كيف تتعامل الشركات متعددة الجنسيات مع الأوضاع السياسية المختلفة؟

4 دقائق

لقد كان سقوط جدار برلين عام 1989 إيذاناً ببزوغ حقبة جديدة من العولمة. وهو ما ساعد على تنقل الناس ورؤوس الأموال والسلع والمنتجات والأفكار في مختلف أنحاء العالم بحريّة غير مسبوقة منذ أواخر القرن التاسع عشر. واستطاعت البلدان النامية تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة للغاية، حيث تراجعت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع حول العالم من 40% (عام 1980) إلى 10% اليوم. وشهدت  الصين والهند طبقات متوسطة تضم مئات الملايين من الناس.

وقد لعبت الشركات متعددة الجنسيات دوراً محورياً في هذا الصدد، حيث استطاعت تقليص تكاليفها عن طريق نقل أعمالها إلى بلدان تضم عمالة ذات أجور منخفضة، ما ساهم في زيادة الطلب على تلك العمالة ومن ثم ارتفاع مستويات أجورها. وأفضت هذه الخطوة إلى انتشار تقنيات الإنتاج المتقدّمة وتبنّي ممارسات إدارية جديدة في شتّى أنحاء العالم، والتي أسفرت عن تحسّن ملحوظ في عمليات الإنتاج. جدير بالذكر ،أنّ تلك الشركات تمكنت من بيع منتجاتها في بلدان كان مواطنوها حتى فترة ليست ببعيدة لا يحصلون على السلع والخدمات عالية الجودة والقيمة والمتوفرة بطبيعة الحال في أوساط المستهلكين الغربيين.

وبطبيعة الحال، لم يرتكز الأمر على مبدأ العمل الخيري، إذ استفاد مساهمو تلك الشركات استفادة كبرى من الأسواق الكبيرة للمنتجات، وانخفاض تكاليف الإنتاج، والاستخدام المُتعقل والحكيم لمقرّات الفروع الرئيسية بُغية الحد من فواتير الضرائب. وتشير أبحاثنا إلى أنّ القيمة السوقية للشركات متعددة الجنسيات ارتفعت منذ عام 1990 بأكثر من ثلاثة أضعاف عن المعدل المتوسط المُسجل لدى الشركات المدرجة في مختلف أنحاء العالم. إلا أنّ هذا الارتفاع  محاط بالتهديدات، حيث انقلبت موجة التوجهات السياسية على العولمة والتدابير السياسية والاقتصادية التي ساعدت على تعزيزها والترويج لها. على سبيل المثال، تُعزى الأزمة المالية العالمية في عام 2008 إلى انحسار القيود والضوابط التنظيمية وعدم تقييد الممارسات الرأسمالية. ولجأت الحكومات منذ ذلك الحين إلى إنشاء وكالات تنظيمية جديدة، كما عززت صلاحيات الهيئات القائمة بهدف الحد من المخاطر المنظّمة والشاملة وحماية المستهلكين والعمال والبيئة.

في الوقت نفسه، أصبح يُنظر إلى التجارة الدولية والهجرة على أنها تُشكل خطورة على العمال أصحاب المهارات المنخفضة والمتوسطة ضمن الاقتصادات المتقدمة، وهو ما تسبب بانخفاض أجورهم وشكّل تهديداً على وظائفهم وأساليب معيشتهم. وتتمثل الدلائل الأبرز لهذا المزاج السياسي الجديد في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وتصاعد شعبية الأحزاب القومية في أنحاء أوروبا.

ونظراً لانعكاس هذه الحالة المزاجية على السياسة، باتت المزايا الهيكلية لبنية الشركات لمتعددة الجنسيات عُرضة للخطر من قبل خمسة مصادر رئيسية.

الخطر الأول: سياسات الحماية التجارية

فقد أكدت "منظمة التجارة العالمية" على أنّ بلدان مجموعة العشرين قامت بزيادة التدابير الحمائية، وهو ما تمثل في إضافة 1,583 إجراء جديداً منذ عام 2008، ولم يتم حذف إلا 387 إجراء فقط من بين تلك التدابير. ولا يقتصر تأثير الرسوم الجمركية على تقييد وصول الشركات العالمية إلى المستهلكين حول العالم فحسب، بل يشمل ذلك أيضاً ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبالتالي ارتفاع أسعار المكونات والسلع المستوردة.

الخطر الثاني: عودة "السياسة الصناعية"

وهي خطوة دعت إليها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، حيث تستفيد الشركات المحلية من إجراءات تنظيمية مواتية تجعل من الصعب على الشركات العالمية التنافس معها. وعلى الجانب الآخر، تشهد البنوك متعددة الجنسيات تراجعاً ملحوظاً، كما أنّ الشركات الرقمية، مثل "أوبر" و"إير بي إن بي"، تواجه مشاكل تقوّض نماذج أعمالها في العديد من البلدان نتيجة اللوائح والقوانين التنظيمية التي تحمي الموردين المحليين من تأثيرات المنافسة مع تلك الشركات.

الخطر الثالث: زيادة الطلب على إجراءات المساءلة

تتطلع الجهات التنظيمية المحلية التي تسعى إلى تجنب الكوارث البيئية والفضائح المحاسبيّة أو الإضرار بالمستهلك إلى وجود أطراف وجهات تتحمل المسؤولية على أرض الواقع، كما أنّ نماذج التكلفة الضعيفة لن تكون كافية، وبخاصة تلك التي تعتمد على مهام الرقابة المركزية عالمياً (المالية، والامتثال، والقانونية، والمخاطر).

الخطر الرابع: زيادة الطلب على التزام الشركات بمعايير المسؤولية الاجتماعيّة

وهو ما قد يتسبب في خفض إيراداتها، وذلك، من خلال المطالبة بتوفير كثير من المنتجات ميسورة التكلفة. إلى جانب ذلك، ربما يُصاحب ذلك ارتفاع التكاليف نتيجة الدعوات المطالبة بالحصول على أجور عادلة أو منتجات صديقة للبيئة، ناهيك عن زيادة الالتزامات الضريبية من المستوى المنصوص عليه في القانون إلى ما يُعتبر مساهمة عادلة للشركة. وبالفعل، لجأت بعض الشركات متعددة الجنسيات إلى تقديم مساهمات ضريبية بشكل طوعي استجابة لحالة السخط العام.

الخطر الخامس: زيادة فرص فشل الاستثمار بسبب تصاعد وتيرة الأحداث والتطوّرات السياسية غير المتوقعة

ويترتب على هذا الخطر السياسي المتنامي زيادة العقبات أمام الاستثمار، حيث تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في الاتحاد الأوروبي من 6.9% (من الناتج المحلي الإجمالي عام 2007) إلى 3.3% في عام 2015؛ فيما انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة من 2.9% إلى 1.8%.

لا يعني هذا النظام العالمي الجديد نهاية الشركات متعددة الجنسيات. لكن الأمر المؤكد أنّ تلك الشركات ستكون بحاجة ماسة إلى إحداث تغيير ملموس. وهذا التغيير يتطلب اتخاذ الخطوات التكيّفية الرئيسية التي لا بد منها في هذا السياق، إضافة إلى ميزة تنافسية دائمة ستكتسب أهمية أكبر بمرور الوقت.

وتتمثل الخطوة التكيفية الأولى، في التأقلم مع أهداف الشركات والتي تتخطى تحقيق مكاسب قصيرة الأجل للمساهمين، وتستهدف مواكبة المصالح والاهتمامات طويلة الأجل لأصحاب المصلحة كافة. وسوف يتباين ما يقتضيه ذلك عملياً بالنظر إلى طبيعة نوع أعمال أي شركة متعددة الجنسيات. على سبيل المثال، سيتعين على شركات النفط حماية البيئة، وستحتاج البنوك للمساهمة في تعزيز الأمن المالي لعملائها وتحيق الاستقرار لمقومات الاقتصاد الكلي، كما ستسعى علامات الأزياء العالمية لتصبح جهات عمل (أو جهات شراء) جيدة. ولا بد أيضاً من أن تصبح المسؤولية الاجتماعية مترسخة في صلب نماذج الأعمال التجارية بدلاً من أن تكون مجرد ملحق إضافي يرتبط بالشؤون والأعمال الخيريّة.

أما الخطوة الثانية، فتتمثل في الانتقال من النماذج العالمية إلى أساليب قائمة على مزيج من المنهجين المحلي والعالمي. ولن يكون العمل بممارسات الحوكمة المركزية ونماذج الأعمال المكررة مجدياً في العالم الجديد الذي تسوده أفكار القومية الاقتصادية. في السياق ذاته، تحتاج الشركات متعددة الجنسيات إلى التطور من كونها مؤسسات متكاملة عالمياً إلى اتحادات تضمّ شركات فرعية تابعة وشبه مستقلة، وهذا يستدعي منها أن تغدو أقل تعدداً من حيث الجنسيات، وتقلّص التزاماتها الاستراتيجية العميقة تجاه أسواق معينة.

وستقود هذه التغييرات للتخلّي عن بعض مزايا التكاليف التي تتمتع بها تلك الشركات بحكم طبيعتها متعددة الجنسيات، في حين ستتلاشى مزايا أُخرى نتيجة العقبات التجارية. وهنا يأتي دور الميزة الدائمة، حيث ستواصل الشركات متعددة الجنسيات الحصول على ميزة تنافسية من الملكية الفكرية التي تمثل إحدى الأصول العابرة.

يجب أن يكون نموذج الأعمال الذي يتضمن استخدام الملكية الفكرية مصمماً وفقاً للّوائح والضرورات السياسية للبلدان الحاضنة لها. ولكن شريطة تحقق ذلك بسرعة وبتكلفة معقولة (كما الأمر عادة مع الملكية الفكرية الرقمية)، ويُمكن للشركات متعددة الجنسيات استخلاص القيمة المجزية من تطبيق تلك النماذج. ومن ثم يتواصل نجاح الشركات مثل "نتفليكس" و"سكايب" و"زابوس" وما شابهها بالتوازي مع تحول المد ضد العولمة.

في ظل التوافق الاقتصادي الليبرالي خلال الأعوام الثلاثين الماضية، أصبح كبار قادة الشركات المتعددة الجنسيات مهتمون بالمسائل والقضايا التجارية مثل الطلب على السلع الاستهلاكية وكفاءة عمليات الإنتاج وجذب المستثمرين وما إلى ذلك. ولكن عليهم إيلاء مزيد من الاهتمام بالابتكار والسياسة. وإذا ترددوا في القيام بذلك، لا بدّ أن نتذكر جميعاً حكمة السياسي الإغريقي بريكليس: "إن لم تكن مهتماً بالسياسة، فهذا لا يعني أنّ السياسة ستترك وشأنك".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي