أقوى مع بعض الأشخاص أكثر من غيرهم. ويمكن أن يتم استبعاد الجميع من رسالة إلكترونية بغير قصد- فهذه مواطن الخلل اليومية العادية. ولكن تتطلب أماكن العمل مستوى معيناً من المهنية والاحترام بين جميع الأعضاء. وإذا كان هناك نمط معين يقصيك من خلاله الأشخاص أنفسهم لأسباب خارج المعايير الاجتماعية لمؤسستك، هنا عليك أن تثق بحدسك وتستخدم أفضل ممارسات حل الخلافات لمعالجة المشكلة بمهنية واحترام متبادلين بعيداً عن شعور أي شخص أنه منبوذ في العمل.