على الرغم من استثمار بعض الشركات الكبرى في الشركات الناشئة أو استحواذها عليها، فإنّ التوجه المتنامي نحو الابتكار المؤسسي ينطوي على التعاون بين الشركات وخلق شراكة مع الشركات الصغيرة التي تتسم بمعدلات نمو مرتفعة. عندما تدخل شركة كبيرة في شراكة مع شركة ناشئة فإنّ ذلك يحقق من الناحية النظرية النفع للطرفين. تمتلك الشركات الكبرى الموارد والوجود الشرعي الذي تطمح إليه الشركات الناشئة، في حين أن الشركات الناشئة تتمتع بأسلوب الإدارة الرشيق والأفكار الإبداعية المبتكرة التي تحظى بتقدير الشركات الكبرى. بالنسبة لشركات تقنية المعلومات الكبرى، فقد يتمثل الحافز نحو الشراكة جزئياً في استخدام منصاتها التقنية كوحدات بناء؛ أما بالنسبة للشركات الكبرى الأخرى فقد يكون الدافع لذلك هو "المشكلات" الناتجة عن الرقمنة المزعزعة.
بيد أنّ أوجه التفاوت الشاسعة بين المؤسسات تعني أن التعاون بين تلك الشركات المختلفة لا يكون بسيطاً أو دون تعقيدات. فهناك تفاوتات في الحجم والهيكل والسلطات والصلاحيات، وتلك تسبب صعوبة أمام الشركات الناشئة للاتصال بالقسم المناسب أو الأفراد المناسبين في المؤسسات الكبرى. ومن ثم فإنه من الضروري توفير المؤسسات الكبرى للشركات الناشئة واجهات اتصال بينية تتوفر لها مقومات البقاء والاستمرار. لقد اكتشفت في بحثي نهجين لتناول هذا الأمر: وهما نهج المجموعات (Cohorts) ونهج الأقماع (Cohorts & Funnels).
في نهج المجموعات، تشارك مجموعة من الشركات الناشئة في مبادرة برامجية، مثل مبادرة تسريع الأعمال، على مدار فترة زمنية محددة سلفاً، تكون في العادة بضعة أشهر. يعتبر اجتذاب النظراء في الشركات الناشئة وإشراكهم جزءاً أساسياً من هذه العملية. في حين أنّ القدرة على الدخول إلى المجموعة قد ينطوي على توفر قدرة تنافسية تتمتع بها الشركة الناشئة، إلا أن الشركات الناشئة المشاركة تستكمل العملية عادة بمجرد الدخول في المجموعة.
اقرأ أيضاً: كيف تنجو الشركات الناشئة في عصر عمالقة التكنولوجيا؟
للتوضيح، قامت شركة مايكروسوفت بإنشاء مبادرات تسريع للأعمال تزود مجموعات الشركات الناشئة بصلاحيات للوصول لمدة أربعة أشهر إلى بنيتها التحتية التقنية وبنيتها التحتية للأعمال وفرص التدريب على بناء الشبكات، وهو ما تُوج في النهاية بحضور يوم كامل من العروض التقديمية حضره مدراء وشركاء مايكروسوفت، بالإضافة إلى المستثمرين الخارجيين. كما أنّ برنامج المنتح الذي تقدمه شركة باير بعنوان "غرانتس فور آبس" (Bayer’s Grants4Apps) يوفر برنامج تسريع للأعمال مدته 100 يوم للشركات الناشئة في مجال الصحة الرقمية انطلاقاً من مقرها في برلين. ويعتبر برنامج تسريع الأعمال "إنشورتيك أكسيليراتور" (InsurTech Accelerator) الذي تقدمه مجموعة "سويس ري" (Swiss Re)، والذي أطلق لأول مرة في مدينة بنغالور بالهند، مثالاً آخر على مبادرات تسريع الأعمال من خلال نهج المجموعة.
على النقيض من ذلك، ففي نهج القمع، يكون عدد الشركات الناشئة التي تكمل العملية قليلاً للغاية مقارنة بتلك التي تدخل في العملية من الأساس. فكلما تكشفت العملية تُستبعد الشركات الناشئة من السباق، وهي لا تكون في الغالب على معرفة بالشركات الناشئة الأخرى المشاركة في العملية. ينطوي نهج القمع بصفة أساسية على عملية تنافسية مصممة داخله بحيث يتيح مجموعة محدودة من الفرص التعاونية للشركات الناشئة المشاركة. لإعطاء مثال على ذلك، تم إنشاء برنامج "اس أيه بي للتركيز على الشركات الناشئة" (SAP Startup Focus) بهدف العمل مع الشركات الناشئة الواعدة في تطوير تطبيقات جديدة عبر منصة قاعدة بيانات مؤسسة "اس أيه بي" (SAP HANA) والمساعدة في تسريع جذب زبائنها في السوق. تزود آنذاك نسبة تقارب 15% من الشركات الناشئة بالدعم الفني لبناء حلول تركز على المؤسسات، بالإضافة إلى مجموعة فرعية أخرى من الشركات التي نجحت في اعتماد الحلول التي قدمتها ثم تحصل بعدها على دعم الدخول إلى السوق.
اقرأ أيضاً: كيف تجعل خيارات الأسهم في الشركات الناشئة صفقة أفضل للموظفين؟
هناك مثال آخر نسوقه في هذا السياق وهو وحدة الشركات الناشئة في شركة بي إم دبليو (BMW’s Startup Garage) والتي تقدم للشركات الناشئة فرصة العمل معها "كعميل استثماري مغامر (جريء)" في مشروع ابتكاري عقب فرز هذه الشركات الناشئة وتصنيفها حسب الجودة الفنية والملاءمة الاستراتيجية واحتمالية تحولها إلى شركة رائدة في السوق من خلال عملية المراحل والبوابات (Stage-Gate Process). ونسوق مثالاً آخر على منصة تعمل كقُمع وهي منصة يونيليفر فاوندري (Unilever Foundry)، وهي منصة تقدم المشكلات أو التحديات، والتي كثيراُ ما ترتبط بالتسويق الرقمي، وتدعو الشركات الناشئة إلى طرح حلول لها.
دروس مستفادة من التعاون بين الشركات
في حين أنّ مجرد توفر المجموعة أو القمع لا يضمن نجاح الشراكة، إلا أنّ إقامة حلقات تواصل فعالة يعطي الشركات الناشئة الملاذ الأول لها للتغلب على صعوبة إنشاء اتصال في المقام الأول وزيادة احتمالات خلق علاقات ذات مغزى تنشأ من خلال منح كلا الطرفين فهماً مشتركاً لطبيعة التعاون الذي يمكن تحقيقه. إن إقامة حلقات تواصل فعالة من أجل الشراكة مع الشركات الناشئة يدعو إلى بذل جهد حقيقي ومدروس - وليس مجرد التأييد بالكلام دون الفعل - من المؤسسات الكبرى. فيما يلي ثلاثة دروس يتعيّن تعلمها.
ضمان التوافق مع أهداف الشراكة
على الرغم من عدم تفوق أو تميز أي من واجهتي التواصل مع الشركات الناشئة بشكل أساسي، سواء من خلال نهج المجموعة أو نهج القمع، إلا أنهما متميزان من الناحية النوعية، حيث يوفر نهج المجموعات ميزة القدرة، المحتملة، على إفساح المجال أمام الفرص التي لم تحظ باهتمام من خلال العصف الذهني والتجريب. يمكن أن تكون الأقماع فعالة بشكل خاص في تحقيق نتائج ملموسة بناء على "المشكلات" المدروسة نظراً لعملية تصفية الشركات الناشئة التي تمارسها الشركات الكبرى والتي تؤدي إلى إقامة نشاط مشترك مع الشركة الناشئة التي تنسجم بشكل وثيق مع جدول أعمال الشركة. وهكذا فإنّ أحد عوامل الاختيار بين نهج المجموعة ونهج القمع قد يتمثل في مدى كثرة الأهداف الأساسية للشراكة بين الشركة الكبرى والشركة الناشئة أو قلتها. ومع زيادة تطور حلقات التواصل من أجل الشراكة بين المؤسسات الكبرى والشركات الناشئة، فقد تسعى المؤسسات الكبرى كذلك إلى الجمع بين مزايا المجموعات والأقماع. على سبيل المثال، ربما تقوم حلقة التواصل المعتمدة على القمع بإضافة أحد الأبعاد من نهج المجموعات بشكل انتقائي، مثل مساحة العمل المشترك في منصة يونيليفر فاوندري - المستوى الثالث - في سنغافورة.
إقامة جسور التعاون بين الخارج والداخل
لا تكون حلقة التواصل مع شريك المؤسسة، سواء كانت من خلال نهج القمع أو المجموعة، جيدة إلا بقدر قدرتها على توصيل الشركات الناشئة الخارجية عالية الجودة مع المدراء التنفيذيين داخل المؤسسات الكبرى. وبمجرد إنشاء حلقة التواصل، يجب أن يكون الفريق الذي يدير تلك الوحدة بارعاً في بناء الجسور مع رواد الأعمال في الشركات الناشئة الذين قد تختلف أساليبهم في اتخاذ القرار وتوجهاتهم الاستراتيجية عن المدراء في المؤسسات الكبرى. كما يتعين أن يكون بمقدورهم ربط الشركات الناشئة مع قادة وحدات الأعمال في مؤسساتهم الذين يمتلكون القدرة على تحقيق إمكانية التعاون مع الشركات الناشئة، بيد أنهم قد ينظرون إلى هذا الأمر على أنه نوع من التشتيت. والمشاركة في تحديد فريق الإبداع الداخلي بالمؤسسات الكبرى وربطه بالشركات الناشئة الخارجية ضمن برنامج لتسريع أعمال الشركات، تماماً كما حدث في برنامج إنفينيتي لاب (Infiniti Lab) في هونغ كونغ، قد تساعد في إقامة جسور التعاون بين الشركات الناشئة والشركات الكبرى.
اقرأ أيضاً: عبارة "رائد الأعمال الحكومي" ليست عبارة متناقضة
إجراء تعديلات في حلقات التواصل
يمكن أن يعمل التغيير المستمر إلى تحسين حلقات التواصل باستمرار. في السنة الثانية من برنامج "غرانتس فور آبس" التابع لشركة باير، تم توسيع نطاق المجموعة بحيث يشمل الشركات الناشئة على مستوى العالم وأفكار موظفي الشركات الناشئة. في العام التالي، بذل الكثير من الجهود المتضافرة لربط خبرات الشركات الناشئة بمجالات اهتمام شركة باير. في حالات أخرى، قد تجرى المزيد من التغييرات الجوهرية على حلقات التواصل بين الشركات الناشئة والشركات الكبرى. فقد تحولت شركة مايكروسوفت من برنامج تسريع الأعمال للشركات الناشئة إلى الشركات واسعة النطاق، بحيث لم تعد ترحب بالشركات الناشئة في المرحلة المبكرة ولكن تسعى إلى تعزيز الشركات الناشئة الأكثر نضجاً ورعايتها. وربما تستمر بعض حلقات التواصل في طورها إلى منتهاه. فقد قامت شركة "اس أيه بي" (ساب) مؤخراً بإيقاف برنامجها "اس أيه بي للتركيز على الشركات الناشئة"، حيث دمجته مع برنامج "اس أيه بي بارتنر إيدج" (SAP PartnerEdge)، وهو برنامجها الأفضل لمشاركة للشركاء من جميع الأنواع.
يمكن أن ينتج عن اتباع هذه الدروس حلقات تواصل فعالة تزيد احتمالية تحقيقها لنتائج ناجحة في مجال الشراكة بين المؤسسات والشركات الناشئة، مثلما حدث من تعاون مؤخراً بين شركة كراودز (Crowdz) الناشئة ومقرها وادي السيليكون بالولايات المتحدة الأميركية وبنك باركليز حول إثبات مفهوم الشراكة ذاته في مجال المعاملات عبر الإنترنت بين الشركات وبعضها. كانت هذه الشراكة نتيجة مشاركة تلك الشركة الناشئة في برنامج تسريع الأعمال الذي نظمه فرع بنك باركليز في لندن، وهو جزء من برنامج مستمر متعدد المواقع يعكس جميع الدروس الثلاثة المذكورة آنفاً، والذي تديره مؤسسة تيك ستارز (Techstars) المتخصصة في تنظيم برامج تسريع أعمال الشركات الكبرى.
تكافح الشركات الكبرى بشكل متزايد للاستحواذ على قلوب وعقول أفضل الشركاء من الشركات الناشئة. ويعتبر بناء حلقات تواصل فعالة عاملاً حيوياً نحو تحقيق استراتيجية الفوز في مضمار التعاون بين الشركات.
اقرأ أيضاً: كيف لرائد الأعمال أن يدير مقاومة فريق عمله للتغيير؟