نستمع إلى الكثير من "الحقائق" المزعومة طوال الوقت (على سبيل المثال، لدى الأسكيمو 50 كلمة لوصف الثلج، ويستخدم البشر 10% فقط من أدمغتهم)، لكن هل هي صحيحة؟ "الأمر ليس بهذه البساطة"، حسب قول العُلماء.
شهدنا جميعنا أثر تكرار جملة أو فكرة معينة على إضفاء الشرعية عليها- أو ما يسمى بـ "تأثير الحقيقة". يتعزز هذا التأثير عندما يأتي التأكيد في سياق جَدّي، من قبل أشخاص أذكياء، ويتمتعون بالسلطة. ماذا عن هذه الفكرة "الشركات الناشئة تصنع المزيد من الوظائف"، وما هو دور الشركات الناشئة في ذلك؟
دور الشركات الناشئة في صناعة الفرص الوظيفية
مُنذ وصول الرئيس بارك أوباما إلى سدة الحكم، شجّع الشركات الناشئة، وتباعاً لذلك، أطلقت كل من الحكومة الأميركية، ومؤسسة "كوفمان"، وشركاء آخرين، الشراكة الأميركية للشركات الناشئة، ومنذ ذلك الوقت تحولت النظرة إلى الشركات الناشئة على أنها من محفزات النمو الاقتصادي، وأنها تصنع الكثير من الوظائف، لكن هل هذا صحيح؟
إليكم 5 تحديات تواجه هذه النظرة المقبولة، على نطاق واسع، على أنها هي "الحقيقة":
ما المقصود بكلمة "الناشئة"؟ أصبحت كلمة "الناشئة" مصطلحاً "تلفزيونياً" يترافق مع عروض شهيرة مثل "وادي السيليكون" و"شارك تانك" (Shark Tank) و"أبرينتيس" (Apprentice)، التي تناقلت المحطات الإعلامية أخبارها على أنها شركات ناشئة. لكن إذا تقصيت أكثر عن الموضوع، فستجد أن هناك اختلافاً جذرياً بين الناس عند استخدامهم لهذا المفهوم. عرّف الباحثون الشركات الناشئة بأنها تلك المؤسسات المسجلة حديثاً، وتحتوي على موظف واحد على الأقل (مؤسسها في الغالب). يعتبر هذا المفهوم صحيحاً، ولكن عندما يذكر الاقتصاديون "شركة ناشئة" يفكّر معظم الناس بشركات مثل "واتساب" و"سناب شات"، وحسب قول المُستثمر الشهير في وادي السيليكون بول غراهام: "الشركة الناشئة هي تلك المصممة للنمو السريع". يُخالف الآخرون هذا الرأي للقول بأن الشركة الناشئة هي "حالة ذهنية"، أو "شعور" أو "مؤسسة مؤقتة مصممة للبحث عن نموذج أعمال قابل للتوسعة والتكرار". يعد هذا التناقض مشكلة لأي شخص يستخدم المفهوم في سياق السياسات الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: استراتيجيات مقترحة للشركات الناشئة
وهناك تحدٍ آخر، يأتي مما يطلق عليه مفهوم "التحيّز للشركات الناجية": بما أن الكثير من الشركات تخفق في السنوات الأولى من تأسيسها، فإن القليلة منها فقط هي التي تحقق النجاحات وتتجاوز العقبات، وهي بحكم الواقع أكثر صلابة كشركات، مما يؤدي إلى تشويه وجهات نظرنا حول الشركات الناشئة. إذاً، يمكننا القول بأن "الشركات الناشئة تخلق الوظائف" ما دمنا تتجاهل حقيقة أن معظمها لا يفعل ذلك.
