في كثير من الأحيان تواجه الشركات الكبيرة والقديمة انتقادات ليست في محلها، ربما بسبب البطء في تحقيق الابتكار، وهنالك فكرة سائدة حول الشركات الكبرى والابتكار، تتهم هذه الشركات بأنها أقل قدرة على النجاح في ابتكار تقنيات جديدة. ويجادل البعض أنّ هذا يعود إلى أنّ الشركات الراسخة في السوق أقل ميلاً للسعي وراء الأفكار الجديدة كلياً، وأنها تصبح مكتفية بما لديها وغير راغبة في المخاطرة بالنجاح الذي حققته. ويرى آخرون أنّ هذه الشركات الراسخة تحاول الابتكار ولكنها شديدة الالتزام بمنهجياتها القديمة المعتمدة لديها لتحقيق النجاح.
تطوير التقنيات في الشركات الكبرى
أمّا نحن فنقول في البحث الذي أجريناه أنّ ما يمنع الشركات الراسخة من تطوير التقنيات الجديدة لا يتعلق بالتردد في السعي وراء ابتكار التقنيات الجديدة ولا غياب القدرة على التفكير بطرق خلاقة. ولكن المشكلة تكمن أحياناً في الوقت والمكان المختارين للعمل على هذه الابتكارات. فمن جهة نجد أنّ الشركات تميل إلى العمل على ابتكار متميز حين ينخفض الأداء التقني عن التوقعات المأمولة. أما الشركة التي تتفوق على منافسيها فقد لا ترى حاجة في تجربة أمر جديد كلياً، بينما تكون الشركة حريصة عند تراجع أدائها على البحث عن أي ابتكار مميز، خاصة إن كان أداؤها أدنى قليلاً وأقل من التوقعات، وهكذا فإنّ أي كشف جديد مهم سيخرجها من دائرة الخطر ويدفعها نحو التميز من جديد.
من ناحية أخرى، فإنّ محاولات تطوير تقنيات جديدة رائدة ستنجح على الأغلب حين يتم الشروع بها من شركة تتمتع بمكانة قوية أصلاً. إذ تميل الشركات إلى تحقيق أداء أفضل حين تكون لديها إمكانات أفضل، وذلك على مستوى العلماء والمهندسين المتميزين في كادرها، والعمليات الفعالة لتطوير المنتج، والعلامة التجارية القوية، وهذه المزايا على الأغلب لن تستمر وحسب مع مضي الزمن، لكنها ستكون كذلك مفيدة حتى عند السعي لتحقيق ابتكارات جذرية فيها. فكلما ازداد فهمك لإمكانات وقيود التقنية القديمة ستكون فرصتك أفضل في دمج ذلك مع معارف مختلفة لتطوير أمر جديد كلياً.
ولكن عند النظر في هذين الأمرين معاً نجد عدم توافق جوهري بين السعي للابتكارات الجديدة وإمكانية نجاح هذه الابتكارات. قد تكون الشركات شديدة التحمس للوصول إلى تقنيات جديدة جذرياً حين يكون أداؤها متأخراً (نوعاً ما) عن التوقعات، ولكن فرصتها في النجاح في تطوير مثل هذه التقنيات تزداد حين تكون هي الرائدة في مجال التقنية. وهكذا فإنّ الشركات التي تحرص على التوصل إلى تقنيات جديدة حين يتراجع أداؤها عن مستوى التوقعات تكون مبالغة في الاهتمام بالبحث عن الخطوة الكبيرة التالية، أما الشركات التي تقرر الإحجام عن المخاطرة لأن أداءها يفوق التوقعات تكون أقل اهتماماً بتجربة الأمور الجديدة.
وتتناول دراستنا هذه الديناميكية عبر مجموعة ضخمة وطولية من البيانات الخاصة بسلوك المؤسسات في الحصول على براءات الاختراع بين العامين 1980 و1997. وبدأنا بكل براءة اختراع أميركية تم تسجيلها باحثين عن تلك الاختراعات التي تحقق روابطاً جديدة حقاً، بحيث تربط بين جوانب تقنية لم يسبق أن تم الربط في ما بينها إلا نادراً. وعلى سبيل المثال، إنّ كان البحث في مجال توليد الطاقة لم يعتمد عادة على المعرفة المتعلقة بفصل الغازات (وهذا أمر صحيح إلى حد كبير قبل تسعينات القرن الماضي)، فإنّ براءة الاختراع الجديدة المتعلقة باستخدام تقنية فصل الغاز في توليد الطاقة سيُعد رابطاً جديداً غير مسبوق. وبعد ذلك ننظر في ما يلي: أ) ما هي الشركات الأكثر قدرة على التوصل إلى مثل هذه البراءات؟ ب) أي من هذه البراءات "الجذرية" سيترتب عليها أثر كبير؟ ونعني بالأثر هنا أن تكون براءة الاختراع من بين أول 5 في المئة من البراءات الأعلى استشهاداً بها في فئتها التقنية في ذلك العام (وهو مقياس شائع غير تجاري على نجاح براءة الاختراع).
تُظهر النتائج التي توصلنا إليها الدعم الكبير لنظريتنا بخصوص عدم التوافق بين الدافع والقدرة، فالشركات تكون أكثر قدرة على تقديم براءات اختراعات "جذرية" حين يكون أداؤها التقني السابق منخفضاً بشكل طفيف عن التوقعات المأمولة، ولكن هذه البراءات تكون أكثر نجاحاً حين تقدمها شركات ذات أداء يفوق التوقّعات. كما وجدنا أنّ عدم التوافق هذا أكثر وضوحاً في الشركات الكبيرة ذات الإنتاجات التقنية المتعددة، فكلما تعددت الجوانب التقنية التي تُنافس بها، ستكون أشد حرصاً على تجربة أشياء جديدة كلياً في الجوانب التي يكون أداؤك فيها ضعيفاً، وستكون في الوقت ذاته أقل رغبة في المخاطرة بتلك الجوانب التقنية الأكثر نجاحاً.
معوقات الابتكار في الشركات
فما الذين يعنيه كل ذلك؟ إنّ هذا يعني أنّ الشركات الأقوى تحتاج إلى مجابهة التحيزات التي تؤثر سلباً على حماسها في تحقيق الابتكار. وهذا يعني عادة بناء ثقافة ونظام حوافز، حيث تكون التجربة وحتى التعرض للفشل محل تقبل وتشجيع. وبما أنّ الابتكار أمر ينطوي عادة على مخاطرة كبيرة، والتعرض للفشل سيكون وصمة سوداء في سجل الموظف، فإنّ معظم الموظفين في الشركات الناجحة سيحجمون عن الابتكار ويصرفون جهودهم إلى مشاريع خطية لا تنطوي على الكثير من المخاطر. وهذا ما تنبهت إليه شركات كبيرة مثل آبل وجوجل وتصرفت حياله بشكل جيد، إذ كانت مثل هذه الشركات مستعدة للإقدام على المخاطرر وتجربة أمور جديدة مع أنها تحقق مستويات عالية من النجاح، كما أنها وجدت السبل المناسبة للتحفيز على الابتكار بين كادرر الموظفين المميز لديها. ولو لا هذا التشجيع لفضّل الموظفون أن يتجنّبوا مخاطر الإقدام على أي تجربة جديدة.
يعني هذا الأمر من ناحية أخرى أنّ على الشركات الأضعف أداء أن تكون شديدة الحذر. ففي حين يكون لديها ميل للإقدام على مخاطر أكبر، إلّا أنه حري بالإدارة العليا فيها أن تدرك أنّ مثل هذه الجهود سيكون مصيرها الفشل عادة. فالبحث عن الخطوة الكبيرة التالية على أمل وضع حد للأداء المتراجع ليس هو الحل، وما يحتاجه المدراء بدل ذلك هو محاولة معالجة النقص في إمكاناتها الأساسية والذي أدى إلى التراجع الحاصل. فحريّ بالمدراء الاهتمام أولاً بتحديد وحل المشكلات التي أثرت سلباً على أداء الشركة، ثم الطموح بشكل واقعي للتوصل إلى ابتكارات تقنية جديدة.
وأخيراً، توصي الدراسة التي أجريناها توصي بأن يُراجع المدراء كيفية الاستفادة من مصادر الأبحاث والتطوير لديهم في الجوانب التقنية المختلفة. ففي حين يبدو من المعقول تجنب الإقدام على المخاطر في الجوانب التي تحرز فيها أداء جيداً والسعي وراء المكاسب الكبيرة في الجوانب التي تعاني من الضعف، وليس لديك الكثير لتخسره، فإنّ الشركات ستكون أكثر ميلاً على تطوير تقنيات جديدة إن بادرت بتخصيص المزيد من المصادر للجوانب التقنية الأعلى أداء والتقليل منها في الجوانب التي تعاني من بعض الإشكالات.
إنّ دراستنا تُظهر عموماً أنّه في حين تسعى الشركات الكبيرة والراسخة بشكل حثيث للتوصل إلى ابتكارات تقنية جديدة (باعتبار ما لديها من حصة الأسد من براءات الاختراع "الجذرية" التي تربط خطوطاً جديداً بين المجالات التقنية كما أظهرنا في دراستنا)، فإنّ فرصتها في تحقيق النجاح ستكون أكبر في حال سعت نحو هذه التقنيات وهي تحقق أداء قوياً، على خلاف ما سيكون عليه الحال لو كانت تحاول أن تقدم على خطوة كبيرة جديدة في وقت (أو في جانب) تعاني فيه من التراجع.
يقول المثل "لا تحاول إصلاح الصحيح"، ولكن الواقع يقول إنّ السعي لإصلاح الأشياء التي ليست بحاجة للإصلاح هو ما يساعد الشركات الكبرى على الابتكار وعلى زيادة فرصها في البقاء في المقدمة. أما لو انتظرت حتى تقع المشكلة، فقد يكون الوقت قد تأخر كثيراً على إصلاحها.