لا تتمتع جميع الوظائف بنفس القدر من المساواة، وحسب علمنا، تعتبر الوظائف التي تصنعها الشركات الناشئة - على الأقل تلك التي تصنعها الشركات المُنشأة حديثاً - أقل مساواة، من ناحيتين: الأولى، أنها تدفع أجوراً أقل، حيث تقول دراسة أجريت في المملكة المتحدة أن الشركات الناشئة تحقق، في المتوسط، إيرادات تقدر بـ 180 ألف دولار بعد السنة السادسة من تأسيسها، وهو ما يكفي بالكاد لدفع الرواتب، والثانية، حين وجدت دراسة حديثة أجريت في الدنمارك أن الشركات الناشئة تصنع عدداً من الوظائف، لكن عدداً كبيراً منها وظائف خدمية لا تتطلب مهارة عالية.
رواتب رواد الأعمال
وتذكر بأنه حتى رواد أعمال الشركات الناشئة الناجحة يعملون دون راتب أو برواتب منخفضة لشهور أو سنوات بعد ظهور مؤسساتهم على أنها "شركات ناشئة" في بيانات التعداد. ولنتأمل هذه القصة بسرعة. قبل بضع سنوات، التقيت مع الفائزين في جوائز الشركات الناشئة لدول الشمال الأوروبي. وبعد التهنئة، طرحت عليهم الأسئلة التالية: كم عدد الموظفين الذين يعملون في شركتكم؟ نحن الثلاثة، وقد وظفنا شخصاً رابعاً للتو. هل تمانعون في إخباري إذا ما كنتم أنتم الأربعة تحصلون على رواتب؟ طبعاً، من دون أي رواتب: نعمل بمواردنا الخاصة (أي بالمجان كي نتمكن من تسيير الأمور). هل أنتم الأربعة مسجّلون بصفة موظفين؟ نعم.
إذاً، تحتوي البحوث الاقتصادية حول الشركات الناشئة الكثير من الأخطاء. عند النظر إلى تقرير "المنتدى الاقتصادي العالمي" الأخير، نجد أنه يحدد الدول التي لديها أكثر عدد من رواد أعمال الشركات الناشئة، تأتي أوغندا في المرتبة الأولى، حيث وبشكل مذهل، 28.1% من عدد السكان هم من رواد الأعمال، وتأتي تايلند في المرتبة الثانية، والبرازيل في المرتبة الثالثة، والكاميرون في المرتبة الرابعة.
ضع في اعتبارك أيضاً مؤشر مؤسسة "كوفمان" للشركات الناشئة، الذي يُظهر أعلى ثلاث ولايات في عدد الشركات الناشئة في الولايات المتحدة الأميركية: مونتانا، وايومنغ، وداكوتا الشمالية. علاوة على ذلك، هناك ارتباط بقيمة صفر، بين حجم رأس المال المغامر (أو ما يسمى برأس المال الجريء)، ومقدار نشاط الشركات الناشئة، وله ارتباط سلبي قوي مع وجود المؤسسات المتوسطة الحجم في السوق (10 ملايين إلى 1 مليار دولار)، والتي وفقاً لدراسة حديثة لمؤسسة "دن آند برادستريت"، قد صنعت أكثر من 90% من الوظائف منذ 2008.
اقرأ أيضاً: أسئلة يتعين على كل رائد أعمال الإجابة عنها
في تقرير "المنتدى الاقتصادي العالمي"، يرتبط حجم المشاريع الرائدة في الدولة سلباً مع القدرة التنافسية الوطنية لتلك الدولة، وتفيد دراسة لجامعة "ستانفورد" أن الشركات الناشئة هي من أكبر الشركات التي تسرح الموظفين (job shedders). لمزيد من الخلط في الصورة، يُظهر بحث أجرته "هيئة الأعمال الدنماركية" بأنه من ضمن المستفيدين من برامجها، 72% من الوظائف صنعتها الشركات القائمة، بينما 10% فقط جاءت من قبل الشركات الناشئة، وبالتالي، يُكلف الاستثمار العام في كل وظيفة تنشئها الشركات الناشئة، من خلال برنامج دعم الأعمال، 3 أضعاف ما يُستثمر في الشركات القائمة.
هل حقاً "الشركات الناشئة تصنع الوظائف"؟
الارتباط لا يعني وجود علاقة سببية، وهناك تفكير تقليدي راسخ يقول بأن "الشركات الناشئة تصنع الوظائف" ويقودنا "ربما عن غير قصد" إلى تقديم وصفات سياسية سببية. حتى لو افترضنا، أن معظم الوظائف الجديدة موجودة بالفعل في شركات جديدة، فإنه لا يتبع بالضرورة أن زيادة أعداد الشركات الجديدة يعني زيادة في عدد فرص العمل الجديدة. لنأخذ، على سبيل المثال، نتائج الدراسات التي وجدت بأن المدراء التنفيذيين للشركات هم من الذكور وطوال القامة، سواء في السويد، أو من ضمن قائمة الشركات الأعلى إيرادات "فورتشين 500"، فأن نقول بأننا "نحتاج المزيد من الشركات الناشئة لخلق المزيد من الوظائف" هو مثل القول "بأننا بحاجة إلى المزيد من المدراء التنفيذيين الذكور وطوال القامة، لقائمة الشركات الأعلى إيرادات في الولايات المتحدة فورتشين 500".
هناك أيضاً نوع مختلف من القضايا السببية: جميع المناطق الغنية بالشركات الناشئة الناجحة، كان لديها شركات كبرى داعمة تبث المواهب والعلاقات والمعرفة في نظامها البيئي. فقد كانت شركتا "آي بي إم" و"نوراد" (NORAD) هما الداعمتان لشركة "بولدر" (Boulder)، وكان لدى شركة "هلسنكي" (Helsinki) شركة "نوكيا"، وكان لدى "وادي السيليكون" شركة "فيرتشايلد" (Fairchild)، وكان لشركة "واتيرلوا" "Waterloo" شركة "ريسيرتش إن موشن" (Research in Motion)، وكان لدى شركة "بنغالور" (Bangalore) شركة "آي بي إن"، وكان لدى شركة "بوسطن" شركتي "رايثيون" (Raytheon)، و"مايتر" (MITRE). ولاحقاً، شكّلت كل واحدة من تلك المناطق مركزاً قوياً للشركات الناشئة، ولكن هذه الشركات الناشئة القليلة التي نمت، كانت نتائج قبل أن تكون أسباباً.
إذاً هنالك الكثير من الخلط، علاوة على ذلك، هناك بعض من الدعم التجريبي لفكرة أن "الشركات الناشئة تخلق الوظائف"، والتي جاءت من الأوهام الإحصائية، أو ما يمكن تسميتها بالمصطنعة. لتوضيح ذلك، تصور أن لديك نردين: نرد الشركة الناشئة والتي لديها أرقام من 0 - 5 على كل جانب من جوانبها. ترمي النرد، والرقم الذي يظهر هو عدد الوظائف التي تخلقها هذه الشركة. إذا رميت النرد بضع مئات من المرات، ومن ثم حسبت متوسط عدد الأعمال التي أنشئت، سيكون الرقم إيجابي. إذاً "الشركات الناشئة تخلق وظائف"، لكن إذا كان هناك شركة قائمة ولديها عدد من الموظفين، فإن النرد يحتوي على أعداد سلبية، مثلاً أرقام فردية من 5 إلى -5 (مثال، -5، -3، -1، +1، +2، +3، +5). إذا رميت النرد بضع مئات من المرات، فستحصل على المتوسط صفر. إذاً "الشركات الكبيرة لا تخلق وظائف".
وهكذا تمضي القائمة. المشكلة ليست في البحوث أو الباحثين - فهم ينقلون حقائق تجريبية، ويتعاملون في الغالب مع مجموعة من البيانات المعقدة وغير المكتملة. تقع المشكلة على عاتق ترجمة الأبحاث - دون تفكير أو تمحيص- إلى سياسات وممارسات. ليس هناك شك في أن بعض الشركات الناشئة - وهي نسبة ضئيلة جداً - تخلق بعض الوظائف الجيدة، ولكن ينبغي على قادة الأعمال وصنّاع السياسات في الولايات المتحدة وغيرها النظر إلى دور الشركات الناشئة بدقة وبالمنظور الصحيح، من أجل تعزيز النمو والرخاء الاقتصادي على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: